تحولات الجمهور من مجتمع الحشد إلى جماعات المعنى

تحولات الجمهور من مجتمع الحشد إلى جماعات المعنى

العدد 583 صدر بتاريخ 29أكتوبر2018

[ علينا أن نضع أنفسـنا فى إطار هذه البراديغما الجديدة، كى نتمكّن من تسمية الفاعلين الجدد والصراعات الجديدة، والصورة المكوّنة عن الأنا والجماعات، تلك التى تجلوها نظرة جديدة تبســــــط أمام أنظارنا مشهدا جديدا.] ص 14
 (آلان تورين- براديجما جديدة لعالم اليوم)  

إلى الآن، لم نزل نعتقد بأن الإقبال الجماهير الغفير- أوعودة الجمهور الغفير إلى المسرح- هو مقياس الإزدهار المسرحى. إلى الآن لم نزل نتحدث عن جمهور المسرح قياسا إلى جمهور الستينيات، باعتباره النموذج الواجب توافره فى الوضع المسرحى الأمثل.
ولم يزل البعض يتحدثون عن أن عودة المسرح المدرسى، واهتمام الدولة بالمسرح... إلخ، هو الكفيل الوحيد بإعادة إنتاج الجمهور الستينى.
مانلاحظه على الخطاب أوالخطابات السائدة بهذا الشأن، هو أنها تصاغ عادة بلغة إجتماعية لا بلغة ثقافية، أى أن البراديغما الإجتماعية (النموذج المعرفى- الحداثى)، لم يزل هو المرجعية التى يصدر عنها الجميع، هذا فى الوقت الذى باتت فيه المقولات الإجتماعية مبهمة [إذ تترك فى الظل قسما كبيرا من تجربتنا المعاشة]. تورين- ص 13.
لقد سقطت الأيديولوجيات الكبرى. وإلى جانب عوامل أخرى عديدة- سيرد الحديث عنها وشيكا- تراجع التعميم الإستعارى القسرى القديم، إذ لم يعد هناك من معنى كلى يتعاطاه الجميع، وبذا تمزقت المجتمعات وتوزع كل مجتمع إلى جماعات عديدة يلتف كل منها حول معنى ما، فانتفت الإشتراطات الداعية لوجود الإستعارة الكبرى التى كان يتم إدماج الجميع بها، وأصبح الجمهور حرا فى اختياراته. من هنا كان تحول المسرح إلى «مسرح جماعات معنى»؛ تلك التى تذهب طوعا إلى المسرح لإشباع حاجات خاصة بها، دون أن يمنع هذا التحول الكيفى، والمفصلى، من تداخل تلك الجماعات، واحتشادها فى بعض المناسبات كالمهرجانات وغيرها.
يقول (تورين): [بعد زوال المجتمعات كأنظمة متكاملة تحمل معنى عاما يجرى تحديده بمصطلحات الإنتاج والدلالة والتأويل...]، نجد [أزمة الأفراد الرازحين تحت وطأة المشاكل التى باتوا لايجدون مايعينهم على حلها لا فى المؤسسات المدنية ولا القانونية ولا الدينية.] ص 16، وبذا يصير من العسف الإعتقاد باستطاعة المسرح تقديم أى عون لهم، ذلك لأن المسرح، فى نهاية الأمر، جزء لا يتجزَّء من تلك الأوضاع مجتمعة.
ويقرر (تورين) أيضا، بأن هناك براديغما نتصوَّر إنطلاقا منها الحياة الجماعية والشخصية. ويضيف: [إننا نخرج من العصر الذى كان يتم فيه تفسير كل شئ والتعبير عنه بمصطلحات إجتماعية، وعلينا أن نحدد المصطلحات الملائمة لصياغة هذه البراديغما الجديدة التى نلمس جدتها فى هذه الحياة الجماعية والشخصية.] ص 17.
سأحاول هنا فتح هذا الملف، تواصلا مع المرجعية البراديغمية الجديدة المتنامية.

