مترو.. بدايات جيدة ونهايات صادمة

مترو.. بدايات جيدة ونهايات صادمة

العدد 586 صدر بتاريخ 19نوفمبر2018

بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت آليات التعبير لدى المسرحيين في العالم وظهر هذا جليا في اتجاهات المسرح الوجودي والبريختي الملحمي وكذا المسرح الطقسي، إلى أن وصلنا إلى المسرح الانتقائي متعدد الأساليب الذي ساد في الثلث الأخير من القرن العشرين، تلك الاتجاهات مجتمعة حاولت التعبير عن قضايا جديدة فرضتها المتغيرات الحضارية منها الاغتراب والشعور بالعزلة.. تلك القضية ذاتها حاول العمل المسرحي (مترو) أن يعالجها في صياغة مغايرة تعكس تصورا معاصرا لما يعانية الفرد داخل مجتمعنا في ظل تلك الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الآنية. مؤلف العمل محمد فضل صاغ نصه تبعا لفكرة مخرج العمل عادل رأفت وبعيدا عن الدخول في إشكاليات تحديد المصطلحات الخاصة بصناع العمل (فكرة – تأليف) فإن العالم الذي قدمه لنا صناع العمل يظل هو الإشكالية الأهم لهذا العرض المسرحي.. فقد نجح المؤلف في اختيار العالم الذي يعبر عن تلك الفكرة من خلال محطة مترو تحت الأرض مجهولة المكان ونجح في إسقاط عامل الزمن في عقده المبدئي مع المتلقي مع أول لحظات العمل في إشارة لعمومية الفكرة مع إشراك المتلقي في بقية معطايات العمل الضمنية مثل أن الأحداث داخل مدينة القاهرة وأنها في اللحظة الآنية ليضع المتلقي منذ اللحظة الأولى في المعادلة ويجعله مشاركا أبطال العمل وجدانيا في معاناتهم.
الطرح المقدم لشاب طموح تقهره الظروف الاقتصادية وتجعله غير قادر على الزواج بالإضافة لقهر السلطة الأعلى له والمشار إليها بذلك المدير الثري الذي لا يشعر بمدى معاناة (يحيى – أحمد خالد) الذي قادته ظروف تعطل المترو للنزول في تلك المحطة المجهولة أثناء ذهابه للعمل بعد أن تعطل تليفونه المحمول وانقطع اتصاله بالعالم الخارجي. على الجانب الآخر تلك الفتاة (شريهان قطب) التي قاست مرارة الانفصال عن خطيبها دون مبررات مقنعة من وجهة نظرها لتصبح غير قادرة على مواجهة المجتمع، وينتظر كل منهما المترو القادم الذي لا يأتي مع كل أمل من الإذاعة الداخلية بأن القطار قادم وهي متكررة على مدار العمل، ينتهي هذا الإعلان في كل مرة بخبر عن حالة الطقس غير مكتمل نتيجة تحول المذيع الداخلي لكلمات كوميدية ساخرة يفهم منها انشغاله بشأنه الخاص من طلب إفطار إلى كوب ماء.. إلخ. تلك الإشارة المتكررة بهذا الشكل العبثي تحيلنا إلى الإعلام ودوره في بث آمال قد لا تتحقق لعدم إيمان أفراد هذا الإعلام أنفسهم بما يروجون له.. تلك اللحظة من العزلة وتكشف الشخصيتين الأساسيتين في العمل تنتهي بتقاربهما عاطفيا إلا أنها تتفجر عن أزمة التذكرة الخاصة بكل منهما وفقدانها بعد أن وجدت البنت تذكرة في أرض المحطة ليتصارع الاثنان على أحقية كل منهما في ملكيتها.. هنا يطرح النص قضاياه في سهولة وبساطة على مستوى الفكرة والحدث واتساق كامل مع مجتمع النص ومعطياته، فالحلم أصبح فرديا حتى على مستوى العشاق والنجاة من هذا الواقع ومحاولة الوصول