الإدراك والفعل والتطابق في المسرح

الإدراك والفعل والتطابق في المسرح

العدد 557 صدر بتاريخ 30أبريل2018

أسعى في هذه الدراسة أن أبحث الأساليب التي يتم بها ضبط إدراك البنية العامة في حالة إدراك الأداء المسرحي. وأبحث أولا الإدراك perception عموما. وعندئذ سوف أبرهن أن السمة الأساسية للإدراك هي أنه يرتبط أحيانا بالفعل Action. ثم أتحول إلى حالة إدراك الأداء المسرحي – وهو ما أسميه “إدراك المسرح theater perception” – وأدرس دور الإدراك بالنسبة لاحتمال وقوع الحدث في حالة مشاهدة الأداء. وأؤكد أنه لا يمكن تحليل الإدراك تماما دون أن نأخذ في اعتبارنا السمة الموجهة لفعل الإدراك لذاته. فمثلا، إذا لاحظنا بندقية على خشبة المسرح، فإننا نفهمها باعتبارها احتمال الحدث الذي ينتج أفعال يومية بعينها. وهناك فرق واضح، رغم ذلك، بين الطريقة التي يتميز بها إدراكنا في المسرح وإدراكنا في الحياة اليومية. ففي حين أننا نفهم الأشياء باعتبارها منتجة لأفعال معينة لعامل آخر (بمعنى أنها تقدم شيئا للشخصية على خشبة المسرح). وهذا الفرق، الذي سوف يكون حاسما لفهم السؤال الكلاسيكي حول التطابق Identification وانغماس الشخصية، سوف أحلله في الجزء الأخير من الدراسة.
الإدراك المستقل Detached perception:
قبل تحليل إدراك المسرح، نحتاج إلى توضيح بعض الملاحظات المطلوبة حول الإدراك عموما. ويمكن بحث إدراك المسرح بالمقارنة إلى السمات العامة للإدراك خارج المسرح، وسوف أؤكد في هذا التحليل على الصلة بين الإدراك والفعل. وطبقا للرؤية الكلاسيكية، فإن الإدراك مستقل عن الفعل؛ إذ إن الفعل ليس له تأثير أساسي على الإدراك. وطبقا لهذه الصورة يؤدي الإدراك إلى المعتقدات، وقد تكمن هذه المعتقدات في الأفعال أو لا تكمن فيها. والعلاقة بين الإدراك والفعل أحادية الاتجاه Unidirectional: الفعل الذي يميل الوسيط إلى أدائه (في المرة ن) ليس له أي تأثير جوهري وأساسي على تجربته الإدراكية (في المرة ن).
وبالتأكيد يمكن أن يوافق أنصار الرؤية الكلاسيكية أن الفعل الذي أؤديه للمرة الأولى (ن 1) يمكن أن يؤثر في تجربتي الإدراكية في المرة الثانية (ن 2) إذا تلت (ن 2) (ن 1). وعلى سبيل المثال، فإن فعل لفت (تحريك) رأسي في المرة الأولى (ن 1) يؤثر فعلا على تجربتي الإدراكية في المرة التالية. وما ينكره أنصار الرؤية الكلاسيكية هو أن هناك تأثيرا أساسيا للفعل الذي نميل إلى أدائه للمرة الأولى (ن 1) على التجربة الإدراكية في الوقت نفسه. وقد انتقدت الرؤية الكلاسيكية للإدراك بشكل كبير؛ إذ أقيمت الحجة على أن الصلة بين الإدراك والفعل ليست أحادية الاتجاه. فالفعل الذي يميل الوسيط إلى أدائه يملك تأثيرا جوهريا وأساسيا على تجربته على تجربته الإدراكية. وهذه الجملة الأخيرة، رغم ذلك، يمكن أن تعني عدة أشياء. وسوف أبرهن في هذا الجزء أن خبراتنا الإدراكية تعتمد بشكل مغاير أحيانا (وليس دائما) على الفعل الذي نميل إلى أدائه، وسوف أسمي هذا النوع من التجارب الإدراكية “التجربة الإدراكية الموجهة إلى الفعل Action - oriented perceptual experience”. فإذا لم تكن التجربة الإدراكية موجهة للفعل؛ بمعنى أنها لا تعتمد بشكل مغاير على الفعل الذي نميل إلى أدائه، عندئذ سوف أسميها “تجربة إدراكية مستقلة detached perceptual experience”. ودعوتي هي أن بعض (أو جدليا كل) تجاربنا الإدراكية موجهة نحو فعل. وفي الجزء التالي سوف أقدم تعريفا مختصرا لتفسير الإدراك الذي يأخذ في اعتباره الصلة الغنية بين الإدراك والفعل. ثم أنتقل إلى العلاقة بين الإدراك والفعل في حالة إدراك المسرح.
