«حضرة حرة» قضية وطن

«حضرة حرة» قضية وطن

العدد 559 صدر بتاريخ 14مايو2018

تطفو قضايا الأمة العربية اليوم على السطح أمام العالم، وتترسخ الحالة العربية كقضية كبرى - بما يجري فيها من أحداث مأساوية - في الأجناس الإبداعية، ويبدو المسرح أكثرها حملا للقضايا الإنسانية، وفواجع الأمة العربية قضايا إنسانية، يتوقف عليها المسرح بالاستعراض والقراءة والتحليل، وتحت عنوان تداوله النقد المسرحي وتمثل باتخاذ الموقف، وهذا الموقف مطلب إنساني، حيث تنقل القضية من الهم الوطني أو المجتمعي، إلى المجتمع الإنساني، وهذا الترحل حالة إنسانية ضرورية، فالإنسانية مواقف قارة، وبما أنها كذلك، فالمسرح العربي مطالب بنقل قضيته إلى العالم.
العرض المسرحي السوري “حضرة حرة”، القادم من ألمانيا أيضا، يبدو بإعادة طرح قضيته مرتين، المرة الأولى في بلاد عربية وكان في تونس، إبان إقامة مهرجان المسرح العربي بدورته العاشرة 2018، والمرة الثانية بالفرجة المسرحية التي يعرضها في ألمانيا، والعرض فرجة حقا، وهو يدرك ذاته كحالة ذهنية واعية، فاستخدم المسرح البصري، والطاقة الجسدية «كيروغرافيا» بنقل كل قضيته تحت عنوان كبير كمغناة “يا وطن”. الموضوع إذن، القضية السورية كقضية إنسانية تهم العالم بكليته، والعالم بات يرى القضية السورية كل يوم كواقع، وليس كمأمول، فالواقع هو الذي يبدو بكل عنجهيته، ويتطلب الآن اتخاذ موقف إنساني كبير.
السينوغرافيا: بدت السينوغرافيا متعددة، تتماشى مع القضية السورية كحدث واقع وما زال يشتغل حتى الآن، فالشاشة الكبيرة التي غطت خلفية الخشبة، استدرجت رؤية حدثية سورية تمثلت بالهجرة والرحيل والقسوة والاضطراب، وهي الرؤية التي تشكل المشهد الحدثي السوري الآن، فكان الرحيل الرؤية الحاضرة بقسوة إلى جانب الحدث الدموي الذي يشتغل بآلة حربية قهرية، تضع حدا للصوت الإنساني، والعرض يطالب العالم بصوت إنساني. وتمثلت السينوغرافيا أيضا ببعد طقسي، إذ بدا بحالة الحضرة، التي تشتغل على الروح، والروح المعذبة العاشقة:
«قل له حانت،
إن المدن قد فرقتك،
إن السفن حين رست قد أرشدتك،
مَثل الدميم يحب حُلوة،
مثل السجين ببعلبك»
ولكنها حضرة حرة، بمعنى أنها نقلت الحدث السوري برمته، بل أكثر من ذلك، عندما أرجعت حالة التماهي الشعبي والوطني من خلال تراثه الكبير، فكانت الدبكة السورية ذات يوم تجمعنا، هكذا يقول العرض السوري، فالتراث يجمع شتات المجتمع، ويمثل المجتمع كديمومة واقعية وتتجدد، ولكن الدبكة تنتهي إلى حالة فردية عندما يتفرق الجمع، ويشخص شخص واحد وهو يلوح بذاته المثقلة بالهموم، ولذا نجده يضرب خشبة المسرح، وكأنه يريد استنبات الحالة الماضوية الآن، فيطفو الحزن.
