انتحار الرفيقة الميتة ما بين الجنون واكتشاف العالم

انتحار الرفيقة الميتة ما بين الجنون واكتشاف العالم

العدد 542 صدر بتاريخ 15يناير2018

كم من الخسارات يمكننا أن نعد عندما نكون أمام عرض جيد يتم تقديمه على الخشبة في صالة تكاد تكون فارغة إلا من آحاد. بالطبع لا يمكن أن نلقي باللائمة على صنّاع العرض المسرحي «انتحار الرفيقة الميتة» الذي أنتجه مسرح العلمة في 2017 الذين وفروا أفيش بحجم كبير يكفي ليستجلب جمهورا وتم الإعلان من طرفهم عن العرض وتوقيته بالطرق التي تتوافر عندهم.. المشكلة في الإعلام عند المسرح الذي يستضيف العرض بحيث لم يستطع أن يجعل حتى المهتمين بالمسرح من فنانين وشباب هاو يعلمون بالأمر. لا تزال المسارح في الجزائر تفتقد في الكثير منها إلى أدنى درجات الاحترافية فيما يخص الإعلام. وهو مشكل لا يزال يسأل عنه المسئولون عن هذا في كل مسرح.
العرض يتناول شخصية شابة عشرينية تسمى «رفيقة أقفار» تعمل ممثلة (قامت بالدور المبدعة كنزة أصالة بن بوساحة) تقرر الانتحار بسبب الضغوطات التي كانت تعيشها ورفضها لنوعية التفكير التي تراها عند المجتمع الذي تعيش ضمنه. الروتين القاتل والتناقض الشديد الذي تراه يجعلها تتأثر بفيرونيكا (رواية باولو كويلو: فيرونيكا تقرر أن تموت) التي وجدت في شخصيتها تقاطعات وتشابهات كثيرة. تقرر رفيقة القيام بهذه الخطوة القاسية رغم أنها تملك كل متطلبات الحياة. غير أن النتيجة تكون على عكس ما كانت ترغب.إذ تكتشف نفسها وهي تستيقظ في مستشفى للأمراض العقلية بسبب الدواء الذي حاولت رفيقة الانتحار به تصاب بانفصام جزئي في الشخصية ويتدخل الطبيب (قام بالدور الممثل الشاب المبدع علي ناموس) فيكذب عليها بأنّ لديها ثقب في القلب. هذا الطبيب الشاب الذي يمارس عمله في المستشفى الخاص باحتراف وثقة. يجد نفسه أمام خصوصية حالة رفيقة..بين محاولاته في إثبات مقدرته الكبيرة في عمله وبين انتمائه لمؤسسة خاصة لها ضوابطها الخاصة في نهاية الأمر وبين واجبه تجاه النزيلة الجديدة. في داخل المشفى تتعرف الشابة على شخصيات تؤثر عليهم وتتأثر بهم مثل «زهوة» (تمثيل: هاجر سيراوي) التي تلبس طوال الوقت زي المحامية بحيث تصبح مقربة منها وسراج الشاب الانطوائي الذي تغرم بيه رفيقة وبعد محاولات معه يقع في حبها هو الآخر وبفضلها يخرج من انطوائيته ويتكلم بعد فترة مطولة من الصمت ثم يظهر في الأخير أنه ضابط مخابرات.
تتغير نظرة الشابة للأحداث في فترة مكوثها بالمستشفى فتحاول أن تعيش تجربتها في الحياة دون اهتمام بآراء الناس ودون خوف من الغد. الاختلاف المفصلي يأتي عندما يتم قتل سراج من قبل المجانين في ذلك المستشفى. هذه المفاجأة غير المحسوبة تفتح التساؤل الكبير أمامها وأمامنا: هل يمكن أن تجرب مجددا تجربة الانتحار كخيار؟ هي نهاية مفتوحة يمكن أن يكملها المتلقي بطرائق متنوعة.
تنوسُ المسرحية ضمن أجواء وجودية «قاتمة» ابتداءً وفي مفاصل كثيرة من العمل. تنخرط في أسئلة كثيرة حول الحياة وقيمتها. العقل والجنون.الموت والحياة. المهم والتافه.. القيّم والساذج.. وتقترب في بعض محطاتها من أجواء مسرح سارتر (جلسة سرية) مثلا أو إيمانويل شميت (فندق العالمين) (بعض العروض تناولت التيمة نفسها بأشكال مقاربة مع اختلافات واضحة أيضا. انظر مقالي: تساؤلات. أو هيا بنا ننتحر فالعالم أسود ضمن كتابي: خطوط غير مستقيمة) حيث تجد الشخصية نفسها في مكان غريب عنها لا تعرف ما هو وتبدأ شيئا فشيئا في التعرف عليه واتخاذ موقف مضاد من البقاء فيه. الرغبة بالخروج منه ووجود قوة تحول بينها وبين ذلك. يبدأ المكان الغريب الذي لا يشير شيء غير حوار الشخصيات بأنه مستشفى بتشجيع رفيقة على التساؤلات الكبرى كالتي ذكرناها. العرض ذكي بامتياز تجتمع فيه الفلسفة إلى جوار الأدب والشعر والموسيقى وأسماء شهيرة في الفن والإبداع لا تنسى الشخصيات أن تذكرها.