من المؤكد أننا أحيانا ندرك العالم بطريقة مستقلة. وأحيانا يكون الإدراك والفهم مستقلان عن كل منهما الآخر. وربما من الخطأ أن نستنتج من هذا أنهما مستقلان دائما؛ بمعنى أن الإدراك دائما مستقل. ورغم ذلك، لا أريد أن أدعي أننا يجب أن نرفض نظرية الفهم المستقل وتغييرها بنظرية أخرى تأخذ في اعتبارها الاستقلال المتبادل بين الإدراك والفعل. وأزعم أن الإدراك ليس دائما مستقلا، ولذلك لا يمكن تقديم تفسير عام للإدراك يقوم فقط على نموذج الإدراك المستقل. ولذلك أفضل تقديم نظرية كلية تسمح بكل من الإدراك المستقل والإدراك الموجه نحو فعل.
الإدراك الموجه نحو فعل Action - oriented perception
أُعرِّف الفهم الموجه إلى فعل بأنه رؤية إمكانية الفعل في المؤثر: يفهم العامل (الوسيط) المؤثر بأنه يقدم فعلا محددا. ومن المهم أن نؤكد أن رؤية إمكانية الفعل لا تعني بالضرورة أن العامل (الشيء) يفعل – فربما كان هذا صحيحا فقط بالنسبة لردود الأفعال. وبشكل أكثر شيوعا، يفهم العامل إمكانية الفعل، مع أنه لن يؤدي الفعل نفسه. وقد يدرك العامل مختلف الأفعال الممكنة في الموضوع نفسه وتحت مختلف الظروف. إذ يمكنني أن أربط مختلف إمكانيات الفعل بجريدة، على سبيل المثال، في حالة وجود ذبابة في غرفتي وأريد أن أتخلص منها عندما أريد أن أعرف نتائج الانتخابات. وكما رأينا، في حالة البشر، لن يكون الفعل المرتبط بتحديد الإدراك الموجه إلى الفعل، بالضرورة، هو الفعل نفسه الذي يؤدى في الواقع. علاوة على ذلك، لن يكون ذلك الفعل حركيا بالضرورة أيضا، فمثلا عندما أقوم بحل مسألة رياضيات يمكنني أن أدرك فعل الجمع المجرد في علامة الإضافة.
يربط الإدراك الموجه إلى الفعل بين الفعل والإدراك مباشرة بدون توسيط للتصنيفات المجردة والاستنتاجات المبنية على هذه التصنيفات. وهذا التحليل لا يتضمن، رغم ذلك، تفسيرا سلوكيا للإدراك والفعل، ومرة أخرى، لأن العامل في حالة الإدراك الموجه إلى الفعل، قد يرى إمكانية الفعل حتى لو لم يؤدِ ذلك الفعل.
