الصوت السردي   وصور السرد في الدراما (1-2)

 الصوت السردي   وصور السرد في الدراما (1-2)

العدد 567 صدر بتاريخ 9يوليو2018

 “ أنا لست منظرا، ولست من رجال السلطة أو متحدث رسمي
 عن المشهد الدرامي والمشهد الاجتماعي أو أي مشهد آخـــر.
 أنا أكتب المسرحيات عندما استطيع أن أنجح في ذلك، وهذا
 كل شيء . ومبلغ ما أصل اليه. ولذلك أتكلم بشيء من الاحجام
 وأعرف أن هناك علي الأقل أربعة وعشرين صورة لكل مقولة
 اعتمادا علي مكان وقوفك في الزمن أو اعتمادا علي حالة الجو .
 فالمقولة الفاصلة، في رأي، لن تبقي في مكانها حيــث تكــون
 نهائية . إذ سوف تكون فــورا عرضة للتعديل بواسطــة ثلاثــة
 وعشرين احتمال لها” “هارولد بنتر”
 (أولا) ملحوظة حول المنهج
 في كلمته بمناسبة المهرجان القومي لدراما الطلبة عام 1962، يقدم هارولد بنتر مقولة شخصية وفي نفس الوقت يشن هجوما خفيا علي النظرية. فمنظري الدراما، كما يزعم بنتر، ربما يعتقدون أنهم يعرفون ما يفعلون، ولكنهم فعلا عرضة لإعلان مقولات تصنيفية تقوم علي مواقف طارئة. وبمجرد أن نعترف بكل الاحتمالات، كما يفعل بنتر من جانبه، فمن السهل أن نتوه في الواقع الحديث متعدد الأوجه. وأعتقد أن هذا تمثيل دقيق للمأزق الذي يهدد كل من النظرية الأدبية والممارسة التفسيرية . ولكن هل يعني هذا أن هذه المشروعات محكوم عليها بالفشل؟ . أتمنى ألا يكون الأمر كذلك بالضرورة.
 من الغريب أن يتم تناول مأزق بنتر في نظرية إحصائية، وربما هناك درس متعدد المجالات يجب أن نتعلمه هنا. فبالإحصائيات، تعتمد جدوى الفرضية علي تقويم مخاطر قبولها ورفضها، وعلي تحديد مقدار التسامح مع الخطأ. إذ أن هناك خطأين بارزين (1) أن نقبل الفرضية باعتبارها صحيحة عندما تكون خاطئة (تسليما بمجموعة كاملة من البيانات)، (2) رفض الفرضية باعتبارها زائفة عندما تكون صحيحة فعلا. بالطبع ليس من السهل القبول بالحقيقة والزيف ولاسيما المجال الأدبي، فالنظرية الأدبية يجب أن تعتمد علي قيم جدلية مثل المعقولية، وصحة الوجه والكفاءة والإنتاجية. فمبدئيا، يطبق المفهوم الإحصائي، رغم ذلك . ومنهجيا، فان هذا البحث سوف يقوّم عيوب ومزايا الفرضيات التفسيرية ويحاول أن يبني إطارا مفاهيميا معقولا ومستمرا وموقف واع يفسر المزيد من الظواهر بالمزيد من الدقة.
والسؤال المحدد الذي أوجهه هو هل الدراما، الدراما السردية الملحمية مثلا، تقبل المفاهيم السردية للمثال أو الصوت السردي . ورضوخا إلى نقد بنتر سوف أقوم بمحاولة لكي أضع نفسي داخل مجموعة من التناولات (المقاربات) المنافسة للدراما, ثم أعالج مسألة الصوت بمناقشة اعتبارات فعل الكلام Speech acts التقليدية في الدراما. وفي النهاية سوف أراجع حجة (سيمور تشاتمان Seymour Chatman) فيما يتعلق بإظهار الراوي show-er narrator وأبدأ في دراسة تجريبية للصوت والعلامات الأخرى في الأداء الدرامي . واستكمل الي حد ما مشروع (براين ريتشارسونBrian Richardson) في هذا الشأن، وفي مقالات سابقة، والهدف الأساسي لذلك هو تمهيد الأرض لعلم سردي للدراما .