إلى الغد المرجو لا تحتمل الشراكة، وغلبت الفردية والأنا على كل ما عداها من قيم.. إلا أن النصف الثاني من العمل نفاجأ بشخصيتين داخل المترو موجودتين منذ البداية ولكن تم تحييدهما طوال الوقت بانشغالهما في قراءة الجرائد أحدهما أبكم وهنا تكمن الإشكالية فلم تنجح المبررات الدرامية التي صاغها الكاتب في التأسيس لوجودهما وأصبح وجودهما مصطنعا ويمثل ثقلا على الدراما والقالب الدرامي الذي اختاره المؤلف للعمل، وبعد أن كان الطرح متسقا مع البناء الدارمي جاءت شخصية (العجوز – خالد شرشابي) بحلول مباشرة للحب وتذاكر للمستقبل محملة بالتسامح والعاطفة في تحول إنشائي للدراما أطاح بكثير من المتعة التي صدرها الكاتب في بداية طرحه لقضيته.
أما على مستوى الإخراج، فالتصور الذي قدمه المخرج (عادل رأفت) جاء تقليديا خاليا من استغلال طموح الفكرة المطروحة، فعلى مستوى التشكيل جاء ديكور (أحمد سيد) واقعيا بهذا التشكيل التقليدي لمحطة مترو تحت الأرض في كل تفصيلها المعروفة للمتلقي دون البحث عن تصور يجسد تلك الحالة العبثية للشكل المطروح على مستوى النص منفذا متطلبات الدراما فقط بالخروج عن المألوف بتلك الساعة التي بلا عقارب.
التفصيلة التشكيلية الوحيدة التي خرجت عن الإطار التقليدي هي تلك الدمى التي وزعها على جانبي وعمق المسرح كأفراد تنتظر وصول القطار في ملابس متنوعة يشتركون جميعا في سماعات الأذن التي فصلتهم عن الواقع وجعلتهم يسمعون أشياء تخصهم، مؤكدا على فكرة العزلة.  أما الملابس التي صممتها شاهندا أحمد جاءت دالة على المستوى الطبقي للشخصيات الرئيسية ولم تؤدِ دورا دلاليا، أما الشخصيات الأخرى فجنحت لتقديمهم في شكل غير تقليدي ليس لهدف دلالي، ولكن نتيجة لعدم وجود مبرر درامي يستدعي وجودهم أو علاقة هامة بالشخصيات الأخرى سوى تلك الإشارة على لسان الفتاة أن العجوز كان حصن الأمان لها في زحمة الشارع وهو الذي قادها لعبور الطريق بأمان في إشارة للخبرة وأهل الخير.
الإضاءة كانت في مواقع كثيرة تحاول التعبير اللوني عن اللحظة الدرامية إلا أن هذا كان خارج سياق القالب الفني المقدم كما كان التنفيذ مفاجئا وصادما دون مبرر.
على مستوى الحركة اعتمد المخرج على الخطوط البسيطة واكتفى بتأثير الكلمة إلا أنه كسر بحركته ذلك الإطار التشكيلي بعزلة شخصياته بنزول يحيى إلى الصالة عابرا قضبان المترو الفاصلة بين المتلقي والخشبة ليقع حركيا في نفس إشكالية الدراما التي لجأت للحلول المباشرة للتعبير عن فكرتها.. كما جاء استبدال الدمى بالبشر في نهاية العمل دون مبرر وصادما عصف بالفكرة من وجودهم كدمى حتى لو كان المبرر هو انفتاح أبطاله على الآخر نتيجة لاكتشافهم الحل، فكرث بهذا للشكل المباشر التلقيني في الطرح وأفقد اللحظة الدرامية سحرها ومتعتها.. كما جاء الأداء الحركي لمصمم الاستعراضات حمد إبراهيم بسيطا غير متكلف وساهم في الثراء البصري للعمل.
بشكل عام مترو تجربة رغم كل ما تم طرحه لشباب واعد يمتلك أدواته في كل عناصر العمل وخطوة هامة تبشر بمستقبل واعد لهم جميعا إذا ما حاولوا تخطي أخطاء البدايات.


طارق مرسى