سيد عبد الرازق: المسرح والشعر ملاذى بعد ساعات العمل فى المجازر

سيد عبد الرازق: المسرح والشعر ملاذى بعد ساعات العمل فى المجازر

العدد 954 صدر بتاريخ 8ديسمبر2025

فى هذا الحوار، نفتح نافذة على تجربة الكاتب والشاعر سيد عبدالرازق والتى تجمع بين عوالم متعددة: الطب، المسرح، الشعر، والنقد. شخصية استطاعات أن تجمع بين الدقة العلمية للمهنة الطبية، والخيال الإبداعى للمسرح والشعر، لتقدّم أعمالا تمتزج فيها الملاحظة الدقيقة بالوجدان الإنسانى العميق. نتعرف على رحلته من صعيد مصر، حيث تشكّلت رؤيته الفنية من مزيج متنوع من البيئة والتجارب اليومية، وصولا إلى إنجازاته المسرحية والشعرية التى حصدت جوائز محلية وعربية. خلال هذا الحوار، نكتشف رؤيته حول المونودراما، المسرح التوعوى والمسرح الموجّه للطفل، ونستكشف أفكاره حول مستقبل الكتابة المسرحية فى عصر الذكاء الاصطناعى، كما نتطرق لنصائحه للشباب الراغبين فى دخول عالم الإبداع، وجائزته الأخيرة كأفضل نص مونودراما من مهرجان ألتيسيرا الدولى للمونودراما بالجزائر عن نص «راقص الفلامنكو».

كيف تجمع بين كونك طبيبا ومسرحيا وشاعرا؟ وكيف تتقاطع جميعها معا وتؤثر فى إبداعك؟
قدر الله لي أن أتخصص في الطب البيطري على غير رغبة منى فى البداية، وهو فى دراسته المنطقية والدقيقة للأشياء يمنحنا القدرة على ملاحظة دقائق الأمور والبحث عمَّا وراء الأمور الظاهرة؛ لأنه ليس ثمة خطاب شفهى قد يدور بين الطبيب البيطرى وبين مريضه، وبالتالى فاعتماده الأكبر هو على الملاحظة ودراسة العلامات، وفهم السلوك الطبيعى والسلوك المغاير؛ لنضع يدنا فى النهاية على مكمن المسألة وبواعثها والطريقة المثلى للتعامل معها، والتدرج فى هذا التعامل حسب الحالة، أضيف إلى هذا أننى عملت فترة كبيرة فى المجازر، وكنت أرى من العنف ما يدفعنى دفعاً للسلام النفسي الموجود فى الأوراق البيضاء، ويعلمنى معنى المعاناة الحقيقية، ويمثل المسرح والشعر ملاذاً آمناً أعود فيه إلى نفسى بعد ساعات العمل الشاق المصبوغ باللون الأحمر، هذا المزج الغريب خلق معادلة تجمع بين ترسيخ القيمة العلمية فى كل فن أطرق بابه، وأنسنته، وتحويل الأشياء حتى القبيحة منها إلى قيمة جمالية.
كيف أثرت بيئة الصعيد فى تكوينك الأدبى والفنى؟ وحين تكتب كيف تتشكل شخصياتك عادة؟ 
الإنسان نتاج لجيناته وبيئته والتفاعل بين هذه الجينات وهذه البيئة، ولقد نشأت في أسيوط، لأسرة تتشح بالطابع الدينى المتمسك بعاداته وقيمه، في الوليدية التي يحدها النيل شرقاً والمدينة غرباً. كانت تضم كل شيء: المقارئ والمقاهى، الإنشاد الصوفي وغناء الجدات، الأبراج الحديثة وبيوت الطين العتيقة، الأسفلت والأزقة والحوارى، أهل العلم وأهل الدجل، عائلاتها الأصيلة والوافدين، والطلاب القادمين من كل أنحاء العالم للدراسة بجامعات الأزهر وأسيوط والعمالية، ومراكب الصيد، وقناطر أسيوط، رأيت كل شيء يمكن أن يكسبنى فهم قيمة التنوع والتكامل والعمران البشرى، على حد تعبير ابن خلدون، فى بيئة صلبة مكتظة لا تمنح اعترافها بسهولة، فكان عليَّ أن أسخر كل طاقتى، وانعكس ذلك لا على مستوى الشخصيات فحسب، بل على مستوى التباين الإنسانى الذى يعلمنا أن الحياة كلها بوليفونية (متعددة الأصوات) وكل شيء فيها له كيانه الخاص وشخصيته المستقلة وطريقته فى التفاعل، وهذا هو جوهر المسرح بل جوهر الإبداع ككل. 