وعندما أقول إنني أرى إمكانية الفعل في منبه (مؤثر)، فلن تكون الحالة التي أصنف المنبه أولا ثم أستنتج من حقيقة أن الأشياء في هذا التصنيف يمكن أن تؤدي إلى حدث معين أنني أستطيع (أو استطعت) أن أؤدي الفعل. فمثلا، إذا رأيت إمكانية الأكل في منبه التفاحة، فهذا لا يعني أنني أصنف هذا المؤثر أولا تحت تصنيف التفاحة، ثم لأن التفاحة صالحة للأكل، فإنني أستنتج أن هذا المؤثر ينتج فعل الأكل. كما أن التصنيف المجرد للتفاحة ليس مطلوبا على الإطلاق لإدراك إمكانية الأكل في مؤثر التفاحة. فعندما نشعر بجوع شديد، نرى العالم وكأنه يتضمن نوعين فقط من الكينونات: الكينونات التي تنتج إمكانية الأكل والكينونات التي تنتج غير ذلك. وسواء كانت هذه الكينونات تفاحا أو كتبا أو حاسوبا لا يهم، فهذه المميزات تلعب دورا فقط على المستوى الأعلى من العمليات الإدراكية.
ففي الإدراك الموجه إلى الفعل، فإن الفعل الممكن، الذي يؤديه العامل، ينظم ما يراه: يميز ملامح المجال البصري الملائم للإتمام الناجح للفعل الذي يميل إلى أدائه. وبذلك تكون الملامح الأخرى بلا أهمية. بمعنى أن العلاقة بين الإدراك والفعل ليست أحادية الاتجاه: قد يؤدي الإدراك إلى الفعل، ولكن الاستعداد لأداء فعل معين يؤثر أيضا فيما نفهمه من العالم وكيف نفهمه.
الإدراك الموجه للفعل هو أكثر أساسية من وجهة النظر التطورية والمتطورة. ويمكن أن يملك الأطفال الصغار قدرات إدراك موجه إلى الفعل، وإدراك مستقل يظهر نسبيا في مرحلة نمو متأخرة من مراحل نمو وتطور الطفل (5). المهم أن ظهور الإدراك المستقل لا يجعل الإدراك الموجه إلى الفعل قديما. فما زلنا نستخدم هذه الأساليب المبكرة والبسيطة في فهم العالم، علاوة على أننا نستخدمها بشكل جدلي عادة أكثر من طاقاتنا الإدراكية المستقلة. فمثلا، عندما أعدو في الشارع للحاق بالحافلة، فليس من المرجح أن ألاحظ أعمدة الإنارة في طريقي بشكل منفصل. فأنا لا ألاحظها كأعمدة إنارة أولا، ثم ربما أقوم باستنتاجات عما إذا كانت تؤثر في هدفي الفوري وهو اللحاق بالحافلة. وإذا قررت أن أفعل ذلك، فربما أتصرف على أساس هذه المعلومة: ربما أحاول تفادي الضوء الصادر منها.
إننا ندرك العالم أساسا بطريقة الفعل الموجه. فعندما أعدو للحاق بحافلة، أرى الشارع وكأنه يحتوي على عدة كينونات، من بينها التي ربما اصطدم بها (الناس والتليفون والصناديق وأعمدة الإنارة والسيارات.. إلخ)، وتلك التي لا أصطدم بها، تسمح لي أن أعدو باتجاه الحافلة. وعندما أحس بمؤثر الأعمدة في طريقي، ألاحظ مباشرة إمكانية الفعل الذي تنتجه (أو تعوقه) دون تأمل الإدراك الذي قد يتطابق معها. فأنا أراها كتهديد وعقبة لفعلي باعتبار أنها شيء أصطدم به، وإن لم أصنفها مثل عمود الإنارة، عندئذ أستنتج أنني ربما أصطدم بها. ورغم ذلك، لا يعني هذا أنني لا أستطيع في مناسبة أخرى أن أرى عمود الإنارة بطريقة مستقلة، عندما أجلس، مثلا، أمامه على مقعد دون أي حاجة محددة لأداء فعل معين.
 الإدراك المسرحي Theater perception:
أنتقل الآن إلى حالة إدراك المسرح، وأدرس دور إدراك إمكانية الفعل أثناء مشاهدة الأداء المسرحي. وأؤكد أن إدراك المسرح لا يمكن تحليله بشكل وافٍ دون أن نأخذ في اعتبارنا سمة الإدراك الموجه للفعل.
