في بلاد السعادة أيهما يستحق الآخر الشعب أم الحاكم

في بلاد السعادة أيهما يستحق الآخر الشعب أم الحاكم

العدد 583 صدر بتاريخ 29أكتوبر2018

لماذا يشارك ممثلين من أربعة جنسيات مختلفة في عرض مسرحي مصري؟ سؤال تردد كثيرًا منذ بداية الإعلان عن مسرحية “حدث في بلاد السعادة” كما طُرحت أيضًا عدة إجابات مختلفة، لم أقتنع بأي منها، إلى أن شاهدت العرض وربما وصلت إلى السبب الحقيقي وراء هذا التنوع في اختيار الفنانين، أو على الأقل إلى تفسير أقتنع به، بلاد السعادة ما هي إلا اسم تحايل به مؤلف النص الكاتب وليد يوسف للخروج من مأزق اختيار اسم للمكان، فلم يقدم لنا ما يوحي بالسعادة أو حتى فقدانها، بل كان المحور هو الوطن، الذي لا اسم له ولا عنوان، فهو مكان ما على خريطة الوطن العربي، ربما من هنا كانت الإجابة على هذا التساؤل، فمحاولة التدخل في شئون البلاد وتفتيتها، وقعت معظم الدول العربية ضحية لها، بينما نجت مصر من هذا المصير واحتوت أشقائها العرب، بل واندمجوا مع المصريين في نسيج واحد، ظهر هذا النسيج جليًا حين تناوله الفنان مازن الغرباوي وهو مخرج واع بالقضية ويمتلك من الموهبة ما جعله يقدم هذا النسيج في عمل فني يمتزج فيه الشكل والمضمون معًا.
تقع بلاد السعادة في قبضة حاكم مغتصب، بالطبع يعمل من أجل مصالحه ومصالح بلاده، هذا الحاكم ما هو إلا مجرد دمية في يد الوزير الذي يحركه كما يشاء، يصل إلى الحاكم أنباءً عن خطر تتعرض له بلاده، في الوقت نفسه يقوم شعب بلاد السعادة بثورة ضده، مما يضطره إلى ترك بلاد السعادة والرحيل، وكان من الطبيعي أن يترك حكم البلاد للوزير، لكنه بناء على نصيحة مستشاره الخاص يتنازل عن الحكم لحطاب فقير من أهل البلدة، وهو ما لم يقُدم له المؤلف مبررًا دراميًا، بل جعل الحوار بين الحاكم ومستشاره سريًا حتى على المتلقي، فكان لابد أن يكون وراء هذا القرار مبررًا لدى من أصدره، على الرغم من ضرورته كمقدمة للوصول إلى النتيجة التي تؤكد مقولة “الشعب يستحق حكامه”، فإن لم يجد من يقهره يقهر هو نفسه، ويكذب على الحاكم ولا يقول له شيئًا عن معاناته، حين تواتيه الفرصة، بل يتمرد عليه أيضًا.
فبعد أن عانى الشعب في ظل حكم المستعمر من الفقر الذي حرمه من كل شئ حتى الماء الذي لم يقدر على شرائه، لجأ إلى شرب الخمور ورفض الماء بإرادة في هذه المرة، وعم الفساد في البلاد ورفع التجار الأسعار وكثر البغاء، لأن الحاكم الجديد الذي هو واحد منهم أزال كل أسباب معاناتهم السابقة، فيخفض الضرائب ويفتح المتنزهات في الوقت نفسه يقوم الوزير بفتح الحانات والسجون، لتعم الفوضى في البلاد، كما يقوم بإيقاع الفتنة بين الحاكم وشعبه، ليثوروا مرة أخرى مما يضطره لترك الحكم ويعود ليعمل حطابًا مرة أخرى، هذه الرحلة يتخللها زيارة الحاكم للسجن الذي يعثر فيه على الحكيم والشاعر وهما الشخصيتان اللتان تعلم منهما وأثرا في تشكيل وعيه وشخصيته، وحين يأمر بخروجها يرجونه أن يظلا في السجن أفضل مما يبرز مدى ضعفه في حماية رعاياه وقوة الفساد، كما يقوم بزيارة السوق أكثر من مرة يكتشف في الأولى مدى معانات الشعب وفي الثانية مدى تمرده وتحوله من النقيض للنقيض، حتى أن المتسول يطالبه بإطلاق سراح المتسولين الذين كانوا يعملون معه بعد أن قام بإلحاقهم بالجيش.