حدثنا عن مسرحية «راقص الفلامنكو»التى حصدت عدة جوائز دولية في مصر وتونس وأخيراً الجزائر، فما أهمية الجائزة بالنسبة لك؟ وما هى الفكرة الأساسية والرسالة التى كنت تسعى لإيصالها من خلال النص؟ 
أحاول فى كتابتي دائماً - بتوفيق الله لي- أن أتجه إلى مناطق لم يكتشفها الكثيرون؛ ولذا اخترت شخصية كاتب وفنان إسباني قتل فى الحرب الأهلية، ليعود إلى الحياة على خشبة المسرح فى محاولة لترتيب مسكنه الجديد بعد الموت، وخلال بحثه عن أشيائه (كتب، مسدس، لوحات، منديل، بيانو...) ينخرط فى مونودراما طويلة حافلة بالذكريات، يتذكّر كيف تمّت ملاحقته وقتله ظلما، علاقاته الإنسانية، حياته بين غرناطة ومدريد ونيويورك، وما تحمل من تناقضات الإنسان وتأثره بالحضارات المختلفة، وأجواء الحرب الأهلية الإسبانية، ويتراوح أداؤه بين الضحك، والرقص، والغناء، والبكاء، والتحليل السياسى، والسخرية، كاشفًا عبثية الموت، والسلطة، وهشاشة الحقيقة في الأزمنة الفاشية، وفى النهاية، يتبيّن أن كل ما رآه الجمهور لم يكن إلا ممثلا يجهز للعرض المسرحى القادم عن لوركا، فى مفارقة تكشف انزياح الحدود بين الحقيقة والتمثيل، وما أظنه كان عاملا - بعد فضل الله - فى تلقى هذه المونودراما وقبولها فى الأوساط المسرحية العربية المختلفة، أنها تتماس مع الإنسان، بكل ما يحمل من إبداع وسلام ونبوغ ومعاناة؛ إذ تتمحور المونودراما حول أمور متشابكة؛ المثقف والسلطة، الفن والاتهام، الاختلاف والجريمة، عبثية الموت وظلم التاريخ، حصار الإنسان حتى بعد موته بالأسئلة، إدانة القمع والفاشية والاضطهاد، تمجيد الفن كفعل مقاومة، التساؤل حول الهوية والانتماء، الكشف عن هشاشة التاريخ وعبثية المصائر، الإشارة إلى أن الحقيقة كثيرًا ما تكون مسرحًا.
لماذا اخترت المونودراما تحديدا كقالب فنى لتقديم هذه الفكرة؟ وما هى التحديات والمتعة التى وجدتها فى الكتابة ضمن هذا النوع المسرحى الذى يعتمد على صوت واحد؟ ومن وجهة نظرك إلى أى مدى يمكن للمونودراما أن تعكس تعقيد الإنسان الداخلى مقارنة ببقية الأجناس المسرحية؟ 
الفكرة نفسها تقتضى عزلةً وجودية؛ فالبطل فى راقص الفلامنكولا يعيش مع الآخرين، بل مع ظلالهم وذكرياتهم وأثقالهم. هو رجل ميت، يعود ليحاسِب الماضى ويواجه نفسه قبل أن يواجه قاتليه. هذا النوع من القصص لا يحتمل ازدحام الشخصيات، لأن الموت نفسه تجربة فردية، والمونودراما تمنحنى القالب الأمثل لتجسيد هذه الوحدة، وكانت المتعة تتخطى التحديات بكثير، بل إنها ما يجعل للموضوع جاذبية فى النفس، وأكبر التحديات المتعلقة بالمونودراما كفن تجنّب الرتابة والحفاظ على إيقاع العرض؛ لذا كان عليَّ أن أخلق تنويعًا دائمًا فى الإيقاع: رقص، غناء، سخرية، بكاء، تأمل، عنف، وهذا يتطلب دقة كبيرة فى البناء، أيضًا الحفاظ على منطق الشخصية رغم القفز بين الزمن والمزاج؛ فالشخصية تتنقل بين الماضى والحاضر والموت والبعث، ويجب أن يبدو كل ذلك منطقيًّا من داخلها، والجميل فى الأمر أن الكتابة هذه تمنحك القدرة على اللعب مع الأدوات وأنسنتها (الكتب، المسدس، المنديل، البيانو...) تتحول إلى أصوات داخل العمل تمنحه الثراء والتعددية الصوتية، كما أن المونودراما فن يطلق العنان للغة؛ فلا توجد قيود حوارية، بل مونولوج كامل يسمح للشاعر داخلى أن يتنفس؛ لذلك أظن أنها أكثر الأشكال المسرحية قدرةً على ذلك؛ لأنها تعتمد على الداخل أكثر من الخارج.
