مسافر ليل وساتيرية اللعب في ذاكرة التاريخ

مسافر ليل وساتيرية اللعب في ذاكرة التاريخ

العدد 537 صدر بتاريخ 11ديسمبر2017

انجذب الشاعر «صلاح عبد الصبور»، ضمن من انجذبوا من الأدباء والصحفيين، لعالم المسرح في النصف الثاني من الستينات، ليترك لنا خمس لآلئ مسرحية تؤسس نفسها بأرض الدراما، وتهفو لسماوات الشعر، وتثير عقل المخرج النابه لتقديمها برؤى متجددة، وحققت مسرحياته ما يعرف بالدراما الشعرية، مكثفة الفعل، مقطرة الكلمة، ومشحونة بشحنة موسيقية راقية، وواعية بالفرق بين الحوار الدرامي والقصيدة متعددة الأصوات، فضلا عن إدراكه لأهمية الصورة المرئية على المسرح وتعادلها مع الصورة الجمالية التي يخلقها الشعر، وأحيانا تتولد عنها، ولذا يصبح للمكان أهميته في بناء العرض المسرحي، تاركا الزمان يفلت قصدا من بين يديه، خاصة في مسرحيتيه القصيرتين (الأميرة تنتظر) و(مسافر ليل)، فعلى الرغم أنهما ذات صلة وثيقة بسياقهما المجتمعي الزمني، فإنهما ينفتحان على عوالم رحبة، ويفتحان آفاقا أوسع للتفسير والتقديم.
لذا يحسب للمخرج ومصمم السينوجرافيا الشاب «محمود فؤاد صدقي» اختياره في تجربته الاحترافية الأولى خارج معهده العالي للفنون المسرحية لنص مسرحية (مسافر ليل) الشعرية، والناطق باللغة الفصحى، ليقدمه برؤية حداثية في سياق مجتمعي لم يعد أغلب جمهوره المسرحي يعرف تراثه الدرامي الزاخر بالنصوص الراقية، بل صار يرفضه دون قراءة معمقة له، ولم يعد يقبل على المسرح الشعري، ولا يجيد الكلام والاستماع للغة العربية الفصحى، بعد أن أفسد التعليم والإعلام أجيالا كاملة لا تتكلم ولا تتحاور ولا تستمع إلا باللغة الهابطة.
التقط المخرج هذا النص المنشور لأول مرة بمجلة المسرح عام 1969، وما زال مثيرا للدهشة، وعصي في نفس الوقت على إخضاعه للإعداد باسم الدراماتورجية، فهو نص شديد التكثيف، لا يستطيع أحد أن يضيف إليه كلمة، أو يحذف منه كلمة، وإن تم تحريف كلمة واحدة فيه في أكثر من عرض مسرحي يخشى التصريح بها، وهو نص غير واقعي يمزج التعبيرية بالرمزية في بنية عبثية، تنبثق فيها الصور مستدعاة من ذاكرة الشخصية الرئيسية ومتجسدة بصورة قاسية أمام عينيه، ومن ثم يجري حدث المسرحية في أجواء فنتازية قاتمة، داخل قطار مسرع يشير برمزيته إلى الحياة المتحركة دوما للأمام، منغلقا على شخصياته غير القادرة على الفرار منه، صاغه المخرج في صورة عربة قطار واقعية، وجسد وقائع حدثه بوسط العربة، تاركا جمهوره يجلس في جناحيها الأيمن والأيسر، لكي يشاهد العرض من زاويتين متقابلتين، محققا لأول مرة بعد تجربة «كرم مطاوع» الإخراجية منذ عقدين من الزمان لمسرحية (ديوان البقر) في مسرح الهناجر ليشاهده جمهور العرض من زاويتين متقابلتين، قبل فصل جزء منه وتحويله لقاعة سينما، وها هو جمهور اليوم يشاهد ما يحدث أمامه، منفعلا أحيانا، ضاحكا أحيانا، ولكنه صامت غالبا لأنه أراد أن ينأى بنفسه عما يحدث، مشكلا الكتلة الصامتة في المجتمع، يرى ويخشى أن يتورط فيما يحدث، حتى ولو تم اغتيال راكب بسيط مثله.
