في شقة عم نجيب المرأة هي الأمل

في شقة عم نجيب المرأة هي الأمل

العدد 552 صدر بتاريخ 26مارس2018

يقدم مسرح الغد الآن عرض “شقة عم نجيب” من تأليف د. سامح مهران وإخراج جلال عثمان. وهو بالتأكيد عرض جدير بالمشاهدة ومن ثم المناقشة. لترى هل تتفق معه كلية؟ أو معظم ما جاء به شاننا؟ أو تختلف.. أنت حر.
صحيح أن نص العرض اعتمد في الأساس على شخوص الراحل نجيب محفوظ؛ في عدة روايات شهيرة له. وخصوصا الروايات التي لامست وحاولت أن تفسر الواقع المصري في الفترة المعاصرة له؛ وأيضا رصد بعضا من تغييرات من الممكن أن تطرأ سواء كانت سلبا أو إيجابا.
دعك من أن مهران لم يكن معدا عن الروايات؛ بل الحقيقة إنه؛ أي مهران، قد واجه نجيب محفوظ/ المجتمع. وحاول – وقد نجح – أن يخرج بالناس من أسر الاستمتاع والتحسر للمواجهة، بل وتجاوز هذا وأبدى رأيا في القادم ومن سيأتي به.
ولكي تكون معنا نخبرك أن نص العرض باختصار غير مخل؛ يدور حول الرجل والمرأة اللذين يبحثان عن شقة أو مكان يقيمان فيه، ويلفت انتباههم إعلان عن شقة بالعجوزة على النيل وإيجارها زهيد، وبذهبان ويقابلان شخصا من باشوات ما قبل 52، وبعد حديث ومجابهة وانتقاد للأحوال التي تغيرت بعد 52، يسمح لهما بالبقاء في الشقة مقابل تخليصه من الأشباح التي تسكن فيها. وعندما يهم الزوجان بممارسة الحياة يخرج إليهما من الدولاب شخصيات (سي السيد وأمينة وزبيدة) ثلاثية محفوظ الشهيرة. ويكون النقاش بين السيد الرجل من جهة حول معاملة الزوجة وأن دورها ينحصر في تربية الأبناء الذين يأتون من ممارسة الجنس معها لخمس أو ست مرات في الحياة؛ لزوم الإنجاب فقط. أما المتعة فتأتي من زبيدة ومعها.. وبلا فعل ينجح السيد وزبيدة في إدخال الرجل للدولاب معهما؛ بعدما نجحت زبيدة في جعل كل من السيد والرجل مجرد حمارين. بينما تفشل زبيدة في إقناع المرأة بالدخول للدولاب. بعدها تقابل الأشباح الثانية وهم عبارة عن (محجوب عبد الدايم من القاهرة 30) وتابعيه، يطلبون منها الامتثال وعدم التقيد بأي شيء. وهنا يترك الكاتب تعامله مع الماضي ليقذف بنا للحاضر عندما يصرح (محجوب) بأنه هو وأعوانه قد تغلغلوا في كل شيء حتى المصالح الحكومية. صحيح أن هذا التحرك لم يكن وجوبيا أو زاعقا أو خارجا عن إطار. ولكن التصريح به جاء على ما يقرب من شكل المضارع المستمر؛ ذاك الذي حدث في الماضي ولكن أثاره ما زالت في الحاضر. وتدور رحلة المرأة في كل أنحاء الشقة لتواجه أشباحهها المتمثلة في أبطال روايات نجيب محفوظ. لنصل في الأخير لـ(علي طه) المثقف الثائر في القاهرة 30 وهو الشبح الوحيد المعلق على الحائط؛ أي هو مفعول به حتى في وسط الأشباح. وبطلة السمان والخريف المحبوسة في الثلاجة. وتخرجها المرأة. ولكن سرعان ما يأتي الأشباح ويعيدون علي للحائط وريري للثلاجة. وقبل أن نختم حديثنا عن ملخص نص العرض، نرى لزاما أن نقول إنه ورد في أثناء الحوار ما يفيد بأن نجيب محفوظ لم يخلق أو يبتكر هذه الشخصيات؛ وإنما جاء بها من الواقع الذي عايشه. نعم، من الممكن للنقاد والعارفين بأمر روايات محفوظ أن يمنطقوا الأحداث طبقا لشخوص وأحداث القصص وأزمنتها.
