العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018
حدد «بروست» وظيفة الفن على مستوى مضمونه الفكري على أنه إدراك الجوهر وكشفه للعيون العاجزة عن رؤيته، وطالما أن الجوهر يتخطى حدود الزمن ولا يظل أسيرا لها، بالتالي الفن هو انتصار على الزمن من خلال الأعمال الفنية بحيوتها المتجددة وتدفق طاقتها، فإن الفنان قادر على استخراج الدائم من المؤقت، والحقيقي من المزيف، والباطن من الظاهر، والجوهر من المظهر، والمعنى من المبنى، ويكون هذا من خلال جماليات الشكل الفني الذي تتفاعل مع خلايا المضمون الفكري وتُحيله إلى شيء غير قابل للفناء وقادر على لمس جوهر الإنسان بغض النظر عن اختلاف الزمان والمكان، والفن يملك البصيرة التي تتعدى حدود البصر التقليدي، ويرى أفلاطون أن الفنان لا يستطيع أن يحاكي الفكرة المجردة، وإنما يحاكي الظاهرة أو التجسيد المادي للفكرة، وبالتالي هو يحاكي محاكاة سابقة، ويرى أرسطو أن الفنان يحاكي الفكرة المجردة مباشرة؛ أي أنه يحاكي الأصل.
عزيزي القارئ! نشاهد سويا العرض المسرحي “العيال رجعت” الذي هو امتداد لطرح مسرحية «العيال كبرت» الشهيرة بعد مرور عدة عقود عليها، إلا أن كاتب النص عمل على التواصل مع الفكرة ليحاكي من خلالها واقعا معاصرا في نفس المكان، ونسج فيه التغير الذي حدث للمجتمع.
يبدأ العرض المسرحي بظهور شخصية «سحر» نفس الشخصية في مسرحية العيال كبرت، ليؤكد العمل الفني على أن المكان لا يتغير ولكن هناك تطورا وتغيرا لسلوك الشخصية، والفارق الزمني الذي أظهره العمل الفني مع دخول عباس بالموتوسيكل يحمل رقم (88) هنا وضع العمل المسرحي “العيال رجعت” المشاهد في حالة لاسترجاع الماضي وربطه بالحاضر المعايش له من خلال رمزية المكان والزمان الذي تعمَد أن يعطيه الكثير من الدلالات ويجعل المُشاهد ينظر دائما إلى الماضي البعيد بوضع صورة الفنانة كريمة مختار والفنان حسن مصطفى، قد يكون هدف القائمين على العمل هو تكريم لهما رحمهما الله، ولكن أي شيء على المسرح هو علامة قصدية ووضعهما في عمق المسرح دلالة على البعد الزمني للماضي ويجعل المشاهد يقارن بين شخصية رمضان السكري وشخصية زوج سحر في مسرحية “العيال رجعت” لنرى أن شخصية رمضان السكري رجل أعمال، فيكون مصدر الثراء واضحا، وعلى الجانب الآخر شخصية «ممدوح» زوج «سحر» ثري، ولكن لا يُعرف مصدر الثراء وقد عبر عنه الفنان بحرفية أثناء إعطاء أبناء إخوة سحر المال الذي يُطلب منه ليبرز للمشاهد مدى الهزة النفسية داخل الشخصية، وهذا واقع الجديد الذي تعرض له المعالجة الجديدة، من ناحية أخرى حافظ نص العرض على وجود الشرائح المجتمعية مختلفة داخل المكان الواحد، فنرى المثقف ذا الشخصية المتماسكة والشخصية المستهترة والشخصية التي تعيش اللامبالاة، وكل منهم له حلم، فهناك حلم السيطرة، وحلم التنوير، وحلم التابعية، وهذا صراع يتوالد داخل كل شخصية وكل شخصية من هذه الشخصيات تعبر عن شريحة مختلفة داخل المجتمع الكبير، وعندما يكثف الجانب السلوكي للشخصية في البناء الدرامي هو تأكيد آخر على تحول المجتمع داخل الفكرة الأساسية للعمل المسرحي ليخرج لنا مضمونا يشير إلى الواقع المعيش. والعرض المسرحي “العيال رجعت” تتوالد في الدلالات من خلال شبكة العلاقات بين عناصر العمل المسرحي، الشخصيات - نرى علاقة ابن سلطان بأبيه عند مخاطبة صورة أبيه الفنان سعيد صالح رحمه الله، علاقة السلطة الأبوية والصورة هنا شخصية موجودة داخل النسيج الدرامي وليست مجرد جزء من الديكور فهي شخصية فاعلة تكملها شخصية الابن في مسرحية “العيال رجعت” من هنا يكون العمل مترابطا وامتدادا للفكرة التي بُني عليها البناء الدرامي لمسرحية “العيال