المهرج المهزوم
من تقنيات الدراما الحديثة يستخدم الكاتب تقنية الراوي الذي عايش الحدث الدموي، فهو شاهد عيان رأى من قبل ما حدث داخل عربة القطار، وهو واقف بإحدى زواياها، ليخرج منها ساردا لجمهور المسرح ما حدث قبلا، وكأنه سارد للتاريخ ذاته وحكاياته، ومنها حكاية الليلة، مما يخرجه في البدء خارج زمانية الحدث المسرود، ويفصله عن الجمهور المشاهد، ويجعله يتحدث في الزمن الحاضر الذي يعيشه الجمهور الآن عن فعل وقع في الماضي، فهو يعرف بطل مسرحيتنا المهزوم، ويصفه بالمهرج، ويعرفه بأنه بلا اسم أو صنعة أو حتى هدف له داخل هذا القطار الذي ينهب الأرض ليلا دونما معرفة لوجهته، وإن كنا سنعرف فيما بعد من الراكب نفسه أن اسمه «عبده» وأسرته تحمل أسماء مشتقة من العبودية، وهو يعمل حرفيا دونما تحديد لنوعية هذه الحرفة، غير أن هذا الاسم وهذا العمل لا يمنحانه هوية اجتماعية محددة، هو مجرد نموذج للإنسان البسيط المغترب في مجتمعه، نكرة من أحاد الناس وجد نفسه وحيدا في هذه العربة الكونية ليلا، فراح يواجه ملل الرحلة بعد أعمدة الطريق، فلا تلهيه، ويهم باللعب في ذاكرته الشخصية، فلا يستخرج منها سوى تذكرات مطفأة كأيامه التي مرت دون ثمار، مكتشفا أن ماضيه ليس غير عدم، تركه وحيدا في حاضر سفرة ليلية غامضة، وبجيبه مسبحة يعد عليها زمنه الضائع، سرعان ما تنفرط منه ضائعة بدورها بين مقاعد العربة، فاقدا بالتالي سنده الديني، ويجد نفسه معلقا في فضاء الحاضر، فيلجأ للتاريخ المسطور على جلد غزال مخبوء بمعطفه، آخر ما يملكه بعقله، مستدعيا منه ما يريد استدعاءه بإرادته.
اتكاء على هذا الاستدعاء يتحول العرض من السرد الماضوي للتجسيد الآني، حيث يغادر الراوي منطقة الوسط ليجلس بين الجمهور المشاهد، متخليا لبعض الوقت عن دور السارد، وتاركا للراكب حرية تجسيد ما حدث له، فيبدأ في النطق متكلما ومختارا من التاريخ الذي يريد أن يختاره، منطلقا من الطغاة الذين وقف عندهم التاريخ وسطر أعمالهم وهم عنده: من التاريخ القديم الإمبراطور الروماني الغازي «الإسكندر الأكبر»، والقائد القرطاجي الجامح «هانيبال»، ومن التاريخ الوسيط الحاكم الأوزبكي المدمر «تيمور لنك»، ومن التاريخ الحديث الفوهرر الألماني «أدولف هتلر» والأمريكي القبيح «ليندون جونسون» رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب على مصر عام 1967، التي قادتها إسرائيل بدعم كامل من الولايات المتحدة، وهو ما يدفع الراكب للعودة إلى اسم الإسكندر مرة أخرى، فكلاهما كان له دوره في غزو مصر، مما يجذب مسافرنا الليلي من سماء الدلالة الإنسانية العامة، إلى واقع الدلالة المصرية الخاصة، كما يغرس النص في سياق المجتمع المصري ومعاداته لأمريكا، ويجعل لاسم «جونسون» وقعا خاصا على عقل الجمهور المشاهد للعرض زمنذاك، ويتم السخرية منه باختراع اسم على نفس الوزن «مونسون» لا وجود له، ولا دور غير السخرية ممن دعم هزيمة الجيش المصري وقتذاك، بينما لا يستحضر جمهور اليوم هذا الاسم بدوره المقيت لكي يستوعب وجوده ويسخر منه، والأمر ذاته مع الزعيم النازي «هتلر» الذي يليه اسم وهمي هو «متلر» سخرية أيضا منه.
