مسرحية نجمة الصبح !!

مسرحية نجمة الصبح !!

العدد 865 صدر بتاريخ 25مارس2024

لاحظنا في العروض المسرحية الأخيرة لفرقة الريحاني، أن دور البطولة النسائية لبديعة مصابني، لم يكن مناسباً لها كونها بطلة الفرقة، ولعل هذا سببه اهتمام بديعة بصالتها الغنائية في شارع عماد الدين أكثر من اهتمامها بفرقة الريحاني المسرحية!! ونتيجة لذلك ساءت الأحوال بين الزوجين مرة أخرى، مما أدى إلى انفصالهما تماماً، وفشلت كافة المساعي لعودتهما، فتم الطلاق بينهما بصورة إدارية، أي بالابتعاد عن بعضهما لمدة سبع سنوات حتى يحق لأي منهما الزواج مرة أخرى، وذلك وفقاً لمذهبهما الديني!! ومع بداية الموسم المسرحي الجديد ضم الريحاني إلى فرقته بطلة جديدة بديلة لبديعة، وهي المطربة الشامية «هدى قصبجي» - ظناً منه أنها ستسد فراغ بديعة وتتفوق عليها - رغم أنها ستقف على خشبة المسرح لأول مرة في حياتها!!
بدأت فرقة الريحاني موسمها بمسرحية «نجمة الصبح» في نوفمبر 1929 من تأليف بديع خيري ونجيب الريحاني وبطولة الآنسة «هدى»، وألفريد حداد، ومحمود التوني، مع غناء لأم كلثوم بين الفصول، وذلك جذباً للجماهير، خشية إحجامه بسبب عدم وجود بديعة مصابني!! 
كتب «أبو المعالي» كلمة قصيرة عن العرض في مجلة «مصر الحديثة المصورة»، بدأها بملخص قال فيه: «نجمة الصبح» قصة من قصص «ألف ليلة وليلة»، تعرض في صورة فكهة حياة رجل «حلواني» من الطبقة الأمية ببغداد أحب سيدة جميلة فاتنة كانت تتردد عليه لشراء بعض ما يلزمها من الحلويات، حتى ملكت عليه لبه وشردت عنه عقله وقلبه فهو دائماً مطرق حزين يفكر في معشوقته بعد أن يبث شكواه إلى صديقه «عبده» الذي يدله على ساحر يستطيع بتأثير سحره أن يجعلها تخضع لسلطان غرامه على أن يدفع له مبلغاً من المال. وتأتي ظروف غريبة تجمع الحلواني بأمير المؤمنين هارون الرشيد ووزرائه في مأزق حرج فتكون نجاتهم على يديه، وعندما خرج أمير المؤمنين من ذلك المأزق لم ينس المعروف فعيّن حسن الحلواني مستشاراً لمملكته.
بعد هذا الملخص بدأ الكاتب في مدح العرض قائلاً: أخرجت الفرقة هذه الرواية باستعداد كبير في المناظر والملابس الموضوعة طبقاً للذوق الحديث في فن الرسم المسرحي، الذي انفرد مسرح الريحاني وحده بحسن ما يعرضه على النظارة من المناظر في جميع رواياته. وهذه الرواية تكاد تكون من أحسن الروايات التي أخرجتها الفرقة في الأعوام الماضية، وهي وإن كانت تجمع بين الريفيو والاستعراض والكوميدي فإنها تدل دلالة واضحة على تطور الأفكار وحسن الاختيار في الوضع والحبكة. وقد ظهرت السيدة «هدى» في هذه الرواية لأول مرة في حياتها على المسرح، فكانت وجلة بعض الشيء من رهبة الموقف وكان الحياء يتغلب على صوتها الهادئ الرزين فترسله في صمت وتقطع فيخرج ضعيفاً بطيئاً!!