المسرح والفن السائد:
بادئ ذى بدء، المسرح فن قديم، غير أن علينا أن نعترف بأنه لم يعد هو الفن السائد كما كان الشأن من قبل، هذا علما بأن [الفن السائد هو فن الفنون، أى الذى يملك القدرة على إدماج وتشكيل الفنون الأخرى على صورته]، نعم، المسرح لم يعد هو الفن الذى يفرض سلطته الجمالية على الفنون الأخرى، لذا يخضع الأن- مثل غيره من الفنون- لإشتراطات الفن السائد فى عصرنا؛ الذى هو [الفن المتصل أفضل بالتطور العلمى والتقنيات الرفيعة؛ ذلك الذى يحقق الوحدة الوثيقة بين المتعاصرين بالتركيب بين المعانى أكثر ويفتح المجال الفيزيقى للإحساسات الممكنة إلى حده الأقصى؛ وذلك المنسجم أفضل إنسجام مع المجال الوسائطى المحيط وبالأخص مع وسائل نقلها.] (ريجيس دوبرى- حياة الصورة وموتها- ص220). وهو مانراه بوضوح فى عروض مسرح الصورة المستند إلى (الوسائط المتعددة)، هذا بالإضافة إلى أننا نحيا أيضا فى عصر ازدهار السرديات؛ (فنون الحكى، أوالسرد، كما تتبدّى فى الرواية وغيرها)، وهو ما نراه أيضا فى كثير من العروض المسرحية الراهنة.
 لكن، الفن السائد، بينما يعيد تشكيل الفنون الأخرى على صورته؛ (أى بقدر ما يعيد صياغة القوانين الجمالية الحاكمة لتلك الفنون)، فإنما يعيد أيضا ترسيم علاقاتها بالمجتمع، وفقا لإشتراطاته التى عادة ما ترتبط بالمتغيرات الحاكمة اللحظة التاريخية ككل.
من هنا نجد أنفسنا أمام سؤالين محوريين:
الأول: ما الذى تغير فى المسرح؟.
الثانى: ما الأثر الذى تركه هذا التغير على علاقة المسرح بالمجتمع ممثلا فى الجمهور؟.
وإجمالا، إمتثال المسرح للفن السائد، حتّم عليه إعادة صياغة جميع العناصر المكونة له، حتى أنه تحوَّل عن (الدرامية)- المرادفة له، والتى احتلت جوهره دائما- إلى ما بعدها. لذا يعد غريبا حقا ألاَّ يعاد تعريف (جمهور المسرح) أيضا.
الجمهور و(مجتمع الحشد):
فى تعريفه (للجمهور)، يقول كتاب (مفاتيح إصطلاحية جديدة- معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع): [تمحور التعريف الإصطلاحى الخاص بـ (الجمهور Audience)، بدءا من القرن الرابع عشر، حول (الإستماع)]، وفى القرنين السابع عشر والثامن عشر اقترنت كلمة (الجمهور) بفكرة [مجموعة من الناس هم مستهلكو فعل إتصالى من نوع ما.]، وفى هذا الإستعمال للكلمة [يشير الجمهور إلى أولئك الحاضرين، جسديا وجمعيا، فى المكان نفسه، كمخاطبين تتوجه إليهم الموعظة أوالكلمة أوالإنتاج المسرحى...] ص 255.
وبالطبع هناك تعريفات أخرى، ترتبط بمستهلكى الكتاب المطبوع [المتفرق ليس فقط فى المكان، بل عبر الزمان أيضا] ص 256، وأخرى ترتبط بالصحيفة اليومية، فانبثاقها [خلق حِسَّا أوسع بالجماعة وحسَّا بزمان تاريخى أرضى مشترك جماعيا.]، كما قدمت الإشكال الجديدة من البث، مثل المذياع والتلفاز بعدا جديدا آخر، [باعتبار أن جمهورها صار يستهلك الآن الرسائل نفسها فى الوقت نفسه تماما.]، [وأدّى تنظيم جداول البث دورا مهما فى خلق حسّ موحَّد بـ «الحياة المشتركة» عند الجمهور القومى فى القرن العشرين.] ص 256.
ويضيف المعجم: [فى بريطانيا العظمى، كان لدى المدير العام الأول «لهيئة الإذاعة البريطانية» BBC، لورد ريث، كهدف معلن فكرة أن تعمل الإذاعة البريطانية على جمع عوائل الأمة كلها فى وحدة رمزية «للعائلة القومية». ومن الواضح، فى البيئة متعددة القنوات فى الوقت الحاضر، التى تعرض أشكالا متعددة من البث الفضائى والإذعة العابرة للقوميات، أن الجمهور التقليدى لأنظمة البث القومية قد تشظى وتفرق...] ص 256.