رأينا اتجاه عدد من المؤلفين مؤخرا لكتابة المونودراما فما هى مقومات نص المونودراما الناجح من وجهة نظرك ككاتب؟ 
يقوم نص المونودراما الناجح على مجموعة عناصر أساسية منها أن تكون هناك شخصية مركزية قوية قادرة على حمل العمل وحدها، لها صوت داخلى ثرى قادر على توليد الدراما من داخلها، وأن يكون هناك دافع واضح يحرك الشخصية منذ اللحظة الأولى ويستمر فى تغذية الصراع حتى النهاية، ويجب وجود إيقاع متجدد يكسر الرتابة عبر تنويعات فى الحالة والانفعال والصوت والجسد، وأيضاً بناء عالم داخلى كثيف يتم استدعاؤه عبر الذاكرة والخيال والرموز والأشياء، لتعويض غياب الشخصيات الأخرى، وأن يستخدم النص لغة حية تتيح للشخصية أن تكشف عن صراعاتها المتعددة، وأن يكون فى النص بناء محكم يحافظ على منطق الشخصية رغم تقلباتها، وألا تكون السينوغرافيا مجانية بمعنى الاستخدام الذكي الاقتصادى للعلامات المسرحية، بحيث تتحول إلى شراكة درامية لا أن تكون مجرد زينة على الخشبة.
وكيف تقرأ حال مسرح المونودراما المصرى والعربى الآن؟ وهل ما زال فنا نخبويا؟ 
المونودراما تشهد توسعاً واضحاً، ويكفى النظر إلى حضورها فى عدد من المهرجانات العربية المتخصصة لندرك أنها لم تعد فناً هامشياً، فمهرجان الفجيرة الدولى للمونودراما فى الإمارات، وهناك أيضاً مهرجان الكويت لمسرح المونودراما، وكذلك مهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابى فى مصر، الذى يخصص مسابقة للمونودراما ويشهد مشاركة منتظمة من بلدان مثل تونس، المغرب، الإمارات، العراق، إضافة إلى عروض أجنبية، ومهرجانات تونس والجزائر ومنها المهرجان الثقافى الوطنى للمونولوج والفنون المسرحية في الجزائر، ومهرجان ألتيسيرا الدولى للمونودراما في تونس، وقد فازت راقص الفلامنكو بجائزة أفضل نص مسرحي مسرحى فى المهرجانات الثلاثة الأخيرة. هذا الحضور المتزايد يؤكد أن المونودراما لم تعد فناً نخبوياً بالمعنى القديم. صحيح أنها ما زالت تتطلب جمهوراً مستعداً للتفاعل مع صوت واحد يُقدّم صراعاً داخلياً مكثفاً، لكن انتشارها فى مهرجانات كبيرة، واستضافة قاعات ممتلئة فى عروضها، يبين أنها تخرج تدريجيًا من دائرة النخبوية نحو مساحة أوسع من التلقى.
وهل ترى أن المونودراما مرشحة لأن تصبح شكلا مسرحيا أكثر حضورا فى المستقبل المصرى والعربى والدولى أيضا نظرا لقلة إنتاجها؟ 
نعم، المونودراما مرشحة لأن تصبح أكثر حضورا فى المستقبل مصرياً وعربياً ودولياً، فالعالم يتجه نحو أشكال مسرحية أقل كلفة وأكثر مرونة، والمونودراما تلائم هذا الاتجاه،؛ ممثل واحد، ديكور محدود، وقدرة عالية على السفر والتنقّل والمشاركة فى المهرجانات، مما يخلق طلباً أعلى على هذا الشكل، كما يمنح صنّاعه فرصًا للظهور والتمويل والتداول الثقافى، وهناك رغبة واضحة فى الأعمال الصغيرة التى تعتمد على الأداء الفردى، خاصة بعد التحولات الاقتصادية والثقافية التى قلّصت الإنتاجات الضخمة، والمونودراما ليست بديلاً عن المسرح التقليدى، لكنها شكل يتمتع بمزايا إنتاجية وجمالية تجعل حضوره مرشحاً للاتساع، لا بوصفه فناً قليل الإنتاج، بل كفن قادر على الاستمرار فى ظروف قد تعجز عنها الأشكال المسرحية الأكبر.