يبدو للوهلة الأولى أن إدراك المسرح هو إدراك مستقل، لأنه لا يوجد فعل نميل إلى أدائه ونحن جالسون في قاعة المسرح. وفي الحالات العادية لن نكون مستبعدين من أداء أي فعل أثناء الأداء المسرحي. وهذا هو الشيء الفذ في تلقي العروض المسرحية: لا يهم ما يحدث على خشبة المسرح فنحن لا نتحرك. ومن الخطأ، رغم ذلك، أن نستنتج من ذلك أن تلقي المسرح يجب أن يكون مستقلا. فمثلا، لو أدركنا السلاح الموجود على خشبة المسرح، فإننا في الواقع ندركها باعتبار أنها منتجة لأفعال معينة.
وهناك فرق واضح، رغم ذلك، بين كيف يميز الفعل إدراكنا للمسرح والإدراك العادي. فبينما نفهم الشيء في الإدراك العادي باعتباره منتجا لأفعال بالنسبة لنا، فإنه في حالة إدراك المسرح نفهم الشيء باعتباره منتجا لأفعال معينة بالنسبة لعامل آخر (أعني إحدى الشخصيات على خشبة المسرح). فمثلا، عندما تلتقط الملكة (في الفصل الأخير من مسرحية “هاملت”) كأسا وتشربه، نعرف - نحن المشاهدين - أن الكأس به خمر مسمومة، وهو أمر يعني الكثير بالنسبة لـ«هاملت»، ولكن “جرترود” لا تعرف أن الكأس مسمومة. والسؤال هو ما الذي يفهمه الشخص الذي يشاهد هذا المشهد في المسرح. هل الكأس تنتج أي فعل بالنسبة لنا؟ وهل نحن قلقون على حياتنا؟ أو بشكل متبادل، هل نفهم هذا التتابع بطريقة مستقلة، دون أن ندرك نوع الفعل الذي يمكن أن ينتجه الكأس بالنسبة للشخصيات؟ أعتقد أنه لا ينتج أيا من الفعلين. فنحن نرى الفعل الذي ينتجه الكأس، وهو تحديدا قتل شخص ما. ورغم ذلك لا نرى الخطر الذي ينتجه هذا الحدث بالنسبة لنا، بل بالأحرى نرى هذا الخطر بالنسبة للشخصية الخيالية على خشبة المسرح، وهي تحديدا «جرترود». وربما هناك مثال أبسط وأوضح من خلال عروض العرائس واسعة الانتشار، حيث نرى العروسة التي لا تلاحظ أخرى تقترب منها بسلاح من نوع ما (مقلاة) من الخلف. فينفعل الأطفال المشاهدون لهذا الموقف بقوة: يصيحون على العروسة الأولى في محاولة لتحذيرها من الخطر.
ولذلك نرى مكان الأداء باعتباره منتجا لفعل معين لأحد الشخصيات علي خشبة المسرح. وما ينتجه الفعل، رغم ذلك ليس هو غالبا السلاح أو الكأس المسمومة أو المقلاة. فالشائع أن ما نراه ليس فعلا محركا منتجا بواسطة شيء، بل فعل لفظي أكثرا تطورا أحيانا من الشخص. فمثلا في مسرحية (بريخت) «أوبرا البنسات الثلاثةThe Three Penny Opera «، يدخل «ماك «السجن ولا يرى أي سبيل للهرب قبل دخول» لوسي» ابنة ضابط الشرطة. فما يدركه المشاهدون هو أن «لوسي تمثل أمله الوحيد في الهرب وفق اقتناعه، وأنها فكرة جيدة سوف تطلق سراحه، رغم حقيقة أنه رفضها عدة مرات من قبل. ومرة أخرى، بينما أجلس وسط المشاهدين أشاهد هذا الأداء، لا يوجد فعل يمكن أن أميل إلى أدائه في ما يتعلق بـ«لوسي»، إذ لا أرى «لوسي» بطريقة مستقلة، وأتجاهل كيف أن مغامرتها يمكن أن تؤثر في مستقبل «ماك». فلو كنت مشغولا بـ«ماك» فعندئذ تعتمد تجربتي الإدراكية بشكل مغاير على الفعل المركب الذي يميل «ماك» إلى أدائه مع «لوسي»، فأنا أراها الميسر لفعل هروب «ماك» بشكل كامن. بمعنى آخر، أرى أن لوسي منتجة لفعل شديد التعقيد، رغم أنه ليس من أجلي، بل من أجل «ماك».