 (ثانيا) تحديد موقفنا
 من أجل معالجة تغييرات بنتر، دعونا نقبل بأن كل ناقد ومنظر حديث يجب أن يحدد موقفه ويضعه محل بحث. وأكثر الطرق طبيعية لفعل ذلك هو أن نربط أنفسنا بما يسميه ستانلي فيش الجماعة التفسيرية، وهي حركة ترقى إلى فصل أنفسنا عن الجماعات التفسيرية الأخرى. والفكرة الأساسية هي أنه من خلال توازن المعتقدات المتصارعة يمكننا أن نأخذ موقفا ونساهم بشكل له معنى في شئون وسياسات وجداول أعمال مجالنا . وبالطبع يمكن لأي إنسان أن ينتمي إلى عدة جماعات، ومن المرجح أن تنقسم كل جماعة الي جماعات فرعية. فمن الممكن أن أكون بنيويا أو بعد بنيوي، وربما نكون مهتمين بجانب تقديم أو تلقي العمل، ويمكننا أن نرى عالم الأشكال الفنية من خلال أي عدد من النزعات الجمالية – الواقعية والانطباعية والحداثية وما بعد الحداثية ... الخ . بالطبع عدد المواقف كبير وعدد المواقف المتقاطعة معه أكبر رغم ذلك.
 وبالنسبة لاهتمامنا الحالي، دعونا نركز علي ثلاث نظريات تتوجه نحو تلقي الدراما. وهناك حقيقة واحدة تقبلها كل النظريات الثلاث، وأن المسرحيات تأتي علي شكلين أو انجازين، هما نصوص وأداءات. وتنشأ الانقسامات والادعاءات في أعقاب البديهة التي تثير أسئلة المصطلح والأفضلية والتركيز والملائمة والأولوية والتميز. وللسهولة، سوف تسمي المناهج التفسيرية الثلاثة “الدراما الشعرية” و“دراسات المسرح” و“قراءة الدراما” علي الترتيب.
 • تعطي مدرسة الدراما الشعرية الأولوية للنص الدرامي. إذ تعد قراءة النص تجربة ذات مكافأة فريدة، ولاسيما عندما يوضع في مواجهة أوجه القصور في الأداء والعروض الفعلية. ولعل الإستراتيجية التفسيرية الأساسية للدراما الشعرية هي القراءة الحميمة التي تهدف إلى إظهار الخاصية الجمالية الكاملة للعمل وثراءه. ونقاط جدول الأعمال هذا هي كره الممثلين والمشاهدين والمؤسسات المسرحية لها (وهي تتضمن صراحة المسارح العامة في عصر التنوير) . وتتضمن الدراما الشعرية تعبيرات وعبارات رنانة مثل الشعر الدرامي، والدراما باعتبارها أدبا، والمسرح الذهني، وأقل من الأصلي ... الخ . وصاحب الشهادة التالية هو الكاتب المسرحي الشهير يوجين أونيل : “ أنا لا أكاد أذهب الي المسرح ... علي الرغم من أني أقرأ كل ما يمكن أن أحصل عليه من مسرحيات . فأنا لا أذهب إلى المسرح لأنني أستطيع أن أصنع دائما أداء أفضل في ذهني . أليس من الممكن رؤية “ هاملت” في مسرح الخيال ونحن نقرأها، ويمكن تفسير مسرحية أعظم من هاملت من خلال عرض مثالي .