كبريت” وهي هدم للبيت - كان الهدم يتم عن طريق شخصية رمضان السكري رب الأسرة، وفي نص “العيال رجعت” الهدم يتم عن طريق الأحفاد لرمضان السكري، والهدم هنا يكون هدما معنويا، وتأكيد هذا المعنى ظهور شخصية «سمر» بنت سحر التي تعلمت في أمريكا هنا ظهور آخر لأسلوب جديد سلطوي داخل الدراما وهي سلطة تتلون حسب نقاط الضعف عند شخصية الفرد، أبهرت أبناء خالها بالجمال، ولكن الجمال هنا ليس جمال الشخصية ولكن الانبهار بأسلوب حياة متحررة، والتخلص من القديم والاقتناع ببيع البيت، ودلالة البيع هي ترك العادات والتقاليد التي توارثتها الأجيال وهذا هدم للقيم المجتمعية، وهو ما أكد عليه العرض المسرحي من خلال إظهار لتحول السلوك الفردي داخل الأسرة، وفي النسيج الدرامي للعمل ركز مشهد - سمر - على المؤامرة التي صاغتها لامتلاك البيت، وسلب أبناء الخال حقهم، هذا واقع معايش للصراع والأطماع بين المجتماعات المختلفة، ولم يشبع كاتب النص حالة المؤامرة داخل الشخصية، ليُظهر تلون الشخصية طبقا لمصالحها، فتبرأ نفسها من حالة المؤامرة إلى حالة فنتزيا، وظهر هذا عندما لم يتم التفريط في البيت، ونرى أيضا أن شخصية - سمر - التي تعلمت في أمريكا كانت محركة الأحداث إلى ذروة العمل الدرامي ثم ينحدر الخط الدرامي من ذروة الأحداث إلى أسفل عندما يتم اكتشاف المؤامرة كأنها لعبة، وعندما يتم الرفض لبيع البيت، ويرجع التماسك بين أفراد العائلة في نهاية العرض المسرحي “العيال رجعت” كثف العرض الدلالات داخل عناصره حتى يختصر زمن العرض وهذه حرفية في إيصال رسائل كثيرة ومتعددة في أقل زمن للعرض في ظل الإيقاع السريع للحياة المعاصرة. الديكور يحمل الكثير من الدلالات والتناقض نرى المكتبة تحمل الفكر والجانب الآخر تفكك وتشويش لتلك الأفكار من خلال الأشكال المفككة والألوان المتداخلة في مواجهة المكتبة، وكذلك الملابس عبرت عن ما بداخل الشخصيات وتميزت بالبساطة رغم ما تحمله من دلالة، ملابس المثقف الذي قام بدورة الفنان محمد عبد الرؤؤف ابن كمال السكري تدل على ثبات الشخصية، وملابس شخصية بن عاطف السكري تعبر عن فراغ داخلي للشخصية وقام بأداء هذا الدور الفنان محمد محسن، وملابس شخصية ابن سلطان السكري الذي قام بتأدية الدور الفنان علوي الحسيني، تدل على شخصية واعية ومغيبة في نفس الوقت، أما ملابس شخصية ممدوح زوج سحر تدل على التحول للشخصية بين السلطة الأبوية تقودها سلطة أخرى أي تؤكد على التناقض داخل الشخصية التي أجاد الدور بحرفية الفنان رضا إدريس. أما ملابس شخصية سحر هي تعبر عن بساطة الشخصية ولكن الوشاح الأحمر يحمل نجمة، عبر عن دلالة أخرى ليفرز تساؤلا لدى المتلقي هل هي الهيمنة أم سلطة للشخصية تجاه أولاد أخوتها أم هي سلطة تسيطر على البيت الذي يجمع أفراد عائلة السكري؟ ونترك تلك الدلالة للمتلقي، يفسرها من منظوره الخاص به، أما ملابس شخصية سمر فهي للإبهار وجذب الآخرين، وفي نفس الوقت الخطوط المتداخلة على القدمين ما هي إلا رسم أماكن عدة يسطر عليها ذلك الجسد بقدميه قد يكون العالم وقد تكون أنظمة متداخلة. أما عنصر الإضاءة، فهي إنارة عامة خصوصا أن القالب الفني للعرض قالب كوميدي، ولحظة الإضاءة الوحيدة في مشهد استعراضي يعبر عن حلم صغير داخل واقع أكبر، يجمع بين المثقف والفتاة التي تعلمت في أمريكا. شارك في الأداء التمثيلي كوكبة من النجوم على مسرح النهار، وهم: نادية شكري، رضا إدريس، منة بدر، تيسير محمد عبد الرؤؤف، محمد محسن، علوي الحسيني، العرض المسرحي تأليف علوي الحسيني، ديكور د. أحمد عبد العزيز، أزياء مروة ماهر، سارة خالد، أشعار أحمد حسين، موسيقى وتوزيع عمر جاهين، ألحان يحيى نديم، ومن إخراج: شادي الدالي.