توحي هذه الأمثلة أن إدراك المسرح يقع في مرحلة بينية بين الإدراك المستقل والإدراك الموجه إلى فعل. وهو إدراك أكثر استقلالا من الإدراك الموجه إلى فعل لأنها ليست حياتنا هي التي تكون على حافة الخطر، بل حياة شخصية خيالية على خشبة المسرح. ورغم ذلك فإنه أقرب إلى الإدراك الموجه لفعل منها إلى الإدراك المستقل. لأننا نرى فعلا مكان الأداء باعتباره يحتوي على أفعال ليست من أجلنا بل من أجل شخص آخر. وهذه هي لب فكرة المسرح التي تسحرنا بمساعدة مفهوم التطابق وانغماس الشخصية.


 التطابق:
ترتبط الظاهرة التي وصفتها آنفا بأحد أقدم الأسئلة الفلسفية عن تلقي الأداء المسرحي، وهي تحديدا ظاهرة التطابق Identification. ويلخص (موراي سميث Murray Smith) هذه الظاهرة كالتالي:
 “الإيهام هو أنني (كمتلقٍ) شخصية في قصة العالم. أواجه مآزق وتجارب
 وتجارب إحدى الشخصيات، أو بحذر أكثر، أعود إلى التخيل من داخل
 تجربة الشخصية. وقد يمكن أن أقول، بلغة شائعة، إنني أؤكد هذه
 هذه الشخصية”.
يوضح هذا الجزء أن التطابق يفهم عادة باعتباره تخيلا من الداخل. والرؤية المعيارية للتطابق مع الشخصية في المسرح (أو في السينما وفن الرسم)، هي أن هذه العملية هي صيغة التخيل من الداخل. ويعبر (كيندال والتون) عن هذه الفكرة نفسها: “بالطبع، نحن نتطابق مع الشخصيات الخيالية، واقتراحي غير المدهش هو أن ذلك يتعلق بتخيل شخص في ثوب الشخص الذي يتطابق معه”(8). ويصوغ (جريجوري كورييه) مصطلح “تخيل ثانويSecondry Imagination” (لكي يقارنه بالتخيل الأولي Primary imagination الذي يبني العالم الخيالي للعمل الفني) لمي يشير إلى هذه الظاهرة:
 “عندما نستطيع، أثناء التخيل، أن نشعر مثلما تشعر الشخصية بأن خيالاتها
 تشدها، فإن عملية تجسيد تقمص موقف الشخصية هو ما أسميه التقمص
 الثانوي. ونتيجة لأنني أضع نفسي أثناء التخيل في مكان الشخصية، فإنني
 أصل إلى امتلاك صيغ خيالية للأفكار والمشاعر والتوجهات التي أستطيع أن
 أمتلكها في ذلك الموقف”.
ومن قبل (والتون) و(كورييه)، استخدم (فولهايم) فكرة التخيل من الداخل imagining from inside لكي يصف عملية التطابق. إذ دعا بوضوح أن الشخص المتخيل Imagined person بشكل أساسي - إن كان هناك مثل هذا الشخص – فإنه متخيل من الداخل (10). فما يعنيه (فولهايم) بالتخيل المركزي central imagining هو:
 “عندما أتخيل بصريا، أو أتصور، فعلا، فهناك صيغتان لذلك. أستطيع أن
 أتخيل بعيدا عن وجهة نطر أي شخص: يفتح التخيل إفريزا عبر فجوة.
 أو أستطيع أن أتخيل من وجهة نظر أحد المشاركين في الفعل الذي تخيله من
 الداخل. وهذه الصيغة الأخيرة أسميها (التخيل بشكل مركزي Centrally
 Imagining)”.