 • تفضل مدرسة الدراسات المسرحية، بالمقارنة، الأداء علي النص . إذ يتم قبول نص المسرحية باعتبارها شيئا معنيا بالأداء، ولكن المسرحية التي يتم أداؤها هي الشكل الملائم للنوع . وتتضمن الاستراتيجيات التفسيرية لهذا التناول اعتبار الأداء تناج ظروف تاريخية وثقافية مسرحية، تصف علم اجتماع الدراما وتحلل شفرات خشبة المسرح وعلم الدلالة وتاريخ خشبة المسرح وديناميات التأليف المشترك . والأفكار حول جدول الأعمال هي تأسيس مجال مستقل ومهاجمة الدراما الشعرية لعزلتها الأكاديمية . والشعار النموذجي هو “ تعود المسرحية إلي الحياة فالأداء . وها هو كاتب مسرحي شهير يستبق ذلك المشروع قائلا :
 “ علي الرغم من أن الكاتب الدرامي أديب، وقادر أيضا علي تقديم الروايات والقصائد والدراسات والنقد، فإنني أعتقد أن الدراما ليست فرعا من فروع الأدب، ولكنها فن منفصل، له قيمه وفنياته المميزة . ( وأتمنى أن أتفــرغ ذات يوم وأعالج هذا الموضوع بشيء من التفصيل، كاحتجاج علي الهراء الذي يقدمه لنا أساتذة الأدب والمحاضرين الذين يكتبون عن الدراما دون أن
 يفهموا المسرح) . وأتمنى أن تكون المسرحيات في هذا الكتاب ممتعة للقارئ ولكني يجب أن أؤكد حقيقة أنها ليســت مكتوبة للقراءة بل لكــي تـــؤدى علي خشبة المسرح حيث تعود الي الحياة اذا جٌسدت وقدمت بشكل ملائم. ذلك أن المسرحية التي لا تجد مسرحا وممثلين ومشاهدين، ليست مسرحية علي  الإطلاق . والكاتب الدرامي هو الكاتب الذي يعمل في المسرح ومن أجله . “لقد كتب” جون بريستلي John Priestley) فعلا دراسة عن الدراما باعتبارها فنا منفصلا ( ونلاحظ أنه كتب كلمة مسرح بالأحرف الكبيرة) وهي أحد النصوص التأسيسية في دراسات المسرح . وكذلك يتم تناول دراسة ج.ل. شتيان J.L. styan “الدراما وخشبة المسرح والمشاهد” (1975) للتعبير عن الرؤى الأدائية لهذا المجال.
 • في النهاية قراءة الدراما هي المدرسة التي تصور متلقي مثالي يكون قارئا ومشاهدا للمسرح – قارئ يتذوق النص مع رؤية أداء فعلي أو محتمل، ومشاهد للمسرح يتذوق الأداء من خلال معرفته ( وإعادة قراءة) النص . وتتضمن استراتيجياته التفسيرية الأداء الموجه الي التفسير النصي، ويهتم بالنص الثانوي في إرشادات خشبة المسرح، ويقارن قراءة المسرحيات بقراءة الروايات. وتتضمن أفكار جدول أعماله رد اعتبار النص كعمل أدبي، وعزيز التبادل متعدد المجالات بين النقاد والمنظرين الممارسين المتخصصين في فن المسرح. والشعار النموذجي هو “الأداء الافتراضي”، وتضم النصوص المنهجية كتبا مثل “سيميوطيقا المسرح والدراما” تأليف كير ايلام (1980)، وكتاب “ نظرية الدراما وتحليلها” تأليف مانفريد فيستر، وهناك أيضا مجموعة من الدراسات الحديثة بعنوان “ قراءة الدراما” اعداد هانا سكوليكوف وبيتر هولاند . وربما يستخدم المقطع التالي باعتباره شهادة : “تشارك مسرحية” شريط كراب الأخير “في الغموض الشكلي لكل المسرحيات، فهي نص للقراءة وارشادات لأداء حي .... بالطبع يؤسس وعي القارئ بالأداء المحتمل معنى النص بشكل جزئي : فلو كان لابد أن نفهم المسرحية فيجب أن نقرأها بتخيل بصري فعال .