أما مصطلح (الحشد Mass)، فيشير، من الناحية الوصفية، إلى [كيان جوهرى، مثل حشد كبير من المادة، أو عدد كبير من الأشخاص تجمعوا معا.]، غير أنه يمتلك أيضا بعدا تقييميا قويا [إذ تنطوى أكثر الإستعمالات فى الجوهر على فكرة أن طريقة الإنخراط فى حشد تعنى فقدان الفردية...] ص 295.
هذا والحديث عن نشأة مجتمع الحشد يعنى [الإشارة إلى العمليات الأساسية فى نشأة مجتمع الحداثة. وكل السمات المكوِّنة لما صار يُفهَم بأنه «تحشيد»- كالتعمير والتصنيع وإضفاء الطابعين التجارى والمعيارى- هى مركزية فى انبثاق ثقافة الحشد فى الحداثة.] ص 296.

ثقافة التحشيد الرأسمالى:
يقول المعجم: [عند تقليد طويل من النقاد الثقافيين فى المملكة المتحدة يمتد بدءا من ماثيو آرنولد فصاعدا، كان التحشيد يعنى أن التراث «المنتقى» لثقافة النخبة صارت تغلبه الأشكال المصنّعة ذات الطابع المعيارى من الإنتاج الثقافى الذى حققه التصنيع. هكذا كان يُنظر إلى التجارة باعتبارها تغزو عوالم الفن والثقافة، وتستبدل أنماط الإبداع ذات الطابع الفردى والفنى بأنماط تكرارية من إنتاج التحشيد من البضائع الثقافية ذات الصفة المعيارية. إذاً فقد كان التسويق الذكى يموِّه على المشابهة الجوهرية لهذه السلع وحسب، ولهذا أنتج أثرا سطحيا من الجدة الأبدية من خلال عملية سماها تيودور أدرنو وماكس هوركهايمر بـ (التفريد الزائف) لثقافة نتاجات الصيغ الجاهزة فى الجوهر. وهكذا صار يُنظر إلى تسليع ثقافة الحشد بوصفه إفسادا.] ص 296.
المعجم هنا يشير إلى الأثر المباشر الذى تركه التقدم التكنولوجى فى المجتمعات الرأسمالية  على الإبداعات الثقافية الفردية. ففى إطار عملية التصنيع التحشيدى الحداثى، حوَّلت الرأسمالية الإبداعات الفنية إلى منتجات أو بضائع؛ هى نُسَخ مكررة من العمل الفنى الأصلى. يقول (ولتر بنيامين، فى مقاله الشهير «العمل الفنى فى عصر إعادة إنتاجه تقنيا»): [إن نشأة الفنون الجميلة وتبلور أنماطها المختلفة يعودان إلى زمن مختلف جذرياً عن زمننا نحن، وإلى أناس كانت طاقتهم كامنة في الأشياء وفي الظروف المحيطة بها، مقارنة بطاقتنا نحن. غير أن النقلة المثيرة للدهشة، والتي أحدثتها وسائلنا من خلال قدرتها على التكيف ودقتها، جعلتنا نتوقع في المدى القريب حدوث تغييرات جذرية في عملية خلق الجمال في العصور القديمة. إن في شتى الفنون جانباً مادياً لم يعد بالإمكان الوقوف عنده ولا النظر إليه ملياً كما كان في السابق؛ حيث إن هذا الجانب لم يعد بإمكانه التحرر من وطأة تأثيرات العلوم النظرية والتطبيقية الحديثة. إنه لا المادة ولا المكان ولا الزمان منذ عشرين سنة (قياسا إلى زمن كتابة المقال)، هي نفسها المادة والمكان والزمان منذ القدم. وعليه يجب الإقرار بأن مثل هذه الابتكارات الكبيرة هي التي تقوم بتغيير مجمل تقنية الفنون، وبهذا تكون قد طغت على الحالة الإبداعية نفسها، لتصل ربما في نهاية المطاف إلى تغيير مفهوم الفن نفسه...].
ما يقال عن المجتمع الغربى بهذا الصدد ينطبق الآن على المجتمع المصرى، فإذا كان التحشيد الستينى لدينا قد ارتبط بالتصنيع والتعمير، فإضفاء الطابع الجماهيرى على المشروعات القومية التى أنجزتها الدولة فى تلك الحقبة، (مع وضع المكتسبات الشعبية الحقيقية فى الإعتبار)، يعود فى الأساس إلى أن (وسائل الإعلام والتعليم والمؤسسات الثقافية عامة...) لعبت دور (الأجهزة الأيديولوجية للدولة)، مما أتاح لها إمكانية الهيمنة الأيديولوجية الكاملة على المجتمع.