أما «سوفوكليس» ناقد مجلة «الجديد» فهاجم العرض بشدة، وبدأ هجومه بمقدمة تشويقية قال فيها: لو أمكن أن يسحب الكاتب ما ينشره لسحبناه! أعني المقال الماضي الذي كتبناه نقداً لرواية «مصر في سنة 1929» نريد سحبه لأن «نجمة الصبح» التي يفتتح بها الريحاني موسمه الراهن كادت تفسد رأينا فيه وفي رواياته! فنحن الذين لم نبخل على الريحاني بكلمات التشجيع وحث الجمهور على معاضدته، نرى أنفسنا مضطرين إلى تسجيل هذا التدهور الشنيع الذي أنحدر إليه الريحاني بمناسبة تمثيله رواية «نجمة الصبح» .. فما عسى يكون السبب في سقوطها؟! الجواب بسيط: بديع خيري مؤلف قدير والريحاني ممثل قدير ولكن على شرط واحد هو أن يُتركا على سليقتهما! فمثلاً نضع بديع خيري في أوساطنا المصرية البحتة ونقل له أكتب لنا رواية مصرية المواقف، مصرية الشخصيات، مصرية دماً ولحماً .. سنجده يفعل ذلك!! ثم نأتي إلى الريحاني ونقدم إليه الرواية سنجده يؤديها على خير ما يمكن أن تؤدى من حيث: التمثيل الطبيعي، والحركات التلقائية الطليقة! أما أن تدفع إلى بديع خيري بألف ليلة وليلة وتقول له أقرأ قصة «حسن الحلواني» ثم أقتبس لنا منها شيئاً نسميه «نجمة الصبح»، فتلك غلطة نعرفها يوم نرى المقاعد خاوية والمسرح جامداً!! لأن من مقتضيات هذا النوع الذي يمثله الريحاني أن يقوم على سوء التفاهم بين الشخصيات الموجودة، فيعتقد واحد مثلاً أن زميله مجنون ويسعى إلى مداراته بينما المجنون المزعوم يعتقد أن زميله هو المجنون فيسعى إلى مداراته من ناحية أخرى، وهكذا ينشأ من سوء التفاهم هذا موقف غاية في الإحراج والإضحاك. وألف ليلة وليلة التي أقتبسوا عنها «نجمة الصبح» خالية من مثل هذه الارتباكات لكنها تقوم في الغالب على السحر أو على المناظر ذات الفخامة والروعة، ولا بد للمقتبس عنها أن يطلق لخياله العنان وألا يتقيد بالأصل إلا إجمالاً، وهذا ما لم يفعله الأستاذ بديع خيري. وبذلك شهدنا «نجمة الصبح» حافلة بالجفاف والجمود ولا شيء فيها يستفز الجمهور إلى الضحك أو المرح، ولم ينقذها من الموت الذي لا رجاء فيه – إن صح أن يسمى هذا إنقاذاً – إلا المنظران الأخيران بعد سجن الخليفة، فقد دب فيها شيء من الحياة بسوء التفاهم الذي بدأ فيها، ولكن الرواية لم تلبث أن انتهت. فلولا هذا الفصل الأخير لكانت «نجمة الصبح» من أسوأ روايات الموسم. فنصيحتنا إذن إلى الأستاذين الريحاني وبديع خيري أن يعدلا عن الاقتباس عن ألف ليلة وليلة، وأن يتخذا حياتنا المصرية موضوعاً لرواياتهم، جاعلين سوء التفاهم هو الأساس الأول.
وانتقل الناقد بعد ذلك إلى الحديث عن بطلة المسرحية «هدى»، قائلاً: والآن لا بد من كلمة عن بطلة الرواية الآنسة هدى، التي أزعجونا قبل أن يفتتح الريحاني موسمه بالتحدث عنها والإطناب في وصفها .. فلقد طالما قرأت أن الريحاني يُعدّ مفاجأة هائلة لجمهوره وأن هذه المفاجأة هي ممثلته الأولى! وعندما سألته إحدى المجلات عن اسمها أبى أن يصرح به!! وأخيراً عرفنا إنها الآنسة «هدى»، التي لا تصلح قط للوقوف على خشبة المسرح!! فصوتها «بلدي» لا يردد إلا عبارات «جرى إيه يا راجل .. دنا مجدع يا عيني» إلى آخر هذا الأسلوب البلدي العتيق، الذي يُسأل عنه أهالي «عشش الترجمان»! ثم تنظر إلى جسمها فلا ترى فيه سوى نفس هذه النزعة «البلدية»، فهي سمينة وأجزاء جسمها ليست متناسبة، فكيف تظهر على مسرح الريحاني؟! هدى امرأة «بلدي» بكل معنى الكلمة والريحاني هو صاحب طريقة «فرانكو آراب» فهل يصدق حدسنا ونرى الريحاني منافساً للكسار؟ هذا فظيع بلا ريب! وأنه ليؤسفنا حقاً أن نخسر الريحاني.
ويختتم الناقد مقالته قائلاً: وبعد فهذه كلمة سريعة عرضنا فيها لجوهر الرواية ولم نتناول شيئاً من التفاصيل الأخرى!! فلم نقل مثلاً إن الرقص كان فرعونياً بحتاً، وهو يحدث في قصور العرب! وأن الراقصات كن يلبسن أحذية من طراز لويس السابع عشر، وأن الخليفة وحاشيته كانوا يلبسون مراكيب حمراء، ولم يعرف العرب سوى النعال .. إلخ!! أجل لم نقل شيئاً من هذا أو من مثله، لأن من عاداتنا التجاوز عن العرض إن كان جوهر الرواية ذاته فاسداً. ونجمة الصبح لا تستحق من صفحات «الجديد» أو من وقتنا أكثر من ذلك.
ثم نشر ناقد مجلة «المنبه» مقالة مطولة – على جزأين في يناير 1930 – هاجم فيها العرض أيضاً!! ومما قاله: ... فليستمع لنا الأستاذ الريحاني برحابة صدر: الرواية كوميدية جامعة بين نوعين من أنواع الكوميدية هما: الكوميدية التاريخية والكوميدي الهروئيكية «Héroique» والنوع الأول أي التاريخية هي التي تستمد أهم أشخاصها من التاريخ، والثاني أي الهروئيكية فهي التي أشخاصها من الملوك والأمراء والعظماء. والأستاذ الريحاني قد اقتبس أشخاص روايته عن التاريخ العربي وجعل أهم أبطالها الخليفة هارون الرشيد وجعفر البرمكي وزيره وإسحق نديمه وسيافه مسرور، وقد أخذ ذلك عن كتاب من كتب المجون وهو كتاب «ألف ليلة وليلة»، لا من كتب المراجع الصحيحة.
وبعد أن يسرد الكاتب موضوع المسرحية يقول: هذا موضوع الرواية، أما تأليفها فسقيم لا اتساق في سردها ولا انسجام. وأول ما نأخذ على الأستاذ الريحاني تعرضه لصفحة جليلة من التاريخ الإسلامي دون أن يرجع إلى مصادر هذا التاريخ أو يكون ممن لهم بصر فيه وعلم. كما أنه جلا لنا صورة أخرى من الأدب العربي وهو ليس من أهله وناسه. ونحن والله وقد كدنا نشيب في درس الأدب العربي وتاريخ الإسلام وحضارته لا نجرؤ أن نضع رواية نجتلب حوادثها من نبع هذا الأدب أو هذا التاريخ، لأننا نجد أنفسنا لا زلنا بحاجة إلى الاستزادة من الدرس لنكون على تمام إدراك لعادات هذه العصور الإسلامية وأحوالها وتقاليدها وما كان يجري في قصور الخلفاء وآدابهم ومجالسهم ومحافلهم وأزيائهم وما إلى ذلك، وما كانت عليه مساكن بغداد وطرازها وملابس أهلها وأحوال مجتمعاتها عامتها وخاصتها. فإن الذي يبرز الرشيد وإسحق النديم وجعفر البرمكي وعصر العباسيين في أزهى حالاته وعهداً من عهود دولة الإسلام في أفخم تطوراته، أن الذي يبرز ذلك لنا اليوم على المسرح المصري لا يكون إلا أحد اثنين: أديباً أو مؤرخاً إسلامياً. وليس الأستاذ الريحاني من ذلك في شيء!! وإذا لم يكن كذلك فلا بأس عليه، وإنما البأس أن لا يلجأ ما دام يريد هذا النوع من الكوميدية إلى المؤلفين الذين لهم بصر بالتاريخ أو بالأدب العربيين أو على الأقل أن يمدوه بعلمهم وهو يضع فن النسق الروائي الكوميدي !
ويبرهن الناقد على كلامه قائلاً: هذا الجهل بالتاريخ والأدب العربي يبدو على الخصوص في مواضع خمسة منها: أن نسمع كلاماً لإسحق الموصلي وحركات وإشارات مناقضة كل المناقضة للذي نعرفه في أدب العربية عن إسحق الموصلي أشهر المغنيين وأكبر الموسيقيين وأبرع الأدباء في دولة الرشيد، حيث كان إسحق صاحب ألطف نفس وأرق حس وأبلغ ظرف وأعلى أدب وأسحر بيان!! أما في رواية الأستاذ الريحاني فهو رجل يتحذلق ويتفهق في الألفاظ والعبارات كالنحوي الذي يأتي بالغريب والمستهجن من الألفاظ، وترى البون شاسعاً بين حقيقته التاريخية وصورته الروائية لدرجة التعجب أن يكون نديماً لأعظم خلفاء الإسلام وأرفعهم شأناً. ويؤخذ على الأستاذ الريحاني أيضاً ما صوره لنا للموظف العسكري الكبير القائم على حراسة الناس والأمن في دولة الرشيد، حيث أظهره في أقبح صورة وأشنع حال وأسخف هيئة، لم نجد لها مثيلاً في أحقر وأجهل وأحط شرطي يقع على بصرنا اليوم! أيضاً هذا الحلواني الجاهل الأحمق الساذج كما يمثله لنا الأستاذ الريحاني في روايته ورغم ذلك يلقبه الرشيد بلقب «مشير الدولة» ويحمل هذا اللقب بكل مظاهره العالية في قصر الخلافة فيكون هزأة من في القصر جميعاً، فيأتي من الأعمال بكل مزري به شائن!! هذا بالإضافة إلى: كيف جاز لصعلوك من صعاليك دولة الإسلام في أزهى عهودها دخول قصر المملكة العباسية الكبرى والاختفاء في إحدى حجرها يرى ويسمع؟! ومن غرائب وعجائب هذه الرواية أنك تجد الراقصات من راقصات القرن العشرين!! فالريحاني نقل عصر الرشيد إلينا أو نقلنا بعصرنا جميعاً إلى عصر الرشيد، فترى مدام ماري أو إيزابيل مثلاً يرقصن في عصر الرشيد وترى قصر الرشيد وعصر الرشيد قصراً أوروبياً في عصر التلغراف اللاسلكي!! هذا كله أعظم آية على جهل الأستاذ الريحاني بعصر الرشيد وما كان عليه المسلمون في ذلك العهد من عادات وتقاليد وآداب!!
يستكمل الناقد مآخذه على العرض قائلاً: ليس في مقدمة الراوية ولا أوسطها ولا آخرها ما يشير إلى هذا العداء الكامن في صدر ابن عم الحلواني على الحلواني المسكين!! وليس ثمة أية إشارة تُعِدّ المشاهد لهذه المفاجأة العجيبة إذ يرى ابن العم هذا خليلاً لمن أحبها الحلواني، ولا لهذه الدسيسة التي دبرها له عند الرشيد حتى كاد يفتك به، مع أن الحلواني أو مشير الدولة قد أحسن معاملته وأكرمه ولم يجاوزه بما كان منه مع نجمة الصبح معشوقته! و«نجمة الصبح» المسألة الثانية الغريبة، لأنني ما رأيت قط ولا علمت أن رواية تمثل بفصولها الخمسة وتمكث ما تمكث ولا يكون لنجمة الصبح هذه في الرواية أثر ولا وجود، ولكنها تُذكر عرضاً على لسان الرشيد في خاتمة الفصل الأخير بأنه سيزوجها «مشير الدولة» جزاءً له بدل معشوقته «تمر حنة» الخائنة. فالذي كنا نفهمه ويفهمه الناس جميعاً أن تكون الرواية سميت باسم هذه المعشوقة، وهي تعد نوعاً ما بطلة الرواية، لا باسم نجمة الصبح ظلماً وعدواناً .. ما هكذا إذن يكون تمثيل أزهى عصور التمدن الإسلامي، ولا بمثل هذه الصورة يُعرض على الناس اليوم الرشيد الذي يقول جاء عنه في كتاب «الآداب السلطانية والدول الإسلامية»: “وكانت دولة الرشيد من أحسن الدول وأكثرها وقاراً ورونقاً وخيراً وأوسعها رفعة”.


سيد علي إسماعيل