العرض يناقش الهشاشة الإنسانية التي تجعل من لحظات ما تشجع على نزول الدمع. ولحظات أخرى تستغرق صاحبها في ضحك صافٍ. إنه عرض متقن كتابة نصية ثم ركحية ليس وليد عبقرية ولكنه وليد جهد محترف لمخرج عرف جيدا ممارسة دوره وتوزيع المهام على كل المجموعة الصانعة للعمل.
مضت عصور بينما كان محبو المسرح يعلنون بثقة أنه «أبو الفنون» مع بعض العروض وهذا العرض منها نستكشف أن المسرح أيضا هو الأب الطبيعي «للجنون» أيضا. ليس لأنه احتكم على هذه التيمة في بناء النص والأحداث فقط بل لأنه بنى إخراجه أيضا على الجنون.. مفردات العرض بقدر ما كانت بسيطة كانت تنفتح على صور تأويلية كثيرة. الغموض الذي ركّز المخرج على تواجده طيلة العرض. الإضاءة التي كانت تعمل فيها الظلال أكثر مما تعمل الأضواء المبهرة لغرض فني أنتج الإبهام والترقب عند المتلقي.. السينوغرافيا المتقشفة التي جمعت صناديق خشبية وأخرى ورقية يمكن أن نجدها مرمية على قارعة الطريق بينما يحسن السينوغراف تدويرها في هذا العرض بعيدا عن أوهام تربط بين جودة السينوغرافيا واستنزاف المقدرات المالية للجهة المنتجة. ساهمت السينوغرافيا بدقة في رسم معالم المكان بغموضه وانفتاحه على التأويل لولا تحديد الحوار لإطارها. يحسب للسينوغراف حمزة جاب الله أنه لم يجعلها تنحاز إلى الإغراء الجمالي المبالغ فيه بقدر ما فضل أن تكون أحجام مكوناتها مناسبة وأكثر اتزانا. وقابلة للتأويل المتعدد بدلا من التفسير الأحادي المباشر الذي يظهر كثيرا في العروض المسرحية.
الملابس التي كان الجميع يلبسها مقلوبة (عدا رفيقة) كانت «خيارا جماليا» بتعبير صنّاع العمل حدد الاختلاف بين العالمين المتوازيين. عالم خارج المستشفى وعالم داخله.. واحد حقيقي واقعي وآخر مجنون وسريالي. استخدام الفصحى والعامية أيضا يمكن تفسيره هكذا. ومن جهة أخرى بالنسبة للموسيقى ليس عجيبا أن رفيقة عندما اخذت السماعات من الممرضة وانتشرت موسيقى إيقاعية سريعة ومبهجة أن تنزل من الخشبة وتطوف بالقاعة حيث الجمهور بل وتراقص بعضهم. إنها حياة أخرى خارج الإطار الذي وجدت نفسها فيه. ألوان وحركة وجمال خارجيا في مقابل قتامة وموات وقبح في الداخل.
«كنزة أصالة» ممثلة متميزة. تمتلك أدواتها المحترفة في تجسيد أدوارها والانطلاق بها إلى أبعد الحدود. سبق لها أن قدمت عدة أعمال للمسرح مثل ملحمة الجزائر. شكازولو. الإسكافية وغيرها. وهي من الممثلات الجيدات اللائي يمتلكن القدرة على التمثيل والرقص ونطقها للفصحى يكاد يكون مثاليا على خلاف غيرها. كما أن «علي ناموس» الذي شاهدته على الخشبة في مسرحية أخرى وسبق له المشاركة في مسرحية هامة مثل «فندق العالمين» إضافة إلى أعمال مثل «يما» و» الخليفة» كان بارعا يمتلك القدرة الواعية في التعامل مع دوره بخفة وانسيابية واضحة. صدقية دوره تجعله قادرا على تمثيل الكثير من الأدوار بغير صعوبة. والحقيقة أن الممثلين جميعا في هذا العرض كانوا في أدوار كأنها كتبت خصيصا من أجلهم. اختيارات المخرج كانت متميزة حقا في هذا. شخصية «عبدو» أيضا التي قام بها الممثل «رمزي كجة» لم تكن مبدعة فقط بل إنها رفعت التلقي عند الجمهور إلى أفضل درجاته. لمحاته الهزلية وهو يلعب دور المجنون الذي يظن نفسه عسكريا يقوم بواجباته النظامية مارست دورها في التوازن بين الحزن الذي يفرضه عمل يناقش الجنون في مستشفى للأمراض العقلية وبين كوميديا اقترحها الكاتب ليبيّن أن في الأحزان كثيرا ما تنبت أشجار الفرح وترتفع عاليا. كان رمزي مع كنزة وعلي وزملائهم في أفضل حالاتهم وهم يبدعون بعقل متزن «الجنون بجده وهزله».
أخيرا.. على الرغم من التشاؤم الكبير الذي يبديه الكثيرون فيما يخص واقع ومستقبل المسرح في الجزائر وسط الكم الكبير من الأعمال الهزيلة التي تقدم هنا وهناك فإن هناك تباشير تدعو للتفاؤل حقا فيما يقدمه عدد هام من الفنانين والشباب منهم خاصة. لا شك أن هذا العرض علامة جميلة من علاماتها.


ياسين سليمانى