لهم الحق في ذلك. ولكن سامح مهران لم يشأ أن يقف الأمر عند تأويل بعض المثقفين أو العارفين بعالم محفوظ. فبنظرة سريعة ستدرك أن القصص أو الروايات التي استند عليها أو حرك أشباحهها، هي قصص وروايات تحولت إلى وسيط السينما. ومن ثم فإن ظهيرها الجماهيري تهدى قطاع القراء إلى قطاع المشاهدين؛ وهو قطاع أكبر وأشمل؛ لا يحوي المجتمع المصري فقط بل يمتد للعربي أيضا في الكثير من الأحيان. بل ربما عليك أن تعود في بعض الأحيان لوقت ظهور الفيلم ذاته لا القصة. هل تريد مثالا من الممكن أن يوسع مساحة التأويل عند من يعرفون جيدا عالم محفوظ وتواريه الخروج السينمائي؟ ليكن عندك مثلا لوحة النهاية التي ارتكزت على السمان والخريف. وكيف أنها بدأت بشخصية من ينتمون لأحزاب ما قبل 52 وكيف انتهى دوره ونفوذه بعدها. ثم عام الإنتاح 67. نعم من الممكن الربط بين تواريخ القص أو التواريخ الواقعية للشخصية؛ وتاريخ إنتاج الفيلم لكي تدرك شيئا ربما بدأ عند السينمائيين دون وعي واستكمله مهران ولكن بوعي. وربما ستقف عند ملمح أو منحى آخر لمحفوظ ذاته.
ومع فك بعض الرموز والإسقاطات البسيطة عن الشقة بحد ذاتها والأشباح والدولاب.. إلخ. ثم الفارق بين الشبح الفاعل الذي يتحرك والشبح المفعول به المأسور. لن تبذل جهدا كبيرا لنجد أن سامح مهران يقول إننا ما زلنا نعيش بل ومحكومين بالماضي المتمثل في هذه الأشباح التي تطاردنا دائما.
ثم يشير بكل جرأة إلى أن الرجل الآن في عمومه لو أتيحت له الفرصة سيدخل في الدولاب مع السيد أحمد عبد الجواد وزبيدة وأمينة؛ أي أن الرجل المعاصر مهما ادعى من تحرر وثقافة، فهو ما زال على نظرته الرجعية التي تفرق بين الزوجة والبيت من جانب ومتعته الشخصية من جانب آخر. كيف أنه في سبيل متعته من الممكن أن يتنازل غن طيب خاطر وبأريحية تامة عن رجولته، بينما يحاول أن يمارسها على بيته، ليجعلك تقف أمام سؤال سرعان ما ستجد الإجابة عليه من خلال أحداث مهران نفسها. هذا السؤال هو: هل التنازل عن الرجولة في سبيل المتعة قناع يخفي الوجه الحقيقي، أم أن ادعاء الرجولة في المنزل وعلى الأولاد والزوجة هو القناع؟ الحقيقة إن مهران أجاب على هذا، فالرجل ترك زوجته طواعية وسارع بالدخول للدولاب/ التاريخ/ الماضي حيث سيجد نفسه. لدرجة أنك تشك أن مهران يقول إن التحقق بالنسبة للرجل على مستوى الماضي القريب الأبعد منه كانت في كيفية الحصول على المتعة والتخلي عن الواجب. وعندما ظهرت الحاجة لفعل أو الرجولة الحقة دخل في إطار الماضي أو حاول اجتراره.
بل إن هذا الرجل دعا زوجته لسماع أوامر (محجوب) الديوث! وعندما نعرف من سياق الأحداث وكما قلنا من قبل إن محجوب قد تغلغل في كل شيء في المجتمع؛ أي أن الدياثة أصبحت ملمحا عاما لا على مستوى التأويل الأحادي للكلمة، بل كل ما يمكن أن يندرج تحتها من صفات في كل الاتجاهات عامة أو خاصة رسمية أو أهلية.