هذا وقد استأثر المسرح- ومعه السينما- بنصيب وافر من اهتمام الدولة بصناعة (الإستعارة المُعَمَّمة- الممثلة للنظام)- حتى أن المجتمع كله كان يتعاطى فى إنتاجه الفنى قاطبة مع مجموعة محددة من الرموز تتمحور حول (تحالف قوى الشعب العاملة)؛ وقد بلغ هذا المنحى حدَّ أن تحول معه المجتمع المصرى، هو نفسه، إلى (عرض- إستعارى ممسرح)، إذ أراد له صانعوه أن يراه العالم أجمع كملحمة نضالية هائلة.
وكمثال على ماسبق، إستلهام أشكال الفرجة الشعبية والنهل العام من التراث الشعبى، فى الستينيات، وعلى الرغم من أنه أتى فى إطار محاولات تجذير (مسرح ما بعد الإستعمار) فى التربة الثقافية المصرية، وربطه بالتقاليد الفنية المصرية، إلا أنه كان أحد الوسائل التى تم إقرارها (سياسيا)، لـ (تحشيد) الجماهير. هكذا؛ إذ كانت إحدى الوسائل البلاغية «الإقناعية» التى استندت إليها تلك الحقبة، فى التعميم الإستعارى لخطابها الأيديولوجى.
من هنا يمكن لنا أن نفهم كيف أن الإقبال الجماهيرى على المسرح فى الستينيات، كان  نتاجا لسياسات إستراتيجية متعلقة بالتحشيد.
والآن امتدت ثقافة التحشيد الرأسمالى، المتعلقة بالنسخ المتكرر للعمل الفنى الأصلى، لتطال المجتمع المصرى المعاصر بل والعالم كله تقريبا.

مبدأ التمثيل وجماليات الحشد:
فى دراسات سابقة أشرت كثيرا، إلى أن (مبدأ التمثيل- الذى يعد التمثيل المسرحى بل والعرض المسرحى برمته جزءا منه) تحول الآن إلى مشكلة- بفعل التطور التقنى الهائل- إذ أطاح بـ (مبدأ الواقع) الذى هو عماد الإستعارة المسرحية برمتها، والذى بدونه ينتفى وجود النوع المسرحى، (نظرا لأن الإيهام المسرحى، إيهام بالواقع اللازم لبناء الإستعارة المسرحية، ومن ثم المعنى)؛ أى أن التباس الواقع الذى يوهمنا به العرض المسرحى، يفضى إلى التباس المعنى الإستعارى التى ينطوى عليها العرض.
الإشكالية هنا، تعود إلى أن اللغة؛ التى تتجذّر فيها الدراما (باعتبارها- أى الدراما- إحدى نتاجات تحول اللغة إلى مشكلة، فى أعقاب إنفصام الوحدة بين الدال والمدلول، أى بين نظام اللغة ونظام الإشياء)، تلك اللغة (التى هى بيت الوجود أوالحاملة للوعى)، هى التى تتضمَّن (الواقع- بما هو ما نتواضع عليه ثقافيا)، هذا الواقع هو نفسه مانطلق عليه إصطلاح (المضمون- بماهو مجموع التصورات المتعلقة بما نحياه)، وبذا يصير بدهيا الإنتهاء إلى أن (الواقع والمضمون)- وفقا لما سبق- هما (السياق- الداخلى للأحدث).
هذا المنحى، يعنى أن النص الدرامى، ومن ثم العرض المسرحى، يتضمن بداخله (الواقع) الذى تحيل إليه الإستعارة المسرحية، ومن هنا يصير إدراك المعنى ممكنا (بغض النظر عن الواقع الخارجى ذاته).
لكن التواصل مع العرض المسرحى، فى ظل الواقع الخارجى الملتبس، يضع العرض برمته داخل لحظة حاضرة نجردة ومعزولة عن الحاضر الإجتماعى.
من هنا كان لـ (موت الواقع، كما يذهب بودريار وريجيس دوبرى، أوتعدد الواقع، كما يذهب جيجيك)؛ بفعل ظهور الواقع الإفتراضى والواقع الفائق أوالمعزز، أثره البالغ على (مبدأ التمثيل)؛ إذ حوَّل (المعنى) إلى مشكلة، صارت معها العلاقة بين (المسرح والمجتمع) إشكالية بما لا يوصف.