وبينما يعاود الراوي الحديث منبها الجمهور إلى خطورة العودة للتاريخ، حتى لا يخدعنا ويعود مكررا نفسه، وعلينا أن ننطلق من حاضرنا نحو المستقبل، لا ينتبه الراكب لهذا الدرس ويروح يستعيد الماضي، ككثيرين ممن عاشوا أواخر الستينات وواجهوا الهزيمة بالارتداد للماضي وتقديسه، تحطيما للحاضر غير المتسق مع أفكارهم، وعجزا عن رؤية المستقبل الكائن برحم الغيب، والمتحقق بعقول تؤمن بالعلم، وككثيرين اليوم ممن اضطرب الحاضر أمام أعينهم، وغُم المستقبل، وبدلا من مواجهة الحاضر تعلقا بالمستقبل يتقهقرون إلى الخلف ليلعنوا الإنسان على تقدمه، ويعلنوا القتال على كل من اختلف معهم، بعد أن تم تزييف وعي المجتمع خلال عقود خلت، لذا غاص المسافر في مسرحيتنا بأعماق تاريخ البشرية، ليس بحثا عن علمائه ومفكريه، بل عن طغاته، فشخصيته المقهورة سلفا لا تستدعي من التاريخ غير قاهريها، فتتجسد له رموزه في صورة عامل تذاكر يفتش بطبيعة مهنته عمن تسلل لقطار الحياة دون أن يمتلك تذكرة تبيح له ركوبه، متجاوزا هذا للتفتيش في عقل وضمير من يلقاه في عمله، متسلحا بكل أدوات الموت التاريخية.
أحلام وكوابيس
يمثل وجود الراوي في المسرحية تحديا أمام مخرجها، فهو ينقل إلينا بالكلمات ما يجيش بوجدان الشخصية، وما تقوم به من سلوك، وعلينا بالتالي أن نرى أمامنا ما نسمعه من كلمات، ولذا قام المخرج بتحرير حركته في فضاء القطار، يتحرك فيه بحرية، وجسد هذا الشخصية «صفوت الغندور» بحرفية وتنقل صوتي ووجداني من حياد السارد لمشاركة الراكب في جمع حبات مسبحته، للرعب من التورط في جريمة لم يقترفها، محررا بدوره هذه الشخصية من كونها معبرا عن صوت الأغلبية الصامتة، إلى أن تكون أقرب بعقلها المثقف لقارئ التاريخ وسارده، الذي لا يملك غير كلماته في واقع دموي.
ينحاز النص بطبيعته العبثية ذات العمق التعبيري للشخصية المتفردة وأحلامها وكوابيسها ورعبها من العالم، فضلا عن فقدان المعنى والإله معا، عبر تفكك البناء وتفتت الشخصية الدرامية، وهو توجه يحتاج من أي عرض مسرحي يقدم نصا من هذا النوع أن يقدمه بصورة ساتيرية تسخر من شخصياته التي تعيش عالما غير ممنطق، وهو ما أدركه «صلاح عبد الصبور» نفسه، وصرح ذات مرة أنه لو أخرج مسرحيته هذه لأخرجها بصورة كوميدية، وقد أدرك د. «علاء قوقة» بدوره مع المخرج هذا التوجه في العرض، فجسد شخصية المفتش المتجبر بصورة تثير السخرية منه، واعيا بأن تعدد ستراته يجسد التعدد الوظيفي المتدرج من الأدنى للأعلي في المجتمع الإداري، دون أن ينزع عنه سمة التجبر، وبأن الأسماء التي يظهر بها هذا المفتش تحمل دلالاتها للراكب والجمهور معا، فهو «زهوان» الزاهي بنفسه وعمله، وهو «علوان» المتعالي على الأرض، والمنتسب للسلطان، ويرتدي سترة عشرية الطبقات، صفراء اللون، بكافة دلالات اللون الأصفر المتناقضة بين الإشراق والذبول، فيتنقل بسلاسة بين الإيهام بالتعاطف والوهن لدرجة البكاء الميلودرامي وممارسة العنف المادي بصورة سادية، متجليا في أول ظهور له في صورة «الإسكندر» الذي استدعاه الراكب وتخاذل أمامه، ثم سرعان ما يكشف عن اسمه المتعدد وهويته الباطشة، ويطلب من الراكب المذعور تذكرته، فيمنحه إياها فتبدو له خضراء وطازجة فيأكلها مهدرا حقه في ركوب القطار، ومن ثم تبدأ سلسلة الاضطهادات له، بعد أن سلبت حريته وصار مغتربا داخل قطار حياته، فيستكمل المفتش صور التجلي، بتجسيد شخصية مأمور أمريكى، بزعمه بأنه المسئول عن الأمن في هذه المنطقة من الأرض زمنذاك، وعن كل الأرض اليوم، يفتش عن الأسلحة في الأبنية وعن الأسرار في الضمائر، واصلا لاتهام الراكب المذعور بأنه قتل الله وسرق بطاقته أي أفقده وجوده على الأرض وانتحل هويته، ومن ثم فقد كفر به وألحد، وهي التهمة التي اعتادت السلطة في مجتمعاتنا المتدينة أن تصف وتصفي بها المختلفين معها، وتجند لها البسطاء ليحملوا دمه في رقبتهم، كما حدث مع «الحسين بن المنصور» في مسرحية «عبد الصبور» الأولى (مأساة الحلاج)، وكما يحدث اليوم أن تصدر الفتوى بتكفير المفكرين وأصحاب الرأي المخالف، ويترك للعامة أمر تنفيذ الحكم عمليا.