 يستخدم المسح السابق ثلاثة تناولات لنظرية الدراما باعتبارها مراحل جدلية في الدائرة المنسوبة إلى الفيلسوف فيخته – المقولة ونقيضها والخلاصة . ومن خلال قبول نقطة انطلاق ستانلي فيش بأن معتقدات الجماعة التفسيرية تحدد ما يعتد به كحقيقة، بالإضافة إلى ما هو مركزي وهامشي و يستحق الملاحظة، فكل من النقد الأدبي والنظرية مقبولان هنا باعتبارهما بلاغيان بشكل موسع في طبيعتهما . وكما يزعم فيش، فان نقاد الأدب دائما في مجال تحقيق وتعزيز المعتقدات الحالية للجماعة التفسيرية، فيما يتعلق غالبا بإقناع أعضاء الجماعات التفسيرية الأخرى بمشاركتهم . مع الأخذ في الاعتبار النسبية التي سبق تقديمها, فإنني أتبنى معتقدات قراءة الدراما . فقراءة الدراما ليست فقط أكثر التناولات الثلاثة وعيا، بل إنها تدعم صراحة جدول أعمال الدراسة الحالية في تقديم علم سرد يؤثر في نظرية المسرحيات وتحليلها . ولأن مكانتي داخل علم السرد نفسه، فإنني أعتبر نفسي عضوا في جماعة علماء خطاب السرد بعد الكلاسيكي الموجه إدراكيا cognitively oriented postclassical discourse narratologists .
 وعلي الرغم من أنني حددت ثلاثة احتمالات فقط، وليس أربعة وعشرين احتمال في الدراما، فإننا ننظر فعلا الي صيغة صورة العالم المنسوب الي بنتر . فما أمامنا هو كيان متغاير الخواص من الموضوعات ( النصوص الدرامية، والعروض والأداءات الدرامية الفعلية والافتراضية) : ونحن في مواجهة مجموعة كبيرة من المقاربات والاستجابات المتعارضة التي تبدو جميعها صواب أو خطأ في ظل منظور جماعة تفسيرية معينة . ومع ذلك، بقدر ما أستطيع أن أرى، فان إدراك تعددية الظاهرة ينقي الجو فضلا عن أنه يضعف قوة المشروع . وبالطبع من خلال مسح الخيارات المتاحة، نكون في وضع أفضل لتحديد قوتها وضعفها النسبيين .
 (ثالثا) نظريات فعل الكلام في الدراما
 كما هو معروف جيدا، تتعامل نظرية فعل الكلام Speech-act theory مع الجمل والنصوص باعتبارها أفعال تقع بشكل عملي يقوم بها متحدثون يخاطبون مستمعين . ولا فرق عند منظر فعل الكلام أن يكون المتحدث كاتبا أو أن يكون السامع قارئا – فربما تختلف البيئات بشكل طفيف، ولكن تعتبر أفعال الكلام متطابقة . وبالنسبة للدراما، أيضا، يفترض عدد من المنظرين والمؤلفين أن النص يصدر مباشرة من متحدث متفوق له صوته المحسوس . وكما يقول ادوارد أولبي “ أقطع المسرحيات لأنني أقوم بالكتابة، فأنا مغرم بصوتي، وأضع كل أنواع المشاهد والحوارات التي أنا مولع بها “ . بينما تؤكد هذه الرؤية التشابه الأساسي بين الكلام المكتوب والنصوص المنطوقة، فان هذا هو الموقف الذي يتنازع عليه أصحاب المنهج التفكيكي . باختصار، فان منظري فعل الكلام المنحازين إلى النص المكتوب والكلام المسموع يحددون بدقة إشكالية الصوت النصي textual voice، يجب علينا أن ندرس إلى أين تقودنا نظرية فعل الكلام في هذا الشأن . والمسائل التي يجب تدقيقها هي التي تتعلق بكل من جون أوستن John Austin، وجون سيرل John Searl، وريتشارد أومان Richard Ohmann، وجيرار جينيت Gerard Genette . ويمكننا أن نقول عموما أيضا إن الدراما تلعب دورا ثانويا في هذه التفسيرات، وفي كثير من الأحيان، يتم تحديدها في دور غامض مليء بالاحباطات والاستثناءات التي يمكن استبعادها بسهولة بمزيد من الدراسة .
