تشريح أزمة الوعى المنهجى فى المسرح الغنائى قراءة نقدية لكتاب منصور شاهين

تشريح أزمة الوعى المنهجى فى المسرح الغنائى    قراءة نقدية لكتاب منصور شاهين

العدد 956 صدر بتاريخ 22ديسمبر2025

لطالما كان المسرح، منذ نشأته، مرآة تعكس الروح الإنسانية وتجاربها المركبة، ومجالًا تلتقى فيه الفنون لتشكّل عرضًا حيًا لا يقوم على الحكاية وحدها، بل على بنية جمالية متكاملة. فالمسرح ليس مجرد نص يُروى أو حوار يُلقى، وإنما منظومة تتشابك داخلها عناصر متعددة، من التمثيل والإخراج إلى السينوغرافيا، وفى قلبها جميعًا تقف الموسيقى بوصفها أحد أكثر العناصر تأثيرًا فى تشكيل الوعى الدرامى للعرض.
ولا تُعد الموسيقى المسرحية عنصرًا تزيينيًا أو خلفية سمعية، بل هى لغة موازية للغة الكلام، تسهم فى بناء الجو الدرامى، وتكثيف الصراع، ودفع الحدث نحو ذروته. ومن ثم، فإن فهم العرض المسرحى لا يكتمل دون إدراك طبيعة العلاقة العضوية بين الدراما والموسيقى، بوصفهما عنصرين لا ينفصلان داخل النسيج المسرحى.
فى هذا الإطار، تأتى هذه القراءة النقدية لكتاب منصور شاهين «إطلالة على الدراما فى المسرح المصري: الدراما والموسيقى المسرحية»، باعتباره محاولة جادة لتشخيص أزمة المسرح الغنائى المصرى من منظور منهجى، يربط بين تقدم البناء الدرامى وتراجع الوعى بوظيفة الموسيقى المسرحية. يضع شاهين يده على جوهر الأزمة، معتبرًا أن الخلل لا يكمن فى نقص الإمكانات أو المواهب، بل فى غياب الرؤية العلمية المتكاملة، وتهميش الموسيقى بوصفها عنصرًا دراميًا فاعلًا، وهو ما تسعى هذه القراءة إلى مناقشته وتحليله نقديًا.

