العدد 954 صدر بتاريخ 8ديسمبر2025
ماالحرب سوى ساحات دم ليس فى هذه الساحات مغلوب وغالب ليس فيها منتصر أومهزوم، تلك الجمل قالها الفتى مهران فى مسرحية عبد الرحمن الشرقاوى التى تحمل نفس الاسم، وهى جُمل غاية فى البلاغة والأهمية بل إنها عابرة للزمن يمكنها التعبير عن المناطق المسخنة بالحروب فى البلاد المختلفة، وهنا فى السودان فى اقليم النيل الأزرق تسجل مجموعة من الفتيات اعتراضها الفاعل على الحرب وآثامها وتتخذ من المسرح وسيلة للتعبير عن ما تشعر به النساء فى عالم الحرب القاسي، ضمن مهرجان مسرح البنات بإقليم النيل الأزرق بالسودان قدم عرض «نجاة» تأليف وإخراج سمية خلف الله والتى تهيىء المتلقى للدخول فى الحدث من خلال الصورة المقدمة بتكويناتها والتى تعبر عن مستنقع صغير يحيطه الطين من كل جوانبه.. فى خضم الرعد والبرق والطين والوحل والظلام ولدت نجاة تلك الطفلة التى تحدت الموت والحرب والهروب، فقد هربت الجدة رحيل مع الابنة حياة من جحيم الحرب لعلها تجد مأوى لابنتها تضع فيه طفلتها، الا أن الجدة لم تجد سوى هذا المستنقع لتختبيء فيه من القتل والاعتداء، وقد انجبت ابنتها فيه الطفلة نجاة وسط الطين والماء ثم فارقت الحياة لنتسأل هل ستنجو الجدة والحفيدة أم أن مصيرهما كما الأم، هل ينجون من المواجهات والقتل؟ وإن نجينا هل تحيا كلتاهما فى ظل الجوع هذا القاتل الصامت الذى يحيل الإنسان إلى شبح بعد أن يجرده حتى من الجسد.
يبدو الخوف والذعر والفزع حالة مستمرة تحياها الجدة رحيل، ومن اسمها فعليها أن ترحل ومن معها لأنه ثمة توقع للشر الكامن والأذى والضرر المقيم، والموت الملاذم لكارثة الحرب مما يفتح لدى المتلقى عدد لانهائى من الأسئلة فهل سترحل أم ستنتظر الموت يائسة لموت ابنتها وهى تضع نجاة هذه الطفلة الصغيرة التى نجت من الموت لتنتظر الموت.
يعد المكان والزمان والحدث والأشياء تجربة جمالية، وجميع مكوناتها خاضعة لهذه التجربة سواء متلقى أو مؤدى أو فضاء، والجسد الإنسانى هو المكون الأساسى لهذه التجربة الجمالية ذاتها، وفى عرض نجاة لاشيء سوى أجساد الممثلات وتكوينات تعبر عن مستنقع لايزخر سوى بالأعشاب والطين، وفى لحظات كثيرة يمكن أن تتساوى الممثلة بالطين وكأنها جزء منه ذلك التماهى البائس فى لحظات مابين الحياة والموت يجعل من المشهد أشد قسوة ورهافة، إن الأداء داخل الفضاء يجعل من مفهوم إعادة تشكيل الفضاء دور مركزى فى الدفع بالعمل نحو جودة الأداء، فالفضاء يٌخلق بناء على ما يحدث فيه، وفى عرض نجاة لم يعد الفضاء مُحايد وأصبح يتشكل كنتيجة للأفعال الدرامية التى تقوم بها الشخصيات، فالابنة فى حالة من الألم المستمر نتيجة مخاض الوضع، والأم لاتملك سوى التعاطف والمساندة، وتختار المخرجة أن تبقى الإضاءة بدرجة منخفضة طوال مدة العرض كنوع من التأكيد على حالة الظلام التى أصبح هذا المجتمع يحيا فيها نتيجة التناحر والحرب البائسة، والجمهور يجلس حول الممثلات خارج المساحة التمثيلية فهو مُراقب ومشارك فى آن معا، هذا الجمهور يعد جزء من الحدث يحيا معاناة الممثلات بأشكال مختلفة لذلك فإن الجمهور داخل الفضاء قريب جدا من المستنقع الذى تَحول إلى معادل موضوعى لما يمكن أن تخلفه الحرب من الخراب والموت. الممثلات» فدوى عبدالرحمن» فى دور الأم وقد بدت لاحيلة لها ومع ذلك فهى تستمر فى محاولة حماية ابنتها من الرعد والبرق والمطر والموت، و»رؤى الصادق» فى دور الابنة وهى الأنثى التى لا تشعر سوى بألم الوضع وكأنها تصرخ فى وجه الحياة بخلق جديد عبارة عن أنثى تخرج من رحمها وكأنها بديل عنها وهى التى أنهكتها الحياة، وقد أدت كل منهما الدور الموكل اليها بشكل فاعل لدرجة يمكن من خلالها التأكيد على التمكن بدرجة كبيرة من تقمص الدور، فكلتاهما تقدم أداء يتشكل من خلاله الفضاء ويتفاعل معه المتلقى .. ساعد فى الاخراج إخلاص محمد سعد، ونفذت العرض هدى مكاوي،ومنفذ الإضاءة أمين صلاح، والديكور أحمد سيد رحال، أيمن أحمد حسن،إبراهيم موسى، محمد الدوم، المشرف الادارى الهادى الشواف، المشرف الفنى، وليد عمر الألفي، اللافت للنظر فى هذا العرض أنه اتخذ من الصمت وسيلة أساسية يمكن من خلالها التعبير عن كافة المشاعر فلا يمكنك كمتلقى سماع سوى أصوات الألم والخوف بديلا عن ممارسة الكلام فالشخصيات تختبئ من القتل الدائر فى كل مكان، ليكون الصمت أبلغ من الكلام بشكل قاطع، فهذا الصمت المفعم بالآلم والوجع واليأس قادر أن يجعل المتلقى جزء من الحدث متأثرا به، لا يمكنه سماع غير صرخات الآلم مع تطور الحدث الدرامى الذى يبدأ منذ بداية آلام الوضع إلى انتهائها بعد الوضع ثم الموت.. تجربة مهرجان مسرح البنات التى تقدمها منطقة صناعة العرض فى السودان بإدارة وليد الألفى تعد تجربة غاية فى الأهمية فهى تعبر وتوثق لآلام الفتيات تحت نير الحرب، هذه التجربة ترى ويلات الحرب بعين الفتيات ومشاكلها، وما يمكن أن يكون خاص تماما بعالم وجب أن يكون طى الكتمان، وهو عالم المرأة بين طيات الحرب فمن أجدر من التعبير عن المرأة غير المرأة، هنا يكشف عن المسكوت ويصبح للفتاة صوت تعبر به من خلال المسرح فقد أصبح المسرح صوتها ووسيلتها فى الحياة، ومن المهم فى هذه التجربة أن جميع مكوناتها يشتغل عليها صناعها بوعى وفهم، رغم الإمكانات المادية المتواضعة فإنها تجربة تؤكد أهمية العنصر البشرى فى المسرح فمن الممكن الاستغناء عن كل العناصر ولكن لايمكن الاستغناء عن الإنسان.