الكيروغرافيا: اعتمد العرض المسرحي، أو تشكل من طاقة جسدية، تمثل برقص متعدد، وقد أشرت إلى الدبكة السورية، إلا أن العرض تمثل بحركة جسدية كرقص حديث، ينبعج إلى الجوانية، وهو يحاول الخلاص من معاناته، فاشتغل الممثلون على توليد هذه الطاقة الجوانية، التي تتماشى مع الحالة السورية بالمعاناة والألم، ومحاولة البحث عن خلاص، تتحرر الشخصيات من قيدها المؤلم، وكأنها شرنقة تنتج الآن، وانبثقت الشرنقة لتقول كل الحدث السوري الذي ما زال ينجز، ويستدعي الخلاص إلى الحرية، ثم ينطق برؤية أخرى، منازعه النفس تشير إلى التقاتل الجواني بين السوريين أنفسهم، مما يجعل العرض يتماهى تماما مع أبعاده الوطنية الإنسانية النفسية، وتمثلت بثنائية الروح والجسد؛ إذ تبين عن الألم أكثر، وهي تنزع إلى انطلاقها من الروح، وكيف يتخلص هذا الروح من الجسد، وكيف يتخلص الجسد من روحه المعتمة أيضا؟
واشتغل الرقص على جزئيات عدة، تمثلت بالرؤى العامة أو الجماعية، وهي ترسم المشهد السوري المتمثل بالتشتت والموت والرحيل والعتمة، التي تخفي أي طريق كواقع يجب أن يصل إلى نهايته، وتمثل مرة أخرى بالسفر والرحيل، فكانت الحقائب حاضرة في العرض، تبين معاناة السفر والموت في البحر، وكانت الحقيبة ذات مرة كسينوغرافيا ولادة، بمعنى أن الحالة العاطفية بين الرجل والمرأة كثنائية حميمية؛ إذ جسدها العرض تماما، وكان الناتج كائنا إنسانيا ينبثق من الحقيبة، هناك في بلاد غريبة وبعيدة، وولد بحالة معاناة، ويحاول البحث عن وجوده.
وتمثل الرقص بوعي ذهني وجسدي للممثلين، ويبين عن القدرة التي تتمتع بها أجساد الممثلين، وهي تنقل العرض المسرحي إلى المتلقي، وهذا يعني انشغال العرض بتمرينات رياضية جسدية نفسية وذهنية، فأخذ العرض المسرحي المتلقي منذ بدايته حتى نهايته؛ إذ شكلت الحركة الجسدية بنية العرض المسرحي الرئيسية، بمصاحبة الصوت الغنائي الموسيقي.
ومن الأشياء التي أوجه نظري إليها، وجود الصندوق الخشبي الكبير على خشبة المسرح وهو يبدو كتابوت، وأحيانا يبدو كطاولة ممتدة، وحضور الطاولة يعني الحوار، ولكن الحوار يفشل، ربما كان باستطاعة فريق العمل والرؤية الإخراجية أن تبعده عن الخشبة وتشتغل عليه في ما وراء الخشبة، يعني بحضور حالة الستارة أو الشاشة الكبيرة، وهذا ما يؤدي المعنى الدقيق والمطلوب، وهذا لا يجعل الشاشة تطغى على العرض، وأنا ضد استخدام الشاشة، لأنها قد تأخذ العرض إلى التشتت؛ وفي العرض كان استخدامها محدودا وسريعا، وباستخدام هذه الطاولة يكون العرض تخلص من سينوغرافيا، تلاشت أحيانا فيما بعد عن الخشبة، ويفترض بسينوغرافيا الأشياء أن تستنفذ كل طاقتها على الخشبة.
ومن الأشياء التي قد تكون بخلفية الشاشة، ولادة الإنسان الجديد، ولتبقى الأشياء بارزة على الخشبة باستخدام الحقائب، وقد تنبثق رؤية السينوغرافيا من خلال الحقائب ونتخلص من استخدام الطاولة الكبيرة، فالحقائب كان يفترض أن تستخدم كطاقة حدثية سينوغرافية، لتأتي على استخدامها الأفضل، وهنا نشير إلى استنفاد قدرتها التوليدية، بمعنى استخدام السينوغرافيا بحالات انبثاقية أفضل.