وإذا كانت شقة عم نجيب هي الوطن حاليا؛ المحكوم بماضيه، بل إن المتحكم فيه هو نفسه شبح ماضوي (الباشا السابق والثري) وإذا كان قد دخل الشقة اثنان هما رجل وامرأة يمثلان الحاضر ربما. ولتكوين الرجل وثقافته آثر الدخول والعيش مع أشباح الماضي. فإن المرأة وحدها هي من ترفض وتخرج هنا من الإطار أو المكان الحاكم. والخروج هنا ليس خروجا من الوطن وإنما خروج عن سيطرة الأشباح وبالتالي عليها البحث عن رجل جديد، فهل ستجد؟ أم عليها الإكمال وحدها. سنجد أن المرأة هنا هي الأمل في رفض الواقع، وفي نفس الوقت هي البادئة في السير أو الخروج نحو المستقبل. ربما سيحاول البعض أن يسقط على المرأة الكثير من المعاني، ولكنني أعتقد أن مهران قصد المرأة فقط. نعم المرأة في عمومها كأنثى وأم وزوجة.. إلخ. وعلى المستوى الآخر من جهة النخبة أو من يقال عنهم كذلك من المثقفين، سنجده وضع (علي طه) كالبرواز أو الحلية داخل شقة الأشباح؛ أي أن وظيفته انتهت داخلها، وربما لم يعد له امتداد خارجها، ونزع عنه الفعل متعمدا، لأنه؛ أي المؤلف، أدرك بكل بساطة أنه لو أن هناك فعلا ثقافة حقيقية ممتدة خاصة من حقبة ظهور الأفلام (أي ما بعد 52)، فلن تكون الأشباح بهذه الكثرة ولا القوة، بل وعلى أضعف الإيمان لكان عنصرا مقاوما في الداخل. فهل انضم مثقفو هذه الأيام مع الرجل في عمومه داخل الدولاب؟ بل هل فعلا نحن فقدنا ثقافتنا التي كانت وأصبحت أسيرة من قبل أشباح الماضي؟ سؤالان يطرحان نفسيهما، مع أن الإخراج لم يركز عليهما وهذا سنتحدث عنه في حينه.
إذا كنا قد أشرنا لبعض الإشارات والعلامات والتاويلات التي يزخر بها نص العرض، ونظرا لضيق المساحة لم نتمكن من سرد كل ما يحتوي عليه، واعتمدنا فقط على ما يمكن أن يصل للرجل العادي الذي شاهد هذه الأفلام مرارا وأصبحت جزءا من ثقافته وتكونيه، فمن الممكن أن ندخل لعملية التفعيل أمام الجمهور لتكوين العرض المسرحي التي قام بها المخرج جلال عثمان.
أولا: العرض كان يستوجب التحول بين أرجاء الشقة وأشباحها؛ وقبلا المكان الخارجي قبل الدخول للشقة. ولو تعامل بالطريقة الاعتيادية لاستوجب الأمر الكثير من لحظات الإظلام لتغيير الديكور، ولو تعامل على طريقة اللقطات المتتابعة أو الفوتومونتاج سيفقد المكان والأثاث المشارك في البطولة، وخصوصا الدولاب وجوده بما سيضر بالحدث الرئيسي. فجاء الحل من ثنايا النص نفسه ومن خلال ما يفعله أي شخص حينما يعاين شقة يستأجرها، ألا وهو التجول في المكان. وحتى يطبق هذا التجول من خلال قاعة عرض مسرح الغد التي هي على شكل مستطيل، جاءت الفكرة أن يضع الجمهور في قلب الحدث/ الشقة/ مستطيل صغير داخل المستطيل الكبير، ثم كانت الأماكن موجودة على جوانب المستطيل الكبير، مع استخدام المقاعد القابلة للدوران لكي يدور الجمهور نحو مكان الحدث، أو ليتجول مع الحدث بعينه وحركته الواجبة لتحريك المقعد نحو اتجاه الحدث. نعم، هذا الوضع جهل من جانبي المستطيل الكبيرين الممثلين لقاعة العرض واللتين هما أماكن بالحدث، جعل منهما أشبه بالمنظر المسرحي القديم حيث كانت المساحة قليلة جدا لتكوين النقطة الثالثة وانحسر الأمر في مجرد ممر. ولكن الحقيقية نجح المخرج ومهندسة الديكور نهاد السيد في التعامل بحيث اختارا الأماكن التي لا تستلزم عمقا ليكونا في هذه الجهة. أما جانبا مكتب أو قاعة استقبال الباشا وغرفة النوم فكانتا في الضلع الصغير ومقابله مشهد الثلاجة وجدار (علي طه) حيث العمق موجود ويمكن التحكم فيه بما لا يضر بوضعية الجمهور. والحديث عن الديكور ووظيفته في العرض ودلالته بشكل مفصل أعتقد أن المساحة هنا لا تكفيه، فلأتركه للآخرين أو لمقال آخر إن لم يحدث.