لم يقع المخرج في خطأ يقع فيه مخرجين كثيرين وهو الرغبة في الكمال والاستفادة بقدر الإمكان من كل إمكانيات المسرح فيخرج العرض كعروس مولد ملونة بكل الألوان لكنها تفتقد للروح، لكنه استخدم كل العناصر بمقادير محسوبة وموظفة توظيفًا جيدًا، فلم يتفوق عنصر على الآخر وتشابكت كل العناصر مع النص لتقديم فرجة مسرحية مدهشة، فكان الآداء التمثيلي للعناصر المختارة بدقة ووضع كل منهم في مكانه الصحيح: علاء قوقة الوزير عجبور، سيد الرومي زامجور، مدحت تيخا بهلول، فاطمة محمد علي زليخة، محمد حسني بائع الغلال، راسم منصور المستشار أدمور، حسن العدل الحكيم، حسن خالد الشاعر، خدوجة صبري بائعة الحانة، أسامة فوزي السقا، نسرين أبي سعد بائعة القدور، عبد العزيز التوني الشحاذ، ميدو بلبل بائع الحيل، عمر طارق المنادي.
الغناء للفنانة فاطمة محمد علي والفنان وائل الفشني لأشعار حمدي عيد، الديكور الثري جدًا الذي صممه الفنان حازم شبل واعتمد فيه على التكنولوجيا في حركته وتوظيفه والمبهر في شكله، كما أنه لم يعتمد على قطع تقليدية تحتل مساحة كبيرة من الخشبة بل قام بوظيفته مع ترك مساحة الخشبة لحركة الفنانين بحرية، الآداء الحركي الذي صممته كريمة بدير، ولعبت الإضاءة لمصطفى التهامي مع السينما التي أخرجها حازم مصطفى ومازن الغرباوي، دورًا عبقريًا وكذلك استخدام تقنية جديدة لأول مرة تستخدم في مصر هي “ثري دي مابينج” للفنان رضا صلاح الملابس د. مروة عيد والتي لم تحمل هوية محددة ولا زمن محدد وموسيقى محمد مصطفى، الكوميديا اللطيفة الخالية من أي إسفاف التي لعبت دورًا مهمًا رغم جدية الموضوع، دمج كل هذه العناصر جعل منها وجبة فنية متكاملة تحقق الإشباع من دون تخمة، فلم يوجد عنصر واحد من هذه العناصر مقحمًا.
كما اعتمد على الرمز في مناطق كثيرة من العرض منها تكميم أفواه رجال الشرطة الذين ينفذون الأوامر فقط، كثرة عدد المتسولين، مشهد تقييد كرسي الحاكم بالخيوط العنكبوتية، القضبان التي ظهرت بفعل الإضاءة في النهاية.
يظهر ثراء النص أيضًا في حواراته منها: حوار بهلول مع الحاكم الأول، حواره مع الحكيم والشاعر، المساجلة بين بهلول والوزير في مطالبة بهلول بأشياء ومطالبة الوزير بعكسها مما يوقع الفوضى بالبلاد، ووجود شخصية السقا التي تعبر عن المبادئ والقيم التي لا تتغير في كل الظروف، كذلك اعتماده على معادلة من الصعب تحققها هي التي يتضمنها سؤال: هل الشعب يستحق حكامه، وما هو معيار هذا الاستحقاق، هل يستحق الحاكم المستبد ليحيا فقيرًا مستسلمًا عاجزًا عن فعل أي شئ، أم حاكمًا عادلاً فيتمردون عليه. في حرفية عالية لم يبرئ الحاكم ولم يدين الشعب، بل أدخل بينهما عنصرًا ثالثًا نشر الفساد وزرع الفتنة بين الطرفين، ولم يُسدل الستار على استسلام الحاكم العادل وخروجه من اللعبة مهزومًا، بل جعل النهاية على لسان الرواة اللذان أكدا بأن اللعبة لم تنته بعد، لتبدأ من جديد، فيبث الأمل في المتلقي بانتصار الحق والعدل ليخرج مبتهجًا كما دخل.

 


نور الهدى عبد المنعم