 تبدأ نظرية في الكلام في فن القص مع الملاحظات العرضية لأوستن حول نوع خاص من السياق العملي غير المؤاتي . فلا شيء يمكن أن يخلفه النطق الأدائي لهذا النوع المرض، إذ من الملاحظ أن النطق الأدائي علي سبيل المثال يكون خاويا أو أجوفا بشكل غريب إذا قاله ممثل علي خشبة المسرح، أو إذا قٌدم في قصيدة أو قيل في مناجاة .. فاللغة في هذه الظروف لا تستخدم بجدية، بطريقة خاصة – بشكل مفهوم، ولكن بطرق طفيلية علي استخدامها العادي – طريقة تندرج تحت مبدأ إيماءات أو إيحاءات اللغة etiolations of language. وكل هذه الأمور مستبعدة من الاعتبار. ولا يتعين علينا أن نكون مفكرين بهوية تفكيكية حتى نفهم تأثير إشارة أوستن الاقصائية، وتفضيله للظروف العادية، وتهميشه واستبعاده لما لا يتلاءم مع بؤرة اهتمام فيلسوف في اللغة. ومن منظور اليوم، سواء كنت تفكيكيا أم لا، فان كل أفكاره تطرح السؤال، وتستدعي بالطبع المواقف التي تستثنيها صراحة . وبعيدا عن الأمراض أو الإشارات، فان قدرة اللغة علي التعامل مع غير الجاد والخيالي أو السيناريوهات الافتراضية مقبولة الآن باعتبارها دالة علي الفكر الإنساني والإدراك والكفاءة اللغوية نفسها .
 ولفهم معالجة أوستن غير المكتملة للنطق القصصي، يبدأ سيرل باستفسار حميم لما يصطلح علي أنه “الوضع المنطقي” للخطاب القصصي . وبتحليل بداية رواية أيرس موردوك “الأحمر والأخضر”، يجادل سيرل بأن المؤلفة لا يمكن أن تكون مسئولة عن صدق عبارات النص الحازمة . وبدلا من ذلك، ومن خلال تعليق قواعد المرجعية والمصداقية التي تطبق علي الألفاظ الجادة في العالم الحقيقي، يتظاهر المؤلف بأنه يقوم بسلسلة من أفعال النطق من النوع التمثيلي عادة . وبعد ترسيخ هذه الصيغة (التي تطارد بشكل واضح كل الاعتبارات التالية)، يتحول سيرل باختصار إلى ما يصطلح علي أنه “حالتان خاصتان”، هما السرد بضمير المتكلم والأعمال المسرحية . ففي فن القص بضمير المتكلم مثل رواية آرثر كونان دويل “شارلوك هولمز”، فان المؤلف لا يتظاهر بعمل تأكيدات، فهو يتظاهر بأنه” جون واطسون” . أما بالنسبة للدراما، فليس المؤلف هو الذي يتظاهر بل إن الشخصيات في أثناء الأداء الفعلي هي التي تتظاهر، بمعني آخر، لا يتظاهر مؤلف المسرحية بأنه يقدم تأكيدات، فهو يقدم إرشادات لكيفية تجسيد التظاهر الذي يتبعه الممثلون عندئذ. ومع اقتباس بضعة سطور من مسرحية جون جالزورثي “ الصندوق الفضي، يشق سيرل طريقه إلى الاستعارة المشهورة وهي صيغة الإعداد :