جزئية مهمة أخرى شكلها العرض السوري، إنه الصوت الشعري واللحني الصوفي أو الروحي، لحن الحضرة، وقلت إن العرض يمثل الروح أو الجوانية المتهالكة التي تستدعي الانفراج، ولكنها تبقى معلقة بجوانيتها، وهي تشرئب إلى الخلاص، فكان اللحن الصوفي يزيد بانبلاج جوانية النفس المغبونة، والصراع بالتالي، يبدو جسديا وروحيا، فالجسدي تمثل بالرقص المتعدد، الذي يبين عن غياب التواصل وقهر الجوانية، والروح تمثلت بحالة تقهقر توغل بالحزن والوحدة أكثر، فهذا الصوت مثل الطاقة الجسدية والروحية، ثم الصوت الآخر الذي مثل الشعر، فقد جاء كإدانة للعالم بقهر الشرق، وكان الصوت الشعري يستحضر كل الشرق بماضيه العظيم، ويعاني من وحدته الآن، وهو يقدم قضيته للآخر:
“قل له حانت،
وداعًا أيها العالم القاري،
أنا اليوم شاعر بينكم وغدا نصبٌ تذكاري”.
وبما يعني الآخر، فقد أشرت إلى أن العرض يقدم في ألمانيا، وهنا نرجع مرة أخرى إلى مفهوم إدانة الآخر، فهو شريك بالحدث السوري، وعليه أن يفكر لإنقاذ الإنسانية، فالعرض السوري حضرة حرة يحمل قضيته كمسرح عربي يحدث اليوم، وهذه الرؤية مهمة لمسرحنا العربي، وآن الأوان أن نشتغل عليها أكثر، ولنا مسرحنا الذي يحمل قضايانا، وعليه أن يترحل ويجوب العالم ليشاركنا برؤيتنا، علينا أن نطالب الآخر باتخاذ موقف الآن. ومن جانب آخر، فالعرض إذا ما قدم كما كان في تونس، فهو يحمل إذن الطاقة الفكرية واللغوية العربيتين، وهذا الأمر يتمحور في إطار القضية العربية، ومرة أخرى نستطيع أن نقدم فرجتنا، من خلال التراث الذي يزهو به الشرق، وهنا الإشارة إلى الوطن العربي الكبير، فتراثنا حاضر منذ آلاف السنين، ولغتنا حاضرة منذ آلاف السنين، وستبقى الأرض العربية صانعة رؤى إنسانية عظمية، وعلى الآخر أن يفتح عينيه، بل أكثر من ذلك أن يستدرك ذهنه كحالة وعي تؤكد وجود الأمة العربية، وبغيابها فقدان التوازن، ثم إنها تقاوم وستبقى.
عرض “حضرة حرة”، يندرج أيضا في رؤية المسرح الوثائقي، حضور الشاشة وثّق مشهدية الحدث السوري المنجز وما زال ينجز، فمثل هذا العرض يبين عن حدث زماني مرت عليه سنون عدة، وترسخ بحالة قهرية، ويحضر التوثيق مرة أخرى من خلال الشعر، الذي يبين عن كينونة الشرق/ الإنسان العربي عبر تاريخه، وبالتالي، فعرض “حضرة حرة” يندرج في إطار بصري وثائقي أيضا.
وبالإشارة إلى الشاشة، فقد كانت مرة أخرى ستارة يتلون عليها المشهد، فتبدو خلفية حاضرة وليست رؤية ماضوية مسجلة، إنها واجهة المجتمع المتصارع الآن، لتؤكد غياب الحوار.