الدراما والموسيقى فى المسرح المصرى: تشريح أزمة الوعى والمنهج
?لقد وُضع الأساس النظرى للطرح النقدى بتشخيص الفجوة العميقة بين تطور الدراما وتباطؤ الموسيقى المسرحية، وهو ما أسهم فى ارتباك الذهنية الفنية وأفرغ المسرح من وظيفته التعبيرية. يُرجع هذا التحليل الأزمة إلى غياب الوعى الدرامى لدى الموسيقيين، معتبرًا أن الموسيقى لا يمكن أن تنفصل عن الصراع. هذا الطرح النقدى - رغم قسوته أحيانًا فى تجاهل مسؤولية النص والإخراج - يؤسس لمعيار حاسم: هو رفض الاعتماد على الموسيقى الجاهزة والأسطوانات، والدعوة إلى تعاون عضوى بين المؤلف والمخرج والموسيقى، مهاجمًا ما يسميه «النفاق الثقافى» فى تقييم الإنجازات الفنية وغياب المنهج العلمى.
?هذا المعيار النقدى يظهر بوضوح عند تحليل تجربة سلامة حجازى، الذى يُعترف بإنجازه البنيوى الأعظم والمتمثل فى نقل الغناء من «جلسة التخت المحدودة» إلى «خشبة المسرح الرحبة»، لكنه وقع فى «المأزق التأسيسي»؛ حيث اضطر للتضحية بالبناء الدرامى المتكامل والتحول إلى «مسرح الغواية» لإرضاء الجمهور الذى أولى الأولوية لـ «الاستماع إليه» كمطرب فردى.
?إن هذه المفارقة المؤسسة، التى أسست للشكل لكنها فشلت فى تحقيق الاكتمال الدرامى، هى ما مهدت للثورة الحقيقية التى جسدها سيد درويش. يمثل درويش الذروة المنهجية والنموذج الأكمل للتكامل العضوى بين الدراما والموسيقى. ثورته كانت بنيوية؛ حيث حطم قيود «التخت» و»التطريب»، وحوّل الغناء إلى «نسيج عضوى” يخدم الصراع الدرامى ويعبر عن قضايا الشعب عبر التأليف الهارمونى و»اللحن الحوارى”. لكن المأساة هى أن هذا الإنجاز البنيوى لم يُستثمر، ما أدى إلى ارتداد المسرح المصرى إلى الأغنية الفردية بعد وفاته عام 1923.?
 طرح شاهين مفارقة صادمة: كيف يمتلك المسرح المصرى كل المقومات الأكاديمية والتقنية (أوركسترا، معاهد متخصصة) ومع ذلك يغيب المسرح الغنائى المحلى الجذرى؟ يُشخِّص الأزمة بأنها لا تكمن فى نقص الإمكانيات التقنية، بل فى غياب التأليف الدرامى المرتبط بالواقع الاجتماعى. فالمشكلة الحقيقية هى غياب ألحان تعبّر عن حياتنا «الموضوعية» بلغة موسيقية عالية، مؤكدًا أن المسرح الغنائى لا يمكن أن يولد من التقليد الأكاديمى، بل من التفاعل الجذرى مع البيئة.
وفى هذا الإطار، يُعاد وضع سيد درويش كنموذج واعٍ لوظيفة الموسيقى الدرامية، الذى حرر الموسيقى من هدف التطريب وربطها بالحركة والصراع. لكن هذا المسار توقف عند حدود وفاته، ليعود كثير من الموسيقيين إلى «التخت» والأغنية الفردية، وهو ارتداد عن الفكرة الجوهرية التى أسس لها: ربط الفن بالحياة. يستحضر شاهين تجربة أبى السعود الإبيارى كنموذج مضاد: فبساطة أشكاله المسرحية (الاسكتش والفودفيل) لم تمنعه من دمج الكوميديا الشعبية بالنقد الاجتماعى والسياسى. ويناقش تجربة محمد عبد الوهاب، حيث لا ينكر التحليل مكانته، بل يضع تجربته فى إطار إشكالي: الانحياز إلى الأغنية الفردية على حساب المسرح الغنائى، ما أدى إلى عزل الموسيقى عن وظيفتها الاجتماعية.
?إن الارتداد من ذروة درويش إلى الأغنية الفردية يثير تساؤلًا جوهريًا حول اللحظة التأسيسية للمسرح الغنائى. لفهم عمق التراجع الذى حدث، لا بد من العودة خطوة إلى الوراء لإعادة تقييم الإنجازات والتنازلات التى فرضها الدور الريادى على أول من حمل لواء المسرح الغنائى.
?يمثل تحليل مسرح سلامة حجازى دراسة محورية تستهدف رصد الدور التأسيسى والريادى لهذا الفنان. ينطلق التحليل من فرضية أساسية مفادها أن تجربة حجازى لم تكن مجرد حالة فردية، بل كانت انعكاسًا عضويًا لاليقظة الشعبية والفنية التى تبلورت أحداثها فى أعقاب ثورة عرابى. القوة المنهجية تكمن فى أن تجربة حجازى تأكيد أنها استجابة لتغيرات الوعى. كما يبرز شاهين تجديدات حجازى الجوهرية فى الأغنية الذى يؤكد تحول المسرح الغنائى إلى «غناء مسرحى تعبيرى”.

