رصد خان أطماع الإنسان.. رصد الكنز وحارسه

رصد خان أطماع الإنسان.. رصد الكنز وحارسه

العدد 549 صدر بتاريخ 5مارس2018

لعلّ أول ما يثير التساؤل لدى الجمهور الذي شاهد العرض المسرحي “رَصَد خان” لمؤلفه ومخرجه محمد علي - الذي تم تقديمه ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي (زكي طليمات) بالمعهد العالي للفنون المسرحية - هو عنوانه، وإذا كنا بصدد دراسة تحليلية ونقدية لهذا العمل، فلا يجب أن نغفل - بحال من الأحوال - عتبة النص والعرض، بل سنتخذ منها مدخلا للتحليل والتأويل.
فـ”الرَصَد” في الذاكرة الشعبية يعني وضع حارس (جني يحرس المال ويمنع وصول الأشخاص إليه)، أما “الخان” فهو المقطع الثاني من اسم العرض ويعني الفندق أو الحانوت أو المتجر أو الأمير أو الحاكم.
من هنا يمكن الولوج إلى تحليل العمل الفني الذي تدور أحداثه داخل قصر قديم، وهو ما أشار إليه المؤلف بـ”الخان” في عام 1842م، كما أكد على ذلك منذ البداية من خلال مقطع مسجل على لسان رواي “فويس أوفر” يشير إلى أن زمن بعد ثلاثة قرون من عام 1542م، وهو الزمن الذي عاش فيه “ابن غانم” الجد الذي أمضى حياته باحثا عن كنز قارون المدفون تحت قصره، والذي ارتكب خطيئة القتل في سبيل العثور على هذا الكنز وفك الرصد (الحارس له)، والذي فقد حواسه واحدة تلو الأخرى وهو يبحث عن هذا الكنز، في البداية تفتح الستار على ابن غانم ملقى على أرض قصره، يسمع بعض الأصوات الخفية تناديه، وتدريجيا نكتشف أن ما أمامنا هو مجرد شبح وروح ابن غانم المعذبة، وأن هذا القصر تسكنه “سجايا”؛ واحدة من أحفاد ابن غانم، التي تجمع جميع أحفاد ابن غانم داخل القصر في هذه الليلة التي تدور خلالها أحداث العرض، وتنبئهم أن لديهم تركة جدهم ابن غانم، والأحفاد هم مجموعة من الأنماط المجتمعية المتباينة، فمنهم: العالم والنخاس “صالحين”، والبلطجي “سنمار”، والمومس “ديما”، والمتسول “شحات”، والبكباشي/ الرجل بالزي العسكري.
في البداية يلقي المؤلف/ المخرج بجميع شخصياته مرة واحدة على المسرح، ثم يبدأ في عملية الكشف تدريجيا على طول العرض، ويتأزم الصراع ليكتشف الأبطال أنهم جميعا محبوسون داخل هذا القصر، وأن باب الخروج قد أغلق عليهم بجدارية منقوش عليها بعض النقوش الفرعونية، التي تنبئ أن الكنز مدفون في الأرض الخامسة، وكلما قُتل أحدهم ارتقى الكنز درجة حتى يصل إلى الأرض الأولى، وهذه اللحظة تعد ذروة الحدث الدرامي وتحيك “سجايا” المؤامرة لتقتل الجميع أملا في أن تفوز بالكنز، إلا أنها تتحول إلى ذات معذبة كجدها ابن غانم الذي فقد حواسه واحدة تلو الأخرى.
اعتمد المخرج على تكنيك «الفوتومونتاج» مكثفا في اتجاه فكرته، ممسكا بجميع خيوطه الدرامية ذات الحكبة المركبة واعيا بشكل كبير بمفاتيح الدراما التي تكشف للمتلقي أبعاد الصراع دونما خلل، فهو يدرك متى وعلى لسان مَنْ من شخصياته يلقي بالبذرة التي تؤدي إلى تأزم الصراع داخل الحبكة، عبر إيقاع متناغم متزايد وفقا لتطور الحدث على طول العرض، فالإيقاع العام للعرض بدأ بطيئا وكذلك تصاعد الحدث دراميا، ثم أخذ يتزايد تدريجيا كلما ازدادت الأزمة، ليخلق تأثيرا واضحا على المتلقي يضعه في حالة من التوتر والترقب جراء ما يحدث.