سيقول البعض إن الجمهور بهذه الوضعية جاء مشاركا بالحدث ومتفاعلا مع من يريد شغل الشقة من خلال التجول فيها والتعرف عليها؛ وفي نفس الوقت لا يركن الجمهور لعملية المشاهدة السلبية، بل عليه أن يبذل جهدا لكي يشاهد. وطبيعي أن أتفق مع هذا الطرح. ولكن هناك في هذا التعامل وظيفة قد تساعد المشتغلين بعلم النفس وعلم الاجتماع وما يتفرع منهما؛ على وضع تصور يقترب من الصحة لطبيعة المتعاملين مع المسرح من الجمهور/ المجتمع، فعملية الدوارن هذه خلف الحدث تغير من المواقع، فمن يكون في الصف الأخير سيكون في الصف الأول في مشهد ما، كما أن الصفوف الأولى والأخيرة بعملية التدوير هذه تشكل الإطار الحاكم للمتلقين فهم أضلاع المستطيل الحاوي للمجتمع. ومع تطور الأحداث طبقا للقصص المروي عنها ستجد أن هذا الاتجاه موجود لحد كبير. الوحيدون المحافظون على مجال رؤيتهم هم من يجلسون في الوسط حيث لا مجازفة هنا. ولكنهم أبدا لن يستطيعوا الوصول للصفوف الأولى مهما ظنوا أن وضعهم ممتاز، فلو كان هناك متصور أن هناك إشارة لمن يحل في المنتصف على المستوى الاجتماعي ومن يجازف ليكون حينا في المقدمة وحينا في المؤخرة؛ بحيث يحظى في بعض الأوقات بوضعية أكثر امتيازا من الباقي.. لن يكون تعسفا أو إقحاما، ولأشد ما أتمنى أن يفطن من يهمه الأمر لهذه الوضعية وتكون مخططات الصالة أمام الجمهور مسبقا لاختار هو مكانه مع وضع سعر محدد للتذكرة في عمومها. وليأت المهتمون ليفحصوا من اختار الصفوف الأولى والأخيرة؛ وبين من قاتل ليكون في المنتصف. لربما نخرج بشيء.
ولكن قبل أن ننهي حديثنا تلح في الذهن بعض الأسئلة، خصوصا أنني عرفت أن نص العرض قد تم التصرف فيه، ولم يكن متطابقا كلية مع نص مهران المكتوب والمقدم.
البداية بين الرجل والأنثى التي كانت في الخارج أو الشارع والتي تصور بحثهما عن شقة، والقريبة لحد كبير بقصة (الحب فوق هضبة الهرم)، هل كان من الضروري محاولة انتزاع أكبر قدر من الكوميديا من خلال أثلبة الشخصية ومحاولة التصوير بأنهما شريحة دنيا ثقافيا وماديا؟ أم كان يمكن الاكتفاء بالتصوير المعادل للجميع؟ التصوير الوسط الذي يحوي الخريج والمثقف دون أثلبة، حتى يستطيع الطرح الفكري أن يصل لمبتغاه، فرجل بهذا الشكل وهذه المرجعية من الممكن أن تقبل منه الدخول في الدولاب. مع أن مهران لم يقصد هذا الرجل وإنما الرجل عموما. فهل كان التصوير بما يشابه بطلي محفوظ أجدى للفكرة؟
ثم بداخل الشقة وجدنا هناك لونين فقط هما الأبيض والأسود، ومع صراع الأبيض والأسود هذا يكون السؤال مَن مِن اللونين دخل على الآخر حتى يكون هذا الصراع؟ وليست عملية توزيع فقط، فهناك مناطق هي في ظني وطبقا لتأويلي هي مصدر الأسود نفسه وغلب عليها الأبيض.
ولكن وبما أني شاهدت العرض في ليلته الأولى، ونحن للأسف نستكمل ما تحتاجه العروض بعد الافتتاح في الغالب، قد ترد الإضاءة واستخدامها لتضفي انطباعا مغايرا، خاصة إذا انعكس الأبيض وظيفة لم نرها. وربما كانت هناك زيادات سيكون أمامها وقفة. وربما هناك بعضا من الإكسسوارت لم تصل. كان من الممكن من خلالها أن تحصر الدالة وتؤكد العلامة.
الخلاصة، هو عرض جيد يسبح فيه مؤلفه ربما ضد بعض التيارات العنيفة، وجاءت عملية تفعيله من خلال المخرج وعناصره المساعدة لتقف معه في نفس الصف. فهم جميعا يقدمون رؤية للمجتمع وسبب ما فيه وإشارة للخروج لا مجرد عمل مسرحي ينتهي أثره بانتهاء المشاهدة.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