التراث المهمل: داود حسنى وسيد درويش فى مواجهة إشكالية «أين هي؟»
?يُشكل هذا المحور نقدًا لاذعًا لثقافة الإهمال والاحتفال السطحى، حيث يتناول تجربة داود حسنى وسيد درويش فى سياق إشكالية واحدة هى غياب التوثيق والدراسة المنهجية لأوبريتاتهما. يشدد شاهين على أن التطور الفنى يتطلب «تغيير التفكير الفنى نفسه»، مما يجعل من دراسة أعمالهما ضرورة منهجية لتجاوز التراجع المتمثل فى الإغراق بالأغنية الفردية.
?فى دراسة أوبريتات داود حسنى، يتمثل الجانب الأقوى فى تحميل المجتمع الفنى والبحثى مسؤولية تجاه التراث المنسى. لقد نجح شاهين فى تأطير تجربة حسنى ضمن سياق أيديولوجى وتاريخى متماسك؛ إذ ربط نشأته فى حى شعبى بتأثره بالثورات الفكرية ودعاة التنوير كالإمام محمد عبده، مما يفسر منطقية تحوله إلى ملحن وطنى ورائد فى تلحين أعمال ذات طابع وطنى ضمن الثلاثى المؤسس.
?ومع أهمية السؤال المطروح («أين هي؟!»)، يظل قاصرًا فى التعمق فى الأسباب المنهجية لضياع هذا التراث الأوبرالى.
?تنتقل الإشكالية ذاتها إلى أوبريتات سيد درويش ليؤكد شاهين أن عبقرية درويش تكمن فى إدراكه العميق للدراما الموسيقية، وينتقد كون معاهد الموسيقى تدرس التراث دون ربطه بـ فلسفة الفن، مما أدى إلى غياب فهم «رسالة سيد درويش» الحقيقية.
?يُظهر شاهين قوة منهجية ملحوظة فى تحديد الأولويات الفنية، حيث يُركز على أن الأزمة تكمن فى فشل الدارسين فى إدراك أن الموسيقى المسرحية هى «جزء جوهري» من الأحداث الدرامية. وعليه، يطرح الأطروحة القوية بضرورة وضع المقاييس الدرامية فى المقام الأول فى التقييم، مشيدًا بتجربة عبد الحميد عبد الرحمن كـ «أول مرة» يتم فيها وضع الموسيقى كعنصر رئيسى حقيقى فى العرض الدرامى الحديث، مؤكدًا أن المرحلة الحديثة تتطلب موسيقى «مدروسة» ومصاحبة للمسرحيات.

? تشخيص العلة البنيوية
?أنتقل شاهين إلى تشخيص العلة البنيوية العميقة ، مؤكدًا أن مكانة الموسيقى فى المسرح العربى تعانى من حالة «هيصة»، وأن الضرورة قصوى لإعادة ترسيخ أهميتها كعنصر درامى رئيسى يمتد تأثيره ليشمل المسرح بصفة عامة. فالجذر الفعلى للمشكلة يكمن فى التصور المغلوط الذى يختزل الموسيقى فى دور «الكماليات» أو مجرد تسجيلات وأسطوانات تُستخدم ببدائية لملء الفراغ الصامت.
?يكشف الكاتب عن غياب تام لمعرفة «الوظيفة الحقيقية» للموسيقى، ويرصد نوعين من المحاولات: المحاولات الساذجة (التى تعتمد على المحاكاة البحتة أو الأغانى المألوفة دون تناسب فني)، والمحاولات الجادة الفاشلة أو المتوقفة (التى تبرهن على أن الموسيقى يجب أن تكون متزامنة مع النص والعمل المسرحى، كمسرحية الزلزال ليوسف شوقي).

?العلاج المقترح: الانتقال إلى النضج الأكاديمي
?يرى الكاتب أن الخلل يكمن فى ضعف الإحساس بالموسيقى الصحيح وعدم القدرة على خلق موسيقى تعبر عن طابعنا وشخصيتنا، ويشدد على أننا لا يمكن أن نكتفى بتقليد المسرح العالمى، بل يجب أن نصحح تفكيرنا لممارسة الموسيقى المسرحية الملائمة لمسرحنا.
?لذلك، يطرح الكاتب «العلاج بالعلم» كحل وحيد ومركزى، يتمثل في: تغيير المناهج الأكاديمية التى تكتفى بدراسة الأوبرا تاريخيًا، وضرورة تأسيس مادة التأليف الموسيقى التى تتطلب دراسة علوم كثيرة وفلسفة الفن وتاريخ الموسيقى على غرار المناهج الأوروبية.
?يُسلط شاهين الضوء على أن الدليل على القصور يكمن فى عدم دخولنا إلى المرحلة الأوبرالية بمقاييس علمية، وعدم استخدام تقسيم الأصوات (التينور، الباريتون، إلخ) فى توزيع الأدوار، مما يضعف موضوعية فنوننا.