وتبعا لـ(فولهايم) سوف أستخدم مصطلحي “التخيل المركزي” و”التخيل من الداخل” بشكل تبادلي. ولكن ماذا يعني كل من التخيل المركزي والتخيل من الداخل؟. التخيل من الداخل يعني أن نتخيل باستخدام تجارب شخص آخر. ويحلل (كيندال والتون) مفهوم التخيل من الداخل باستفاضة في كتابه «المحاكاة والتظاهرMimesis and Make - believe»:
 “التخيل من الداخل هو نوع من التخيل الذاتي الذي يوصف بشكل مميز بأنه
 تخيل فعل شيء أو ممارسة شيء (أو أن أكون شيئا محددا)، في مقابل
 التخيل فقط، بمعنى أن أمارس أو أفعل شيئا، أو أملك خاصية معينة”.
بمعنى أنني عندما أتخيل (أ) من الداخل، عندئذ أتخيل امتلاك الخبرة الإدراكية لـ(أ). ويعبر (جريجوري كورييه) أيضا عن فكرة مماثلة: «ما نتخيله في حالة التخيل الثانوي هو مبدئيا تجربة الشخصية (13). فالتخيل من الداخل (أو التخيل المركزي أو التخيل الثانوي) يعني أننا نتخيل امتلاك خبرات عامل آخر. بمعنى أنني في هذه الحالات أتخيل امتلاك نفس تجارب شخص آخر. ولذلك فإن صورة التخيل من الداخل محيرة تماما. أولا، لأنه لا يتضح فيها إلى أي مدى يفترض أن تكون التجارب مماثلة. ثانيا، لا تتبع بعض حالات التطابق الواضحة (أو الانغماس في الشخصية) نفس النهج. فالأمر يتطلب بعض التوضيح أو التعديل للتخيل من الداخل.
واقتراحي هو أن التخيل المركزي (وكذلك التطابق) يجب أن يفهم من سياق تفسير إدراك المسرح الذي قدمته في الجزء السابق. وبالمقارنة يمكن أن يتطابق “التخيل اللامركزي acentral imagination” مع الإدراك المستقل، الذي لا نرى من خلاله إمكانية أي فعل مؤثر. فنحن نتخيل الموقف بشكل مركزي، رغم ذلك، إذا رأينا (أو تخيلنا) الموقف باعتباره منتجا لفعل معين بالنسبة لشخص على خشبة المسرح.
التخيل اللامركزي يعني أن المتلقي لا يتطابق مع أي شخصية على خشبة المسرح. وهذا يساوي القول إن المتلقي لا يلاحظ أي شخص (أو أي شيء) منتجا لأفعال بالنسبة لإحدى الشخصيات. وبشكل جدلي، فإن رؤية مكان الأداء ليست منتجة لأفعال بالنسبة لأي من الشخصيات في الأداء، وهو أمر نادر عندما يوجد شخص ما (أو دمية بالضرورة) على خشبة المسرح.
ورغم ذلك، لا يعني هذا أن التخيل اللامركزي (الذي يمكن أن يكون مساويا للإدراك المستقل ليس ممكنا في المسرح. علاوة على ذلك تتضمن بعض الأداءات عددا كبيرا من المشاهد حيث لا شيء مما نراه يهتم بأداء فعل لأي شخص. فالمشاهد البطيئة والمشاهد ذات الطابع الأسلوبي في الأداءات المسرحية المبالغ فيها في أعمال (روبرت ويلسون) تفدم أمثلة واضحة لحالة المشاهدين.
ويستطيع مخرجون مثل (ويلسون) أن يتميزوا في الواقع بشكل جيد بناء على كيفية التطبيق ومحاولة إثارة التخيل المركزي واللامركزي. وتقدم عروض العرائس ومشاهد كوميديا العصا الغليظة (المقرعة) الحالات الأكثر وضوحا في التخيل المركزي عن طريق مشهد ينتج أفعالا محركة بسيطة قابلة للإدراك بسهولة. والمخرج البولندي (جيرزي جروتوفسكي) والمخرج البريطاني (بيتر بروك) هما النموذجان الرئيسيان للتطبيق المركب والبارع للتخيل المركزي. وبالمقارنة يقدم مسرح كل من (تادوش كانتور) و(إنجمار                    ) و(روبرت ويلسون) مواقف للمشاهدين والشخصيات يصعب فيها أن نرى أي شيء أو أي شخص على خشبة المسرح باعتبار أنه شيء في حركة. وما أود أن أقترحه هو أن الفرق بين التخيل المركزي واللامركزي لا يعني فرق جودة لأي نوع: التخيل اللامركزي ليس أقل تحديدا من التخيل المركزي. فما يجعل الأداء المسرحي ممتعا هو بالتحديد التفاعل بين هاتين الصيغتين من تلقي المشاهدين تجاه ما يحدث على خشبة المسرح.