لديك أعمال فى مسرح الطفل «مملكة الأشياء المنسية» والمسرح التوعوى «خضرة»، حدثنا عنهم، وما أهمية توجيه جزء من إبداعك لهذين النوعين من المسرح، المسرح التوعوى والتوجيه خاصة للطفل؟ 
أخصص جزءا من تجربتى للمسرح الموجَّه للطفل وللمسرح التوعوي؛لأنهما يمثلان فى نظرى جوهر وظيفة المسرح وعمقه الحقيقى. فى مملكة الأشياء المنسية قدّمتُ عالماً فانتازياً يُعيد للطفل وعيه بقيمة النظام والمسؤولية بعيدًا عن الوعظ، عبر رحلة يتعلم فيها أن البطولة تبدأ من ترتيب عالمه الصغير. أما فى خضرة فانطلقتُ إلى الضفة المقابلة، حيث يشتغل المسرح بوصفه ضميراً اجتماعياً يواجه مظاهر القهر والجهل والعنف الأسرى، ويفتح أسئلة ملحّة حول حقوق المرأة. الكتابة لهذين المسارين هى بالنسبة لى مشاركة فى تربية المستقبل من جهة، ومساءلة الحاضر من جهة أخرى، دون أن أفصل الفن عن رسالته أو رسالته عن فنيّته.
فى ظل هيمنة التكنولوجيا الحديثة كيف ترى مستقبل الكتابة المسرحية عامة فى عصر الذكاء الاصطناعي؟ وهل تتوقع أن تعتمد الكتابة نفسها على أدوات رقمية بعد ان صرح البعض بذلك؟
أظن أن مستقبل الكتابة المسرحية فى ظل الذكاء الاصطناعى لن يكون تهديدًا للمبدع بقدر ما سيكون محفّزًا لإعادة تعريف دوره؛ فالتكنولوجيا اليوم تُنتج نصوصاً بسرعة مذهلة، لكنها ما تزال عاجزة عن خلق الخبرة الإنسانية الحيّة، وعن التقاط تلك الشرارة الوجدانية التى تكسب التجربة الإبداعية صدقها، والتى لا تستطيعها الآلة؛ لأنها ببساطة تولد من الاحتكاك بالواقع، ومن لحظة خلق المحفز الوجداني للكتابة وهو ما يصنع الدراما الحقيقية. نعم، ستعتمد الكتابة بلا شك على أدوات رقمية وقد بدأت تعتمد بالفعل، ومن خلال متابعتى للدراسات النقدية على تلك الأعمال أستطيع أن أميز بين الأدب الورقى والرقمى والرقمى التفاعلي والتوليدى الآلى، وقد أتيحت لى الفرصة لقراءة بعض النماذج العربية والغربية وبعض الدراسات المتعلقة بها؛ وعليه أستطيع القول إنَّ هذه الأدوات ستظل مساعدة لا بديلة، ستساعد الكاتب فى جمع المعلومات، وفى تحليل البنى السردية، وفى توليد مقترحات أو مسودات أولية، لكنها لن تصنع وجهة نظر ولا حساسية جمالية، ولن تخلق شخصيات من لحم ودم قادرة على الوقوف أمام الجمهور؛ لأنه ببساطة المسرح فن يقوم على الحضور الحى والتفاعل، وسيظل يحتاج إلى كاتب يمتلك القدرة على قراءة البشر، لا قراءة البيانات فقط، والكاتب الذكى هو الذى سيحول التقنيات الرقمية إلى أدوات توسّع خياله، لا إلى عكّاز يستبدل به موهبته.
حدثنا عن آخر أعمالك عصابة وآخر نص مونودراما رهين كروسيه.
عصابة هو أحدث نصوصى المسرحية، وهى أول مرة أجنح إلى تصوير عالم قد يعتبر البعض الكتابة فيه مسرحياً أمراً جريئاً أكثر من اللازم، ربما للغته، ربما لمشاهده، لست أعلم لكنها بعض ردود الأفعال التى تلقيتها عنه، وفيه أقدّم حكاية اتهام بالقتل، تقود إلى سلسلة محاكمات قاسية تكشف تدريجياً أن الحقيقة ليست جريمة ارتُكِبَت، بل مجتمع كامل يتقاسم العنف. تدور القصة داخل فضاء واحد ينقسم ويتحول، منظومة كاملة تشمل الفتاة، الأم، الرضيعة، القاضى، الطبيب، رجل الدين، الاختصاصية الاجتماعية. لكن المفارقة أن كل هؤلاء يمثَّلون وجوهاً حقيقة ومقنّعة، بما يشير إلى أن الجناة الحقيقيين متعددوا الزوايا، تتقدّم القصة كرحلة سقوط تدريجى نحو الجحيم، وفى النهاية يُعاد إنتاج سرد يدين الضحية كى يُبرئ الجناة، بمعنى آخر العنف الذى يُعاد إنتاجه حتى يصبح الفاعل ضحيةً والضحية فاعلا. أما رهين كروسيه فهو نص مونودرامى، قصته تحكى عن الكاتب الفرنسي الأشهر فلوبير، الذي يقف أمام لوحته وتماثيله ورسائله القديمة، محاولا أن يعيد تركيب حياته التى انكسرت بين طفولة قاسية، وحبٍّ خائب، ومدينة لا ترحم، وينتقل النص بين اعترافاته، وهلوساته، ومحاكمته لذاته، وتمثيله لحيوات حوله، وقراءته لرسائلها، واستحضاره لحكاية إيما بوفارى ليكتشف أنهأيضًا كان رهين صورته ورهين اختيارات لم يستطع الدفاع عنها.