 “ من المفيد أن نقارن هذا المقطع (من مسرحية جالزورثي) مع رواية ايريس  موردوك. ف موردوك تحكي لنا قصة، ولكي تفعل ذلك، تتظاهــر بأنهـا تقدم سلسلة من التأكيدات عن أهل دبلن عام 1916. وما نتخيله عندما نقرأ المقطع هو رجل يتجول في حديقته وهو يفكر في الخيول . ولكن جالزورثي يكتب مسرحيته، ولا يقدم لنا سلسلة من التأكيدات المتظاهر بها فيما يخص  المسرحية . فهو يقدم لنا سلسلة من الإرشادات فيما يتعلــق بكيــف تحــدث الأشياء فعلا علي خشبة المسرح عندما يتم أداء المسرحية . وعندما نقـــرأ  مقطعا من جالزورثي نتخيل خشبة المسرح وترتفع الستارة، وتكون خشبة  المسرح مفروشة كغرفة طعام .... الخ . بمعنى أنها تبدو لي وكأن قوة نطق  النص المسرحي مثل قوة نطق وصفــة اعداد كعكــة . انه مجموعــة مـــن  الإرشادات لكيفية فعل شيء ما، وهو تحديدا كيف نؤدي المسرحية “ نلاحظ كيف يتحرك سيرل من حساب ما يحدث في عملية تكوين المسرحية (عندما يكتب جالزورثي مسرحيته) إلى ما يعنيه النص عندما نقرأه، وصولا إلى السؤال العملي وهو كيفية أداء المسرحية . ومن السهل أن نرى أن حركة التركيز هذه – التي تثير المواقف من دراسات المسرح وقراءة الدراما – تضع القيمة التصنيفية المنسوبة إلي بنتر علي أي كلام قاطع في هذا الشأن، ولاسيما صيغتي التظاهر ووصفة الإعداد . فمن الواضح أن ميزة صيغة وجود – إرشادات للنص الدرامي مثلا – ربما لا توجد كميزة في الأداء . علاوة علي ذلك، ربما ما يصدق علي مجموعة من المتلقين (القراء) ربما لا يصدق علي الممثلين . وإذا قبلنا حجة ستانلي فيش التأسيسية المضادة بأن المتلقين هم صناع النص الحقيقيون، فربما تكون المشكلة الناتجة أكثر جدية مما تبدو عليه للوهلة الأولى .
وهناك موطن ضعف أخرى في توضيح سيرل لهذه المسألة . فلا يمكن تعليل لماذا يجب أن يكون فن القص بضمير الغائب هو الظاهرة المحورية التي تظهر فيها الدراما وفن القص بضمير المتكلم كحالات خاصة . علاوة علي ذلك، نلاحظ كيف أن مفهوم التظاهر غير المخادع لكي يعمل يكون هو القاسم المشترك في كل أنواع القص الثلاثة : في السرد بضمير الغائب يتظاهر المؤلف بأنه يروي، وفي السرد بضمير المتكلم يتظاهر المؤلف بأنه المعلق، وفي المسرحيات معلق يتظاهر الممثلون بأنهم شخصيات وأنهم يؤدون أفعالا . فالأرضية المشتركة هي أرضية زلقة بالفعل . إذا استطاع المؤلف أن يتظاهر بأنه معلق بضمير المتكلم عندئذ يمكننا أن نسأل لما ينبغي أن يكون عاجزا عن التظاهر بأنه معلق متغاير الأصوات Heterodiegetic narrator . عموما، إذا كان لابد أن يستمد فن القص من مفهوم ضمني عندئذ لماذا يجب مختزلا الي تظاهر وليس محاكاة مثلا, أو تلفيق، أو تقليد، أو انتحال هوية ؟ . ( ولكن يمكن أيضا أن يوضع أي من هذه البدائل في موضع استفسار في المقابل أيضا). في النهاية، هناك العديد من السيناريوهات حيث تكون صيغة التظاهر مفيدة بشكل فريد . فإذا حكت لنا موردوك ذلك وفعلته من خلال التظاهر بأن تحكي لنا سلسلة من الأحداث، فإنها ستبدو وكأنها تبالغ في التظاهر, وهي فكرة متناقضة تعقد الأشياء بدلا من أن تفسرها . وإذا تظاهر الممثل بأنه يؤدي أفعال كلام وأفعال أخرى، عندئذ، فان إرشادات خشبة المسرح، بالمعنى الدقيق للكلمة لن تكون إرشادات لفعل شيء