وبطبيعة الحال، لن أعيد قول ما قيل من قبل، لكننى سأتوقف قليلا أمام بعض العبارات المضيئة لأحد أهم أبعاد اللحظة التاريخية التى نحياها الآن.
يقول (دوبرى): [كل مجال وسائطى ينتج معايير الإعتقاد فى الواقع...] ص 289، ويقول أيضا: [اليوم غدا واقعنا رؤية وسائطية للعالم، أى جهازا يتحكم فينا وله قوة تكوينية عالمية.] ص 292.
فإذا كان الواقع هو ما نعتقد أنه كذلك؛ إذ هو (مواضعة ثقافية)، فالثقافة المتعددة الوسائط، التى نحيا فى إطارها، هى التى تمدنا الآن بما نعتقد أنه الواقع، وكما أشرت، فالواقع (نظرا لموته أو لتعدده) صار إشكاليا.
تلك الوضعية الجديدة التى صارت فيها (الصورة هى العالم)، تعنى أن المرجعيات الثقافية القديمة، التى كانت ترى بأن (اللغة هى العالم)، وظلت تصنع المعنى للمجتمعات طوال التاريخ السابق على اللحظة التاريخية الراهنة، تراجعت الآن عن دورها السابق، وإن كانت لا تزال تتحكّم فينا، لإستحالة وجود صورة دالة بدون لغة، وما حدث، على ما يبدو، هو أن اللغة صارت تعمل فى الخفاء، فى الذهن الفردى الصامت، السابق على وجود الصورة. غير أن هذا، كما أشرت، يضع (مبدأ التمثيل) فى موضع سؤال جوهرى، فإذا كان كل (تمثيل) هو تمثيل لشئ ما، مشترك وعام بالضرورة- (فما الذى يمثله المسرح الراهن تحديدا؟).

الذات والتمثيل:
فى إبريل عام 1991، كتب الشاعر (عبد المعطى حجازى) مقالا إفتتاحيا فى مجلة إبداع المصرية، تناول فيه ظاهرة، كانت جديدة على الثقافة المصرية آنذاك، ألا وهى (قفز بعض القرَّاء على مقاعد الكُتَّاب). إذ لاحظ أن القُرَّاء صاروا يكتبون منتحلين هوية ليست لهم!.
وفى نفس العدد من المجلة المشار إليها، كتب الدكتور فؤاد زكريا مقالا آخر، هاجم فيه (طلاب الجامعات الذين تظاهروا ضد صدام حسين، باعتباره ممثلا للتنوير، ضد الزحف الدينى الإيرانى).
بيد أنه يمكن النظر إلى الحراك الثقافى من قِبَل القُرَّاء- الكَتَبَة، والحراك السياسى من قِبَل الطلاب- الثوار، وكذلك الحراك المماثل فى المجالات الأخرى، ومنها المسرح، باعتباره ظاهرة واحدة متعددة المستويات.
وبغض النظر عن نوعية الدوافع المباشرة الداعية لكل حراك على حدة، وموقفنا منها، فالحراك ذاته- يعد بمثابة الشرارة الأولى المضادة لبراديغما الحداثة العربية، وبالإمكان إيجاز فحوى تلك الظاهرة فى الآتى:
لم يعد القارئ يرضى بما يقدمه الكاتب، لم يعد يعثر فيما يقدمه الكُتّاب على الدرجة الكافية من الإشباع الثقافى... لذا راح ينتج لنفسه بنفسه ما يتصوّر أنه الثقافة التى يحتاج إليها، غير عابئ بموقف (السلطة الأدبية) منه. هذا الموقف- الذى اتخذه القارئ- معاد فى حقيقته للنظام الجمالى المعيارى السائد، المعتمد مؤسسيا. وبذا، فالموقف يشير إلى وجود مسافة فاصلة بين النظام الجمالى والقُرَّاء، أوقطاع منهم على الأقل، ظل يتنامى ويستفحل بمرور الزمن (باعتبارهم مستهلكى النتاجات الجمالية).
وسنلاحظ أن (حجازى) فى مقاله ذاك، وفى قيامه بقهر (القارئ المنتحِل لهوية الكاتب)، يمثل (السلطة الأدبية- الراعية للمعيار الجمالى المؤسسى).