كونك تجمع بين كتابة الشعر والمسرح، كيف يؤثر كل جنس أدبى على الآخر فى عملية إبداعك؟ وهل تجد أن حس الشاعر يساعدك فى صياغة لغة المونودراما خاصة والمسرح عامة؟ 
الشعر والمسرح ليسا جنسين منفصلين بقدر ما هما منبعان مصبهما الكاتب ذاته، الشعر يمنحنى حساً لغوياً، وقدرة على تكثيف المعنى، وصنع الإيقاع الداخلى للجملة، بينما يمنحنى المسرح قدرة على تجسيد الفكرة وتوزيعها على الخشبة وعلى جسد الممثل وصوته وحركته، فعندما أكتب مونودراما على وجه الخصوص، أجد أن حسّ الشاعر يساعدنى فى صياغة لغةٍ قابلة للقول لا للقراءة فقط، لغة تمتلك حرارة اللحظة، وتحتمل التقلّب والانفعال، وتسمح للممثل أن يتحرك داخلها بحرية؛ فالجملة التى لا تمثَّل لا تُكتب، وفى المقابل، يفرض المسرح على الشعر انضباطاً لا يعرفه عادة؛ فهو يجبرنى على اختبار الجملة أمام الجمهور، وعلى أن تكون الصورة الشعرية جزءًا أصيلا فى القصيدة لا زينةً لغوية، ويخلق مشتركا بينى وبين المتلقى، ويربط بين الأنا الشاعرة والآخر؛ بل يتمادى تأثيره إلى ترك فجوات فى النص الشعرى يملأها المتلقى بقراءته الإنتاجية الخاصة كى لا يقتصر دوره على التلقى بل صنع القصيدة الخاصة به كوسيلة للتفاعل المباشر مع النص؛ لذلك يمكن القول إن كلا منهما يوازن الآخر وفى المساحة بينهما تكتمل كتابتى.
ما الفرق بين كتابة النص المسرحى العادى والنص المسرحى الشعرى، وتحدياته؟ وكيف توازن بين اللغة الشعرية والجماليات الدرامية عندما تجمع بين الشعر والمسرح؟
الفرق بين كتابة النص المسرحى والنص المسرحى الشعرى يكمن أساساً في طبيعة اللغة ووظيفتها. فى النص المسرحى العادى تكون اللغة أداة لبناء الحدث وتقدّم الشخصيات وتصنع التوتر أي لغة وظيفية تُقاس بقدرتها على خدمة الدراما، أما فى المسرح الشعرى، فاللغة نفسها تتحول إلى فاعل درامي؛ لأنها تحمل إيقاعاً داخلياً، وصوراً، وكثافة دلالية تجعل الكلمة جزءاً من الحدث لا مجرد وسيط له، والتحدّى هنا أن الشعر إذا زاد طغى على الفعل المسرحى، وإذا قلّ فقد المسرح خصوصيته؛ لذلك عليَّ دائماً وأنا أكتب المسرح الشعرى أن أضع فى ذهنى أنه مسرح أولا وليس قصائد متفرقة يجمعها خيط درامى واحد، لكن الصعوبة أن الشعر بطبيعته يميل إلى الوقوف والتأمل ولعل أشهر أبيات القصيدة العربية منذ عصرها الجاهلي كانت تدعو للوقوف على الأطلال وتأملها،كما يقول امرؤ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، بينما المسرح قائم على الحركة والصراع والدينامية؛ لذلك يصبح التحدّى الحقيقى هو كيف أكتب لغة شعرية تتحرك، لا لغة جميلة لكنها جامدة، وأن تكون الشعرية ممتدة من داخل الشخصية لا مفروضة عليها، وأن يكون الإيقاع نتاج توتر الشخصية نفسه، لا زخرفة خارجية، والتوازن بين الشعر والجماليات الدرامية قائم عندي على قاعدة واضحة: كل جملة يجب أن تؤدى وظيفة مزدوجة؛ أن تكون جميلة، وأن تدفع الحدث للأمام، فإن نجحت فى الجمع بين الأمرين احتفظت اللغة بجمالها دون أن تقتل الدراما، ولن أكذب فى أنه أحياناً تتقدّم الموسيقى الداخلية للجملة خطوة، وأحياناً يتقدّم الفعل، لكني أحاول جاهداً ألا أسمح لأى منهما أن يبتلع الآخر، فكل جملة فى النهاية لا بد أن تخضع لاختبار القابلية للقول؛ لأن المسرح في الأخير فن يُسمع ويُشاهد، لا فن يُقرأ فقط.