بل إرشادات للتظاهر بفعل شيء – وهنا أيضا، يمكن أن تضاف علامة التظاهر أو تحذف . فمن المسلم به، عندما تحدد إرشادات خشبة المسرح “موت هاملت”، فان الممثل يتظاهر بالموت فضلا عن فعل الموت الحقيقي . ثم، مرة ثانية، عندما تحدد إرشادات خشبة المسرح “خروج من يسار خشبة المسرح” (وسوف نقابل هذا المثال ثانية), اذ يمشي الممثل متظاهرا بمغادرة لا تحدث، فهل يمكن أن يكون التظاهر بتقبيل الممثلة مدركا علي خشبة المسرح باعتباره فعل يتم التظاهر به ؟ . هنا يكمن الشيطان في بعض التفاصيل بوضوح .
 يشير سيرل إلى أن القارئ الذي يقرأ الإرشادات الأولية في مسرحية جالزورثي سوف يتخيل خشبة المسرح والستارة ترتفع وخشبة المسرح مفروشة مثل حجرة الطعام .. الخ . ولكن، طبقا لتفسير سيرل، لا يتضمن النص إرشادات لتخيل هذا الشيء وذاك، بل إرشادات لكيفية أداء المسرحية . وما يفشل سيرل في ملاحظته عند هذه النقطة هو أن القارئ العادي (الذي ليس ممثلا ولا مخرجا) هو المتلقي غير الملائم لقوة النطق المفترضة في النص . ففي الواقع، إن توجيه القارئ العادي إلى كيفية أداء المسرحية هو أمر غير لائق، ويشبه أن نطلب من طفل أن يعد طعام العشاء لأربعة أفراد . وبالطبع، كما تشير باتريشيا سوشي Patricia Suchy، الممثلين والمخرجين هم أيضا قراء، بالطبع، يبدو من المنطقي أن نقول إن ممارسي المسرح يقرءون النصوص مثل القراء العاديين قبل أن يقرءوها كمحترفين من خلال رؤيته كعرض محتمل . وهم كقراء، ربما يتخيلون ويعبرون عن دلك مثل أي شخص آخر فضلا عن قيامهم بعمل يٌملى عليهم . ويمكن أن نوجز بأن القراءة الخيالية تأتي أولا لأنها الشرط المسبق اللازم إذا كانت قابلة للتطبيق عندئذ فقط (الدراما القرائية هي دائما استثناء مزعج، ولاسيما في دراسات المسرح) علي التمثيل والإخراج . ورغم أن سيرل يلفت الانتباه إلى الأساس الخيالي في القراءة في ختام دراسته، فانه يفشل في تأسيس هذه العلاقة الحاسمة بين القراءة الخيالية وإعداد وتنفيذ الأداء .
 وعندما يستأنف جينيت سؤال مكانة قوة نطق الخيال السردي، يبدأ بتقديم العديد من مزاعم سيرل، بما في ذلك اعتبار أن السرج بضمير الغائب هو نموذج عام لفن القص وقراءة الجملة السردية المعيارية في فن القص الملحمي باعتبارها تأكيد يتم التظاهر به . وكما هو الحال عند سيرل، يٌرى السرد بضمير المتكلم باعتباره مؤلفا يتظاهر بأنه راوي، وبعد تحديد موضع كل من فن القص باستخدام ضمير المتكلم والدراما “ علي الهوامش” فإنهما يوضعان جانبا اعتبارات أخرى . وفي تمييز مضاد لسيرل، الذي ينكر وجود أفعال كلام خاصة لفن القص، يحتج جينيت بأن التأكيدات القصصية يمكن تفسيرها باعتبار أن لها فعلا كلامين غير مباشرين two indirect speech acts: (1) باعتبارها توجيهات (دعوات) لمشاركة المؤلف في تخيل العالم القصصي، (2) وباعتبارها تصريح أو إعلان بخلق العالم الخيالي .