? البحث عن مسرح سيد درويش
?يشكل هذا الجزء نقدًا تحليليًا عميقًا يتجاوز تمجيد العبقرية الفنية إلى مساءلة أسلوبية حول التعامل مع تراث درويش نفسه. إن الهدف ليس ترديد العبارات، بل التنفيذ العملى لدراسة درويش كـ»نقطة بداية» لخلق المسرح الغنائى الجديد، بدلًا من أن يكون رحيله هو العامل الذى حطم هذا الفن.
?يؤكد شاهين أن مسرح سيد درويش هو فى جوهره فن الشعب، فهو الفنان النابع من الأرض والمعبر عن الناس، وقد نقل الغناء من الصالونات الفاخرة إلى مسرح يغنى للناس ومعهم. وبالمقابل، يوجه شاهين نقدًا تفصيليًا لمشكلة التوزيع الموسيقى فى مقطوعات درويش؛ حيث يرى أن التوزيع لم يكن مستخدمًا أو كان مفتقدًا، وأن محاولات التوزيع الارتجالية قد أدت لنتائج عكسية، لأن التوزيع عملية علمية تتطلب دراسة عميقة لخصائص الآلات ووظائفها التعبيرية. خلاصة القول، يشدد على أن تطور الموسيقى المسرحية يأتى من خلال تصحيح تفكيرنا الموسيقى والمشاركة فى النضج الفنى.

نداء لإصلاح الخلل المؤسسى والمنهجي
?إن كل ما سبق من تشخيص لأزمة الوعى، ونقد للارتداد بعد درويش، وإدانة لغياب التوثيق، وتشخيص للخلل البنيوى فى المسرح، يصب فى نهاية المطاف فى دعوة للإصلاح المؤسسى والمنهجى. يطرح السؤال النقدى نفسه بحدة: «أليس من الغريب أننا إلى الآن لم نفكر فى إنشاء معهد للموسيقى المسرحية؟!».
?يرى شاهين أن هذا الغياب يعود إلى أن الوعى الفنى لم يبلغ بعد درجة إدراك أن المسرح الغنائى يمثل ضرورة فنية حقيقية. فالخلل يكمن فى أن المعاهد الفنية القائمة تفتقر إلى إدراج دراسات الموسيقى المسرحية، بينما ينشغل الكثيرون بالجدل حول مشكلات لغوية أو شكلية، ويهملون المشكلات الحقيقية المتعلقة بغياب التفكير المسرحى. فالموسيقى المستخدمة فى مسرحياتنا غالبًا ما تكون «ملزوقة»، يمكن نقلها بسهولة من مسرحية لأخرى، وهى ظاهرة تؤكد غياب التفكير الفنى الذى يدرك وظيفة الموسيقى الحقيقية فى ضوء التراكيب الفنية المتكاملة.
?لذا، يقدم خطة علاجية شاملة تبدأ بضرورة إنشاء معهد للموسيقى المسرحية أو برامج دراسات عليا متخصصة فى هذا المجال. ويشدد على أن هذا المعهد المقترح يجب أن يتجاوز تدريس الألحان التقليدية ليشمل دراسات عميقة فى الفلسفة، وتاريخ الفن، والعلوم الإنسانية والاقتصادية، لأن «التفكير الفني» هو الأساس الذى يجب أن يُبنى على أسس فلسفية. هذا التعمق فى الدراسة هو الذى سينقل الإنتاج الفنى من مرحلة الارتجال والسذاجة إلى العمق والتعبير الموضوعى.
? فى الختام، أؤكد أن تطوير المسرح يتطلب التخلص من رواسب الماضى التى كانت تعتبر الفنون مجرد أدوات للتسلية والترف. فالفنون الآن أصبحت أدوات لـ التوعية الفنية، وأن المسألة ليست مجرد إنشاء معهد، بل أن يكون التكامل الفنى، باعتباره كأسًا جوهرية لكل الفنون، ضرورة لخدمة المجتمع وحياتنا. إن بناء هذه المؤسسات، وتطبيق هذه المناهج المتكاملة التى تؤصل المنهج العلمى فى الوعى الفنى، هو السبيل الوحيد لضمان أن يشارك الفنانون المثقفون بفاعلية فى تطوير الإنتاج الفنى، والارتقاء به من مستوى المحاكاة السطحية إلى مستوى التعبير الموضوعى والجذرى عن الحياة.


نورهان ياسر