لديك العديد من الإصدارات الشعرية فى الشعر الفصيح والشعر العامي؛ ما الذى يحدد لغة القصيدة لديك؟ وهل تجد أن الشعر العامى يحظى بالاهتمام الكافى مقارنة بالفصيح؟
إلى جانب كتابتى للدواوين، لا يمكننى إغفال كتابتى لأغانى المسرحيات والشعر المسرحى والأغاني والموال بشكل عام، وهو أمر لا يدع فرصة لطغيان جانب على آخر، لكن اختيار لغة القصيدة ليس قرارى المسبقفى عملية الكتابة بقدر ما هو استجابة طبيعية لحالة الكتابة نفسها؛ فهناك نص يفرض الفصحى بإيقاعها وتصويرها وقدرتها على حمل الأفكار الكبرى، وهناك نص لا يُقال إلا بالعامية؛ لأنها الأقرب إلى نبض اللحظة وإلى الصوت الداخلى لحالة الكتابة، فالفصحى تمنحنى مساحة للتأمل والصياغة المحكمة، أما العامية فتعطينى حرارة التجربة وصداقتها المباشرة مع الناس، ورغم محاولاتى الحثيثة الابتعاد عن الكتابة بالعامية، إلا أننى لم أستطع. أما عن حضور الشعر العامى، فأرى أنه يملك جمهوراً واسعاً ومحباً، لكنّه لا يحظى دائماً بالاهتمام المؤسسى نفسه الذى يحظى به الشعر الفصيح؛ لذلك حرصتُ على دعم الاتجاهين معًا، وأطلقتُ جوائز ومبادرات تسمح للشعر الفصيح والعامى أن يقفا على الأرض نفسها، لأننى أؤمن أن الشعر الحقيقى لا يرتبط باللهجة بل بالصدق والجمال، ففى النهاية، اللغة أيًّا كانت ليست المعيار الأوحد للإبداع.
وصلت هذ العام لنهائيات جائزة كتارا لشاعر الرسول عن قصيدة مرائى الكشف فى الدوحة، فحدثنا عنها.
هى تجربة تمثل بالنسبة لى مرحلة مهمة فى مسيرتى الشعرية؛فالقصيدة نفسها رحلة وجدانية وفكرية، تحاول تمثيل جانب من مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى التاريخ والوجود الإنسانى، وتطرح صورة تجمع بين التأمل الروحى والتاريخى، مع الانشغال بالقيم الإنسانية والأخلاقية التى جسدها الرسول فى حياته، وأود أن أشير أيضاً إلى أهمية مثل هذه الجوائز الأدبية، فهى ليست مجرد تكريم للفرد، بل هى مساحة لتقدير الإبداع العربى المعاصر، وتحفيز الشعراء على الانخراط فى الحوار الثقافى والفكرى. ومن ناحية أخرى، أرى إمكانية إعادة تقديم هذا اللون على خشبة المسرح بشكل درامى، وقد سبق لى أن قدمت الليلة المحمدية على خشبة مسرح النيل، لما تمتلكه هذه التجارب من طاقات لخلق تجربة حسية وجمالية، والمسرح فى هذه الحالة يمكن أن يصبح وسيلة لتجسيد المعانى الكبرى التى تحملها القصيدة، وتجعل الجمهور يعيش النص بكل أبعاده الروحية والفكرية.
حدثنا أيضا عن جائزة عبدالستار سليم في فن الواو، وما هى الخصائص البنيوية واللغوية المميزة لفن الواو لمن لايعرفه؟ 
جائزة عبد الستار سليم لفن الواو هى فى جوهرها احتفاء بواحد من أهم الفنون الشفاهية فى صعيد مصر، ذلك الفن الذى ارتبط بالهوية الشعبية وبالقدرة الفائقة على التكثيف والمعالجة الحكيمة للحياة اليومية، وقد كانت هذه الجائزة بالنسبة لى محطة تقدير كبيرة؛ لأنها تربط المنجز الإبداعى بروح هذا الفن العريق الذى صاغ وجدان الناس عبر أجيال، ولم يقتصر تأثيره على بيئة نشأته بل امتد لبيئات حاضنة كبيرة، حتى صار مثلا، من منا لا يعرف “ولا بد عن يوم محتوم.. تترد فيه المظالم، أبيض على كل مظلوم.. واسود على كل ظالم”، وفنّ الواو هو نوع من الشعر الشفاهى القصير يقوم فيه المربع على بيتين فحسب؛ يُطلق الأول الدلالة ويمهد للمعنى، بينما يأتى الثانى بمثابة خلاصة حكيمة مكثّفة، ويتأسس هذا الفن على بنية إيقاعية دقيقة، إذ تتوافق قافية الشطر الأول مع الثالث، والثانى مع الرابع، فى جناسٍ صوتى أو اشتقاقى يشيِّد موسيقى داخلية محكمة، وتعتمد لغته على الاقتصاد الشديد والقدرة على توليد المعنى العميق بأقل عدد من الألفاظ، فمثلا حين أقول: “قالوا النِّسا تفتنِ الشيخ.. والخِير ما تِلقَى شَرِيفَة (شر.. فيه)/ مِشْ كُلّ مِنْ عَلَّمَكْ شِيخ.. ولا كلّ خَضرَةْ شريفة” نجد الجناس بين شيخ بمعنى المُسن، وشيخ بمعنى الإمام، وانقسام كلمة شريفه إلى شرّ فيه، وكلمة شريفة الحاضرة فى الوعى الجمعي العربى صفة لخضرة أم أبى زيد الهلالى، لنرى أن مربعًا صغيرًا يضم الجناس والوزن، والحكمة، والتناص مع الموروث الشعبى، واللعبة اللغوية الجميلة التى تستحضر ذهن المتلقى لفك شفرتها وجعله شريكًا فى إنتاج المعنى لهذا الفن العظيم.
تناولتَ فى دراساتك مواضيع نقدية متعمقة مثل الميتاشعرية والمسرح الشعرى وتحليل دواوين لشعراء مختلفين. إلى أى مدى ترى أن النقد الحالى يواكب حركة الإبداع فى مصر والوطن العرب؟ 
النقد حقيقة يمر الآن بمرحلة حساسة؛ صحيح أن هناك جهدًا نقدياً حقيقياً يقدمه عدد من الباحثين في الجامعات والمجلات المحكمة وغيرها، وهو جهد يحاول أن يواكب تحولات الإبداع عبر مقاربات حديثة،لكن فى المقابل، ما تزال الفجوة قائمة بين السرعة التى يتحرك بها الإبداع، خاصة مع موجة الأجيال الجديدة وتجاربهم  والجمالية المتنوعة، وبين بطء الحركة النقدية التى تحتاج بطبيعتها إلى التأمل والتأسيس النظرى، وأظن أن المشكلة ليست فى غياب النقاد، بل فى غياب المنصات الجادة التى تتيح للنقد أن يلعب دوره المعرفى والتأويلى بعمق، بعيداً عن الانطباعية وتكريس الأسماء. سأقول شيئاً الآن من باب المضحكات المبكيات، هناك بعض الأقسام تتبنى اتجاهاً لمناقشة المبدعين الموتى لتجنب الحرج مع الأحياء! نحن بحاجة إلى نقد يقترب من النصوص الجديدة دون أحكام مسبقة، ويستثمر أدوات التحليل الحديثة بوعى، ويعيد وصل النقد بحركة المجتمع والثقافة.
باعتبارك باحثا ومدققا لغويا، كيف يؤثر هذا الجانب النقدى والتدقيقى على عملية كتابة الشعر لديك؟ هل تشعر بقيود المدقق أثناء محاولة الانطلاق كشاعر؟ 
قد يبدو التدقيق والنقد فى ظاهرهما سلطة قيد على المبدع، لكننى أراهما أشبه بميزان داخلى يحفظ الكتابة من الترهل ويمنحها المناعة الضرورية لتكون قابلة للحياة، المبدع داخلى هو الذى يشعل الشرارة الأولى، يفتح الباب للعاطفة والصورة والرؤيا، بينما الناقد والمدقّق لا يدخلان إلا بعد أن تهدأ الكتابة، فيعملان على الصقل لا على الكبح؛ لأن لحظة الخلق لحظة حرية مطلقة بلا فرامل، بمعنى آخر أنا لا أسمح للمدقّق والناقد أن يزاحما المبدع، لكننى أسمح لهما بمرافقته بعد أن يفرغ من الغناء.