أما (فؤاد زكريا)، ففى مقاله، يربط بين موقفه السياسى المنبنى على (العقل والتنوير)، و(رفضه أوإدانته لتظاهرات الطلاب). هكذا، دون أن يتساءل عن منظور الطلاب للنُّخَب العربية الحاكمة؛ المُخَلِّصين الوهميين، الدجالين التاريخيين العظام!؛ الذين اضاعوا أنفسهم وأضاعوا شعوبهم معهم- ألم تكن الأيديولوجيا التى أتت بهم إلينا محمولين على ظهور أساطير المستبد العادل والمهدى المنتظر والمُخَلِّص... إلخ، هى نفسها التى نادى بها تنويريونا العظام؟، ألم تدعونا تلك الأيديولوجيا وعبر أكثر من قرن من التنوير إلى الإنضواء تحت لواء زعامات مُلهَمة، كصدام حسين وغيره؟.
لاشك أنه خطاب سلطوى قمعى، يحوُل دون الشعوب ومباشرة حقوقهم السياسية فى التعبير الحر عن مواقفهم.
ما يعنينى مما سبق، هو فشل (البراديغما الإجتماعية الحداثية العربية)، فى رصد المسافة الزمنية الفاصلة بينها وبين الجماهير التى كانت تتأهب للدخول فى لحظة تاريخية أخرى، بينما تتحدث بلغة ثقافية مغايرة للغة الإجتماعية المؤسسية السائدة.
وما يمكن قوله الآن، بعدما صرنا جزءا من العالم، بفعل العولمة والفضاءات المفتوحة... إلخ، هو أن هناك ميل عام نحو تحويل كل الأشياء، بما فى ذلك البشر أنفسهم، إلى صور. وهو ما نلاحظه فى شيوع الرغبة فى (التمثيل) عند كثير من الناس؛ (ويتبدى هذا بوضوح سافر- فى مصر على سبيل المثال- فى الزيادة الهائلة فى عدد الفِرَق ومن ثم العروض المسرحية، وكذلك فى عدد ورش التمثيل الخاصة بإعداد الممثل، تلبية لمطالب الراغبين فى التمثيل).
وإذا كانت الرغبة فى المحاكاة غريزية بطبعها، فالمحاكاة، بمعنى إنتاج صورة شبيهة بشئ ما، إستَعَرَت الآن، ودلالة ذلك، وفقا للدلالة التى يمنحها علماء الوسائط (الأيكونولوجييون، وعلماء الواقع الإفتراضى والواقع الفائق أوالمعزز)، تعنى أننا اندماجنا تماما بـ (العقل الأداتى)، ومن ثم كان تواطؤ الجميع على قتل ما تبقى من الواقع الحقيقى. هكذا تحوَّلنا إلى آلات منتجة للصور القاتلة للواقع.
الهوس العارم بتحويل الواقع الحقيقى إلى صور، يضمر رغبة دفينة فى القتل؛ قتل الأشياء الحقيقية والرقص على واقعيتها، ليس سأما من واقعيتها فقط، بل رغبة فى التعبير عن الوعى الفردى، عن تجربة (الفرد) مع وجود الموجود، بعد أن تحوَّل الفرد إلى إنتاج المعنى بنفسه لنفسه، عوضا عن المعنى العام الذى كانت تنتجه المؤسسات المعرفية من قبل. مما يعنى أن (الفرد) بقدر ما تحول إلى (عقل أداتى)- مسايرا للنظام التقنى السائد- تحول أيضا، هو نفسه، إلى (ذات فاعلة)، باحثة عن هويتها فيما تقدمه من تمثيلات. يقول (تورين)، بأن الإنتقال الحادث الآن من اللغة الإجتماعية إلى اللغة الثقافية [هذا الإنتقال تصحبة طفرة سببها الإنتقال السريع فى علاقة الذات الفاعلة مع ذاتها مباشرة من دون المرور بالمتوسطات الماوراء- إجتماعية، الخاصة بفلسفة التاريخ.] ص 18.
ويبدو أن هذا المنحى الجديد، يرتبط بالحقوق الثقافية وبحقوق الإنسان- إذ صارت تعلو فوق الحقوق الإقتصادية والإجتماعية- وهو ما يتمثل فى المطالبة بالتحول إلى (المجتمع المدنى).