 وبقدر إتباع جينيت لسيرل، فان الأسئلة والاعتراضات التي أثيرت يمكن تكررها : فن القص بضمير الغائب هو مثال عشوائي من المرجح أن يقدم مقولات تصنيفية مشروطة ( بمعنى أنها غير ملائمة)، وأنه ليس فوق الاستفسار، ومن المؤكد أنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون النطق الذي يقدم جميع الملامح الشكلية للـتأكيدات، مع أنه لا يحقق شروطها العملية، يستحيل أن يكون تأكيدات متظاهر بها . ومع ذلك، في مناقشته لتعليقات سيرل علي الدراما، يفصل جينيت السياقات العملية والصيغ النصية :
“ فيما يعلق بإرشادات خشبة المسرح ... فان سيرل يراها باعتبار أن لها مكانة نطق توجيهية (إرشادات كيف تفعل شيئا، وكيف تؤدي المسرحية تحديدا ) . وهذه بلا شك هي الطريقة المفهومة بواسطة الممثلين والمخرجين، ولكنها لا تكون مفهومة بالضرورة للقراء العاديين ( وفيما يتعلق بالمشاهدين، فانهم يرون الطريقة التي يتم بها تنفيذ الإرشادات )، اذ من المرجح أن يراها القارئ باعتبارها وصفا لما يحدث علي خشبة المسرح ( وفي السرد القصصي ) . فإرشادات مثل ( يخلع هرناني معطفه ويضعه علي كتفي الملك) تصف في نفس الوقت سلوك الشخصية وتخبر المؤدي عن ما يفعله . وهنا يكون قصد المؤلف غير محدد، فهو يتأرجح بين الوصف description والتشخيص prescription ناحية والإخراج والتوجيه من الناحية الأخرى، وفقا لما إذا كان المؤلف يتوجه إلى القارئ ( كما في حالة موسيه Musset) أو يتوجه إلي الفرقة المسرحية ( كما في حالة بريخت ) .
علي الرغم من أن هذه الملاحظات وثيقة الصلة، فيمكن أن نختلف حول بعض التفاصيل . فمثلا هناك نقطة بسيطة في نوايا اقتراحات التأليف الثانوية second guessing authorial intentions، والتي لا يمكن أن تكون قابلة للتعديل . وأيضا، إذا كانت إرشادات خشبة المسرح تعني أشياء مختلفة في بيئات مختلفة فربما نواجه عندئذ نصا متعدد الوظائف فضلا عن فصد تأليفي متذبذب ( وسوف أعود الي تحليل جينيت لجملة “هرناني يخلع معطفه “ فيما بعد) . في النهاية لا داعي للقلق علي التوجهات الأولية، لأن النص الدرامي، كما يشير جينيت، يخدم بأريحية كل من القراء العاديين، والقراءة للتسلية، والمتخصصين في المسرح، والقراءة من أجل العمل . وفكرة جينيت المفيدة تماما هي أن النص الدرامي يمكن أن يخاطب القارئ العادي والمتخصصين في المسرح ويغير قوة النطق وفقا الأهداف العملية المتعلقة به . ورغم أن هذا يمكن أن يثير مشكلة لنظرية فعل الكلام – هل نتحدث عن نصوص مختلفة الآن ؟ - فان فرضية التوجهات المتعددة عند جينيت تحل مشكلة البيئة غير الملائمة، التي، كما سنرى فيما بعد، تفسد تفسير سيرل .
تتمة
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح