جماليات المسرح السياسى قراءة فى مسرحية «سجن فايف ستارز»

جماليات المسرح السياسى قراءة فى مسرحية «سجن فايف ستارز»

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018


لا يوجد ما هو أكثر إشكالية من مصطلح “الأدب السياسى” سواء انصرف هذا الوصف إلى الشعر أو الرواية أو المسرح، لأنه لابد أن يطرح - بالضرورة - سؤالاً منطقيًا حول السمات الفارقة لما يسمى بالأدب السياسى، أو المسرح السياسى الذى يمثله هذا النص المسرحى الجديد للكاتب المتميز إبراهيم الحسينى والذى يحمل عنوان “سجن فايف ستارز”. وفى تصورى أن مفهوم السياسة شديد الاتساع ومتعدد الدلالة، وأنه يمكن - بفعل التأويل - ادخال ما هو اجتماعى أو حتى وجدانى فى إطار هذه الدلالات السياسية المتنوعة.
وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنه يمكن تحكيم ما يسمى بالقيمة المهيمنة للرواية السياسية ذكرت أن الرواية السياسية هى التى تقوم على “تفكيك السلطة وتعرية آليات ممارستها” سواء فى إطار علاقتها الداخلية بمجموع الطبقات الاجتماعية أو علاقتها الخارجية مع الآخر العربى أو الغربى، فلو افترضنا أن نصًا مسرحيًا قد جعل من إحدى هذه العلاقات محورًا رئيسيًا له وقيمة مهيمنة عليه لأمكن وصفه - فى هذه الحالج - بأنه عمل سياسى دون أن يمنع ذلك تداخل مستويات أخرى بالضرورة، حيث لا يتم عمل سياسى بعيدًا عن محتواه الاجتماعى والأيدولوجى، وهذا ما نراه واضحًا فى نص “سجن فايف ستارز” بدءًا من العنوان الذى ينطوى على مفارقة لافتة بين دالة “السجن” بما تحمل من معانى القمع والتعذيب البدنى والنفسى، وصفة “فايف ستارز” التى لا توضع إلا لأماكن أخرى ذات طبيعة مناقضة، وهو ما يعد تمهيدًا للتناقضات الاجتماعية الحادة التى تظهر على مدار النص، على نحو ما يبدو من الفروق الأشبه بالكوميديا السوداء بين من يسجن بسبب سرقة رغيف خبز فى السجن الحكومى ومن يسرق المليارات ويسجن - ذرًا للرماد فى الأعين - فى سجن أشبه بالفندق فايف ستارز يكون فى الآمر الناهى ويصبح مأمور السجن خادمًا له بالمعنى الحقيقى للكلمة!!
ويقدم الكاتب هذا المعنى الأخير - خدمة مأمور السجن لرجل الأعمال سليم المنزلاوى وخضوعه المشين له - من خلال تقنية الاستباق التى تمثل صدمة للقارئ أو المشاهد، حين يقبِّل المأمور قدم المنزلاوى لمجرد أنه دخل على سبيل الخطأ السجن الحكومى الذى يضم - بتعبيراته - كائنات غريبة لا تنتمى للآدميين، وتأتى الصدمة من أن الجميع لم يكن قد عرف بعد هوية المنزلاوى وسبب نفوذه الطاغى على هذا النحو.
وهذا يعنى أن شخصيات المسرحية تدخل مكتملة بصفاتها النهائية فيما يعرف بالشخصية النمط، وأنها لا تعرف التحول باستثناء شخصية إجلال التى سنعرض لها لاحقًا.
ووجود الشخصية النمط أحادية الجانب - وهذا ليس عيبًا - يعد من أهم سمات المسرح السياسى بغرض تأكيد التناقض والصراع بين الشخصيات المتقابلة، التى يمثلها رموز السلطة السياسية والاجتماعية من ناحية ورموز المقاومة للاستبداد والقهر من ناحية أخرى، وقد ركز الكاتب هذا الصراع بين شخصيتى سليم المنزلاوى ونشوى التى تبدو فى صلابتها وتمردها أقرب إلى شخصية كارمن، وإذا كان هذا هو الصراع الرئيسى فقد شهدت المسرحية - أيضًا - صراعات ثانوية كان أبرزها المنزلاوى والحاكم، أو صراع سلطة رأس المال والسلطة السياسية وهو صراع انتهى لصالح الحاكم باعتباره مالكًا لمفاتيح قوة الدولة وعلاقاتها الخارجية تحديدًا، وكأنه يستعين بالقوى المناظرة له فى الدول الأخرى فيما يشبه “عولمة الاستبداد”؛ وبهذا المنحى تبتعد المسرحية عن فكرة التغريب البريختى، وتحاول تأكيد واقعيتها وكأنها - بالفعل - قطعة من الواقع. فالنص حريص على التنبيه إلى بعض الأحداث الحقيقية المعروفة، ومن هنا يأخذ التصوير الساخر لرموز السلطة أهميته باعتباره موجهًا إلى أشخاص بعينها كما يمكن انسحابه على غيرها من الشخصيات المشابهة.
ولا شك فى أن هذه السخرية التى تتجلى فى تصوير رموز السلطة / الحاكم تحديدًا، والحدث الدرامى، وعلى مستوى عناوين اللوحات المسرحية قد أبعدت النص المسرحى عن الخطابية الزاعقة وحولت الصراع كله إلى لعبة هزلية عبثية رغم فداحتها ومأساويتها.
وهو أمر أدخل فى طبيعة الفن، وأكثر تأثيرًا من الطرح المباشر لمحاور الصراع الذى يبدو على مستوى بنية المكان وتوظيف فضاء السجن وتحولات طبيعته، ويكفى - فقط - أن نقارن تحولات هذا الفضاء فى اللوحات الثلاثة الأولى، لنرى كيف يصبح الميدان العام - فى اللوحة الثانية - امتدادًا لفضاء السجن فى اللوحة الأولى، ثم تنقلب طبيعته تمامًا - فى اللوحة الثالثة - لنصبح أمام مكان مغاير أشبه بـ”فندق خمس نجوم”، ولنتأمل هذا الوصف الدال: “حجرة سجن “سليم” تظهر وكأنها حجرة داخل فندق خمس نجوم، المأمور يقف فى ذعر وفزع شديدين، بينما نجد “سليم” يجلس مسترخيًا على أريكة مريحة يأكل بعض الفواكه الموضوعة أمامه، ويقرأ الجرائد، كما توجد فتاة جميلة تدلك له جسده”.
إن هذا الوصف يدفعنا إلى الحديث عن الفضاء المسرحى بصفة عامة والذى لم تعد الكلمة تحتل فيه مكانتها القديمة المحورية، بل زاحمتها عناصر أخرى مثل الإضاءة وحركة الشخصيات ووضعياتها المختلفة على نحو ما يبدو من وقوف “المأمور” فى ذعر وفزع، وجلوس سليم مسترخيًا على أريكة مريحة، وهو مشهد موحٍ على طبيعة العلاقة بين الشخصيتين دون كلمة واحدة.
ولا شك فى أن هذا التحول فى طبيعة السجن سيصبح مبررًا - رغم مفارقة الموقف - لرغبة الناس فى دخوله!! مما يوحى بأن الوطن كله أصبح سجنًا كبيرًا لا يتمتع بمثل هذه الرفاهية.
وعلى عادة الرأسمالية الطفيلية التى تتاجر فى كل شىء تولدت فى ذهن سليم المنزلاوى فكرة إنشاء سجن استثمارى لا يدخله إلا كبار اللصوص كما يبدو من العنوان الساخر للوحة الثامنة “حضرتك حرامى؟ اتفضل” ومن اللافتة المكتوبة على بوابة السجن “السجن حق لكل مواطن”.
وامتدادًا لتوظيف الفضاء المسرحى يقوم الكاتب بتفعيل جماليات ما يسمى بـ”اللقطة الثابتة” حين يقول - مثلاً - فى نهاية اللوحة الثامنة: يتجمد المشهد، المساجين أمام “نافع”، رءوسهم محنية، وأياديهم خلف ظهورهم بينما “نافع” يقف منتصبًا رافعًا كرباجه لأعلى.. إظلام تدريجى”.
(“سجن فايف ستارز” إبراهيم الحسينى ص 104 - الهيئة العامة لقصور الثقافة 2013)
لا تمثل شخصيات المسرحية مجرد فئات اجتماعية فحسب بل تمثل - أيضًا - توجهات فكرية متصارعة، فإذا كانت شخصية “نشوى” تقف على النقيض - اجتماعيًا وسياسيًا- من شخصية المنزلاوى والحاكم وأدواتهما القمية فإنه تقف على النقيض أيضًا - أيديولوجيًا - من شخصية الشيخ جابر الدين الذى توظفه السلطة للحفاظ على مصالحها وتبرير استبدادها، إن هذا التركيب الذى تمثله شخصية “نشوى” يدفعنا إلى وصفها بالشخصية الإشكالية التى لا تستطيع تغيير الواقع ولا تستطيع - في الوقت نفسه - التكيف معه، على العكس - مثلاً - من شخصية “إجلال” التى تكيفت سريعًا مع السلطة بعد خروجها من السجن وأصبحت جزءًا من آلته الإعلامية الدعائية. أو رجل الدين الذى يوظف معارفه بغرض احتواء غضب الشباب وعندما يفشل في ذلك يقول له المأمور واصفًا خطابه القديم وما كان له من تأثير: “فين كلامك الناعم، مابقاش ليه تأثير ليه؟ فين قال الله وقال الرسول، فين طاعة ولى الأمر؟ اتغيرت يا جابر ومبقاش يهمك رضانا عنك” (ص63) ولعل الجملة الأخيرة تعد استباقًا لما سوف يفعله الشيخ جابر فيما بعد حين يدخل الانتخابات الرئاسية منافسًا للحاكم ولرجل الأعمال “المنزلاوى”. وهو ما يعكس إمكانيات توظيف الخطاب الدينى على أكثر من منحى سواء بالمعنى السلبى أو الإيجابى لهذه التأويلات.
على أن شخصية “الشحاذ” من أكثر هذه الشخصيات رمزية، فهو - أى هذا الشحاذ - ينتمى إلى أدنى درجات السلم الاجتماعى وأكثر الفئات تهميشًا، أو الفئة التى لا يراها أحد سواء من ممثلى السلطة أو ممثلى القوى المتمردة، غير أن المفاجأة تأتى من تحول هذا الغياب العام إلى حضور كامل وربما وحيد مع النهاية الموحية لهذه المسرحية التى اعتمد فيها الكاتب على تصوير حركة الشخصيات دون كلمة واحدة اللهم إلا بعض الهمهمات غير الواضحة حيث “يضاء ممر ضوئى قادم من عمق الفضاء المسرحى، يأتى عبره رجل ضخم من بعيد، يمشى بصعوبة شديدة، تحت إبطه الأيسر عكاز، بينما يمسك عصا غليظة فى يده اليمنى، نلحظ بالكاد أنه الشحاذ” (ص139).
وسرعان ما ينضم إليه أمثاله من المهمشين الذين “يتقدمون بغضب واضح للأمام، يصلون إلى حافة خشبة المسرح وقريبًا جدًا من الجمهور، يتأملون الناس فى ذعر شديد، ثم يصرخون معًا صرخة واحدة، مفزعة ومرعبة” (ص140).
إنها - فى تصورى - نبوءة صادقة بثورة الجياع القادمة، وهذا يعنى أن بنية تطور الأحداث فى هذه المسرحية لا تنتهى بحل الأزمة بل بتصاعدها واستحكامها.
 

 


محمد السيد إسماعيل