ارتكز المؤلف/ المخرج في بنائه الدرامي على ما يعرف بـ”البنية الدرامية الدائرية”، فما حدث لابن غانم هو نفسه ما يحدث لـ”سجايا”، ويحدث لكل من كانت خطيئتهم الطمع، التي تدفع بالإنسان لارتكاب الخطيئة الأولى وهي “القتل”، معتمدا على خطين دراميين متوازيين؛ الأول هو الصراع الذي يدور بين الشخصيات، والثاني عن روح ابن غانم المعذبة التي تظهر بعد كل جريمة قتل لتفقد إحدى حواسها.
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون
متخذا من قصة قارون وكنزه والمستمدة من الموروث الديني بكل ما تحمله من دلالات عن شخصية قارون، وهو الشديد التباهي بعلمه وماله وهي خطيئته الكبرى ركيزة تثير خيال المتلقي لحجم هذا الكنز الموجود تحت الذي يدور حوله الصراع.
وإن كان الخط الدرامي المتمثل في “ابن غانم” الجد لم يكن على نفس الانضباط الذي يسير عليه الخط الأول، فقد بدا فقيرا وزائدا في بعض الأحيان، فهو في عالم آخر غير الواقع الذي تعيش فيه بقية الشخصيات، لا يضيف كثيرا للصراع داخل الدراما، إلا أنه وللإنصاف يحدث حالة غرائبية تلائم الجو العام لطبيعة العرض.
ورغم ثبات الصورة على مستوى الديكور، فإن الإضاءة بتركيزاتها وألوانها المتباينة استطاعت أن تحقق تنويعا جماليا بإضاءات متباينة خلفية وجانبية وأمامية لها دلالاتها المعبرة عن اللحظة الدرامية، بالإضافة للكتل الديكور التي تعبر عن أثاث المكان كالصالون المذهب والبار والمكتبة.. إلخ.
أما الممثلون فقد استطاعوا تحقيق تقمص أدوارهم وشخصياتهم وأبعادها، فلم يكن الأداء زائدا رغم صعوبة الموقف والاختبار الذي تتعرض له الشخصيات، ولم يكن أقل، بل بدا التمثيل تلقائيا إلى حد كبير دون افتعال، لا سيما في لحظات البوح بعد أن سكروا جميعا بالخمر الموجود داخل القصر، بعد نفاد الماء والزاد، وهو مبرر قوي لدفع جميع الشخصيات لشرب الخمر حتى سكروا وباحوا بما في صدورهم، فكانت مونولوجات البوح مساحة جيدة لترسيخ تاريخ لكل شخصية لدى المتلقي، ووفق المخرج كثيرا في اختيار عناصره من حيث البعد الجسماني لكل شخصية.
ولا يمكن أن نغفل الأداء الحركي والتعبيري الذي كان معبرا عن لحظات درامية مفصلية، مثل اللحظة التي منحت فيها “ديما” جسدها لـ”شحات” في مقابل أن يعطيها الورقة التي تحمل سر الكنز، فقد استخدم الكيروجرفر تشكيلات جسدية بسيطة ومنضبطة وموحية لهذه اللحظة الجنسية دونما تجاوز إباحي، أو تسطيح مخل.
أما خطوط الحركة للممثلين والتشكيلات الجماعية، فكانت متناغمة ومعبرة عن الشخصيات والعلاقات بينهما.
جشع النفس هو حارس الكنز
إن كان الصراع البارز في العرض هو الصراع على الكنز، إلا أنه في باطنه يعبر عن صراع مستمر بين أفكار هذه الشخصيات التي تبحث عن رغباتها مسقطا على مجتمع تديره رغباته وجردت ذاته، واستفحل جشعه الذي هو بمثابة الحارس على كنزه، فأزمة ابن غانم شغفه بالمعرفة فمارس السحر الأسود، وكذلك نسله على اختلافهم وتباينهم كمجموعة من الأنماط المجتمعية، وقد انتقلت هذه الذات الجشعة من الجد للأبناء
 


عماد علواني