المقطوعة الغنائية الموسيقية، غناء عبد الله المنياوي وموسيقى أحمد صالح، وهي تمثل دمجا متماهيا مع العرض المسرحي تماما، بحركاته ورقصاته والشاشة الخلفية أيضا، بل أكثر من ذلك، فالصوت الغنائي الشعري كشف عن جوانية معذبة للفرد، والإنسان العربي يتألم، وعندما يتألم الفرد يرتسم على فيزيائيته ونفسيته عذابات المجتمع بأسره. كان الصوت حاضرا وشعريا، ويمثل صرخة الوطن، ويستجلب الحميمية التي تبدو طافية عبر الأثير، وغير قادرة على الاستقرار، الصوت الشعري يستدعي كل هذا الحنين، وبغياب الحنين يمسي الإنسان كأي شيء لا يدرك الإحساس، ويفتقد ماهيته. كان الصوت الغنائي طربيا يعزف على جوانيتنا جميعا، فالقضية السورية قضيتنا، قضية المتلقي العربي والعالمي، ولكنها قضيتنا بامتياز، نحملها في جوانيتنا ونصرخ، نستولد بصراخنا صراخ الآخر، علّ الألم يتوقف الآن، فالصوت الغنائي والموسيقي جسّ أرواحنا، لينبثق منها عنفوان روحي يمثل ماهية الإنسان، وبعد خروجك من العرض يبقى صوت الغناء والموسيقى والشعر يمخر لبك، إنه صوتك أنت.
وبدا اللون حاضرا في العرض المسرحي، وتمثل باللون الأبيض، فقد بدا اللون حالة نقاء روحي مرة، وقد يبين عن حالة الموت أيضا، إذ كان الزي/ اللباس يغطي جسد المؤدين من الرأس إلى القدم، وعندئذ حضرت الشاشة لتبين عن الفوضى والاضطراب والخراب. والشمس بلونها الأبيض كشعاع، لا تبدو مكتملة البياض، بل تغرق في اللون الأحمر، والمؤدون يرقصون باضطراب. واللون الأحمر لا يشير إلى المأساة والدموية فقط، بل يبين مرة أخرى عن البعد العاطفي، اللون الأحمر رقصة حميمية يصاحبه الغناء والموسيقى:
“خذيني بين راحتيك نحو مكة وطوفي بي،
في نزهة المشتاق... طوفي بي”.
والعرض يغرق في اللون الأحمر، ويبرز اللون الأبيض من خلال اللون الأحمر الطاغي، وهنا نشير إلى ثنائية اللون، فالأبيض يشير إلى حركية الواقع كرؤية تنشغل فيها الحالة النفسية، ولكنها ليست كأمل، فأنا لا أثق كثيرا بهذه المفردة، بقدر ما أستشعر حضور الواقع، ومنه ينبثق الصباح الجديد، ولكن اللون في العرض المسرحي ثلاثي، فالعتمة تبدو حاضرة وتمزج اللون الأحمر والأبيض، وهي الرؤية التي تمثل الحالة السورية، فالصباح يبزغ كل يوم يحيط به اللون الأحمر، ليختفي اليوم على العتمة، ويتكرر كواقع، لينتهي العرض على حالة دورانية تبحث عن استقرار الروح والمكان، وهي تستدعي الرقصة الصوفية مرددة يا وطن، وظلت الألوان الثلاثة الحمراء والبيضاء والعتمة حاضرة، وتبقى سيمفونية يا وطن المشجاة التي يغنيها الجميع.
وبالإشارة إلى اللون، نشير إلى الإضاءة، فاللون إجمالا تشكل بالإضاءة المسرحية، التي أحاطت بتشكلات العرض المسرحي، ونحن نؤكد على أهمية الإضاءة كحضور سينوغرافي أيضا، فالإضاءة لديها القدرة والتميز على تبيان الحدث والوقوف على تمفصلاته، وحضور الإضاءة كأحداث مسرحية يكشف عن الاشتغال الجيد للسينوغرافيا، وكانت الإضاءة حاضرة باشتغال تشاركي متميز، أو تندمغ تماما مع الحدث المسرحي. ونحن نؤكد على أهمية السينوغرافيا في العرض المسرحي المعاصر، لأنها قادرة على حمل العرض المسرحي برؤية فرجوية فكرية، فالمسرح فكر وفن ومتجدد أيضا.
عرض “حضرة حرة” عرض تشاركي، يمثل إدانة للواقع المنجز وما زال ينجز، ويستدعي الآخر؛ لاتخاذ موقف الآن كواقع.
العرض مشترك، سوري ألماني، قدم في تونس، مهرجان المسرح العربي، الدورة العاشرة، تأليف وإخراج محمد ديبان وأسامة الحفيري.


منصور عمايرة