وقد لاحظنا أن كل يوم تلقي هو ظاهرة متنوعة: فأحيانا يكون مستقلا، بينما في أحيان أخرى يكون موجها للفعل. ولكي نفسر الإدراك عموما فإن كلا هذين الشكلين في الإدراك يجب أن يؤخذ في الاعتبار. فإدراك المسرح متنوع: فأحيانا نتخيل الموقف بشكل مركزي (بمعنى أننا أحيانا نتطابق مع إحدى الشخصيات)، ولكن أحيانا نفعل العكس. ولذلك، يجب أن يستوعب إدراك المسرح كل من التخيل المركزي واللامركزي. ومع ذلك، يتصادف أن تكون الحالة أنه في الإدراك اليومي وفي المسرح يكون أغلب ما نراه مرتبطا بإمكانيات الفعل (الحدث)، ويقترح أن يكون الإدراك المستقل (أو التخيل اللامركزي) أقل شيوعا.
 الخاتمة:
لا يمكن تحليل إدراك المسرح من دون أن نأخذ في اعتبارنا الصلة بين الإدراك والفعل. ولعل أبرز فرق في المقارنة مع الإدراك اليومي ليس أن إدراك المسرح مستقل عن الحدث، ولكن إدراكي مرتبط بفعل شخص آخر. فأنا أرى الأشياء (وأحيانا الشخصيات الأخرى) على خشبة المسرح باعتبارها منتجة لأفعال من أجل شخص آخر. وهذا التلخيص لإدراك المسرح لا يهدف إلى تقديم نظرية عامة جامعة لوصف كل صورة لتجربة المشاهد في المسرح. والسؤال الحاسم، على سبيل المثال، في ما يتعلق من هي الشخصية التي نتطابق معها وقد تم تجنبها. وبدلا من ذلك، فإن التركيز هنا يكون على مكان الأداء باعتباره منتجا لفعل معين لإحدى الشخصيات. ولكن يبقى السؤال المهم: من الذي يقرر من هي الشخصية؟ في مشهد (بريخت) مع «ماك ولوسي» الذي وصفناه سابقا، فإنني أرى الموقف باعتباره منتجا لفعل معين بالنسبة لـ”ماك أو لوسي”؟ فهل يمكن أن أتطابق مع شخصية واحدة في بداية المشهد وأتطابق مع شخصية أخرى في النهاية؟ ما الذي يثير التطابق مع الشخصية بالضبط؟ لكي نجيب على هذه الأسئلة، يجب أن نأخذ في اعتبارنا نظاما أعلى من العمليات الإدراكية. فما أسعى إليه في هذا المقال هو تجنب نظرية إجمالية، ولكن نحلل بطريقة مثيرة السمات الأساسية لإدراك المسرح، وتقديم أساس وشرح لإمكانيات المزيد من الدراسات لتجارب المشاهدين في المسرح.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
 بنس ناناي Bence Nanay حصل على درجة دكتوراه الفلسفة من جامعة كاليفورنيا – بيركلي – الولايات المتحدة الأمربكية، وقدم الكثير من الدراسات في مجلة Journal of Aesthetics and Art critiscim.
 نشرت هذه الدراسة في كتاب (فلسفة الأداء المسرحي) إعداد (ديفيد سولتز) و(ديفيد كريزنر) الصادر عن جامعة ميتشجان عام 2009. وهي تمثل الفصل الثاني عشر (ص244 - 254).


ترجمة أحمد عبد الفتاح