اغتيال مسافر
بعد أن وصل المفتش لقمة السلطة بسترته العاشرة، أقام للراكب، الذي جسده بحرفية غير مصطنعة «مصطفى حمزة» محافظا على انكساره طوال الوقت، أقام له محاكمة صورية هو القاضي وممثل النيابة والجلاد فيها، شرح له فيها أسباب بحثه عمن قتل الرب، الذي تجلى غيابه عن هذه الناحية من الأرض في هذا الكم من الهزائم والانكسارات والاضطهادات والانحرافات التي منيت بها المنطقة، وبدلا من مواجهتها بعقلية علمية، فسرت شريحة من المثقفين للعامة الأمر بغياب الرب عن أرضها، ودعمت السلطة هذا التفسير، فصلى من صلى للرب الذي غاب عن المجتمع فمني بالهزيمة، وخرجت الفتاوى التي تكفر الشرائح المؤمنة بالعقل في المجتمع وتطالب بإعدامهم، صحيح أن مسافرنا لم يكن من هذه الشرائح، ولكن المفتش الطاغية قام بإعدامه كعشرات نفذ فيهم حكم الموت قبله، بعد اعترافهم تحت سطوة العنف، وذلك بزعم المحافظة على نظام الوادي، وإن كشف الطاغية للمسافر المغتال ولجمهور المسرحية أنه هو نفسه سارق بطاقة الرب البيضاء، وسالب قدراته، ليقود بها هذا المجتمع ويسيره وفق ما يريد.
ولم يكتفِ بكل هذا، بل طالب الراوي بمساعدته في حمل الجثة معه، وهو الذي آثر الحياد طوال الحدث، فيلجأ لجمهور المسرحية، ركاب القطار، الذي آثر بدوره الحياد طوال العرض، وإذا كان الجمهور يشاهد هذا الحدث الجلل لأول مرة، فالراوي شاهده مرارا من قبل، وربما وقف هذا الموقف الأخير أيضا قبلا، دون أن نعرف ماذا فعل وقتها، فرغم صمته فإنه لا يمثل جمهور العرض الصامت، بقدر ما يمثل التاريخ الذي يدعي الحياد، أو كما يدعي بعض كتابه من المؤرخين، الذي أرخ لأحداث الماضي بعيون الطغاة والمنتصرين، وترك للمسرح وغيره من الفنون مهمة الحديث عن البسطاء والمقهورين، فجاء هنا ليستخرج من صفحاته حكاية الجلاد والضحية المتجددة على مر الزمن، إلا أن الجلاد العصري لم يرد أن يجعله محايدا، بل أراد توريطه فيما يحدث، ويحمل عنه ومعه دم الضحية برقبته.
عرض رائع تبهرك صياغته المكانية، وتبدو لمسات «أبو بكر الشريف» واضحة في وضع الشخصيات داخل حزم ضوئية تساعدها على الكشف عما بداخلها، وتعمم الإضاءة في القطار بأكمله في لحظات المكاشفة والتوريط، كما استطاع المخرج توظيف موسيقى «زاكو» وصوت حركة القطار كمؤثر صوتي يظهر عاليا في المواقف التي تبدو واقعية، وتخفت حينما تتحول لمواقف لعبثية، فتشارك الصورة المرئية دورها في التنقل بالجمهور بين ما يظن أنه واقعي وما يدفع به نحوه لإدراك العبثية الكامنة بأعماقه.
اختيار موفق من المخرج لواحد من نصوص المكتبة المصرية الزاخرة بالمسرحيات القادرة على مخاطبة جمهور اليوم بجديتها وجمالياتها ولغتها الراقية.


د.حسن عطية

hassan_attia@hotmail.com‏