أى أن تلك الظاهرة الجديدة، تشير إلى تعبير الفرد عن (عمق ذاته) من خلال الدفاع عن حريتة الخاصة (وليس من خلال التماهى بقيمة أوهدف خارجيين) كما يقول تورين، ص 35.
ولعل تحول المثقفون المصريون عامة، والمسرحيون خاصة، عن المنظومات المرجعية الأيديولوجية، التى تنامت لدينا فى الخمسينيات والستينيات، والتى كانوا يتوزعون بموجبها على (اليسار واليمين)، لتحل محلها منظومة جمالية أخرى، تتمثل فى (الحداثة/ مابعد الحداثة) بترافقاتها المختلفة (المسرح الدرامى/ المسرح مابعد الدرامى، المسرح التقليدى/ المسرح التجريبى... إلخ)، على الرغم مما تضمره من أيديولوجيا، وأن لم تكن بنفس الوضوح والتحديد القديمين، هذا التحول يصب فى نهاية الأمر فى التجاوز الفعلى للبراديغما الإجتماعية، إلى البراديغما الثقافية.

المسرح ومبدأ التمثيل:
إستلهاما لألتوسير، العرض المسرحى بوصفه (واقعة)، يظل متحررا من التحديد الدلالى، أما بوصفه (تجربة)، فيرتبط بالإيديولوجيا، أى [بأنظمة التمثيل التى تعيش فيها الناس علاقاتها الفعلية لحياتها... إذ هى الوسيلة التى يتم من خلالها إنتاج التجربة نفسها.]، مما يحولها إلى (واقع). المعجم ص 136.
لذا يعد المسرح تمثيلا إستعاريا لما نتواضع ثقافيا على أنه الواقع، غير أنه، بوصفه تمثيلا، ليس إنعكاسا سلبيا، إذ ينطوى على مساهمة متراوحة القدر فى إعادة صياغة ما يمثله.
مايعنينا هنا، هو وضعية التمثيل ذاتها التى يتصف بها المسرح المصرى فى المرحلة التاريخية الراهنة، أعنى (ما الذى يمثله أويحاكيه؟، وما نوعية المساهمة التى يقترحها فى إعادة صياغة ما يمثله؟).
وبوضح أكثر، نظرا لإفتقار العروض المسرحية إلى واقع هو مواضعة ثقافية مشتركة (محددة وواضحة وعامة)، فقد أفضى ذلك إلى (فوضى التمثيلات) المتعلقة بها وليس إلى تعددها، مما جعل المعانى المختلفة التى تقترحها تلك العروض ترتطم ببعضها البعض، وتحطم بعضها البعض أيضا- مع ملاحظة أننى هنا أتحدث عن (المسرح الدرامى- اللغوى) وليس عن (مسرح ما بعد الدراما- مسرح الصورة)، ذلك أن هذا الأخير، بقدر تماهيه هو الآخر مع تمزق المجتمع المصرى المعاصر، وتوزعه إلى جماعات، غير أن جماعاته (يلتف كل منها حول معنى، أقرب مايكون إلى الحدسى المباطن للأسطورة باعتبارها أحدى أنظمة التمثيل التى تتوفر عليها الأيديولوجيا)، من هنا كان موقفهم المناوئ للغة، أى للمعنى، ومن ثم (للتاريخ والواقع والذات). وبتعبير آخر، هم يقدمون إلينا (واقعا- مشبَّعا بالأيديولوجيا) فى صورة (واقعة) محايدة، صامتة، لا تقول شيئا سوى نفسها، وتترك التأويل لكل متفرج على حدة (فيما يعرف بالدراماتورجية البديلة).

خاتمة:
بالعودة إلى سؤال الأسئلة كلها: (ما الذى يمثله المسرح المصرى الآن؟)، سنجد أن وضعية كتلك التى أشرت إليها على مدار المقال، يستحيل معها تناول (الجمهور)- كأحد أهم عناصر العرض المسرحى- وفقا للتعريف الكمِّى القديم، إذ فقد مبررات وجوده تماما، كما لم يعد باستطاعة الدولة نفسها التدخل فى الأمر.
الجمهور الآن تشظى وتبعثر، ولم يتبق منه سوى ذوات فردية تعانى التفكك، وتسعى جاهدة للملمة تفككها فى (جماعات) ملتفة حول معنى متعلق بالهوية والحرية الفرديتين فقط.


محمد حامد السلامونى