وهل ترى أن هناك تراجعا فى سلامة اللغة العربية لدى الأجيال الجديدة، وما هو الدور الذى يجب القيام به لسد هذه الفجوة؟ 
إن عملى فى تدقيق العروض المسرحية، كشف لى عن المسافة التى تتسع بين الأجيال الجديدة ولغتهم الأم؛ لذلك فى عملى مع الفرق، أقوم بتشكيل النص، وتسجيله صوتياً، وعقد بروفات ترابيزة للغة وحدها، نطقاً وتفسيرا للجملة بعد اتفاقى مع المخرج على المورال الذى يقصده، ومتابعتى لكل بروفة وصولاً لآخر ليلة عرض، والحمد لله فغالب الأعمال التى عملت فيها مدققاً على هذا النحو خرجت دون أخطاء تذكر، وهذا ما دعا مشروع ابدأ حلمك المسرحى إلى الاستعانة بي مدرباً لغويا لأول تجربة للمشروع على مستوى الجمهورية، ولا أخفى أن التدقيق اللغوى كان العامل الأول لدخولي عالم المسرح، بما أضفاه من ثقافة مسرحية فى وقت وجيز عبر الاطلاع على عدد كبير من النصوص من مدارس عربية وغربية مختلفة، والاحتكاك المباشر مع الخشبة ومفرداتها فى البروفات والعروض؛ لذلك أقول نعم، هناك تراجع واضح فى سلامة العربية، لكننى لا أراه تراجعا فى القدرة أو الذكاء، بل فى البيئة التى لم تتح للغة فرصتها الكاملة لتتجلى، وحين تتوفر هذه البيئة للممثل سيبدع.
ما هى أبرز الصعوبات التى تواجهك كباحث عند دراسة وتحليل الأعمال الأدبية المعاصرة؟ والتحديات التى يواجهها الواقع الأدبى فى مصر والوطن العربى؟ 
أول ما يواجه الباحث اليوم هو تلاشي الحدود النوعية؛ فالنص المعاصر أصبح كائنا هجينيّاً، يتجاور فيه الأجناس الأدبية المختلفة، واللغة المعيارية مع العامية والرقمية. هذا الثراء جميل، لكنه يفرض على الباحث أدوات قراءة مرنة وقادرة على تتبّع التحولات دون أن تفقد صرامتها العلمية، كما أن كثيراً من النصوص تُكثف البوح على حساب البنية، فتتحول بعض التجارب إلى حالات وجدانية لا تُقدّم مشروعاً جمالياً متماسكاً، مما يجعل عملية التحليل أقرب إلى تفكيك انفعال لا إلى دراسة عمل أدبى مكتمل الأدوات، كذلك ضعف الأرشفة النقدية، فالنصوص تتوالد بسرعة، لكن النقد المواكب لها لا يتطور بالإيقاع ذاته. أما على مستوى التحديات؛ فلدينا حالة من تشتت المنابر؛ فالمنصات الرقمية تتقدم، بينما المؤسسات الثقافية التقليدية ما زالت تبحث عن دور جديد، ثم تأتي مشكلة الذائقة المُعولمة التى تدفع كثيراً من الكتّاب الشباب إلى الكتابة  تحت ضغط السرعة والترند، فينشأ أدب يومى سريع الاستهلاك يطغى على الأعمال الجادّة، كذلك ضعف منظومة صناعة الكِتاب: النشر، التوزيع، الجوائز، سياسات الدعم الثقافي؛ فالكاتب فى العالم العربى يكتب فى فراغ مؤسسى، ويعتمد غالباً على جهده الفردى فى الوصول إلى القارئ، ومع ذلك لدى قناعة راسخة أن الحركة الأدبية رغم كل هذا تعيش مخاضًا لا انحداراً، وأن ما نراه اليوم من اضطراب هو وجه آخر لبحث الأجيال الجديدة عن صوت جديد، ومساحة جديدة، ورؤية تستحق أن نُصغى إليها بعين الباحث لا بعين الوصيّ.
من بين الجوائز التى حصلت عليها محليا ودوليا، أيها شكلت منعطفا حقيقيا فى مسيرتك الإبداعية؟ ولماذا؟
لا أنظر إلى الجوائز بوصفها درجات على سلّم تنافسى، بل كإشارات مضيئة تُرسّخ ما قبلها وتدفعنى إلى ما بعدها. كل جائزة كانت أشبه بختم جديد على صحة الطريق، شهادة تقول لي: إن ما أكتبه ليس مجرد أوراق، بل صوت يجد صداه لدى لجان تحكيم مختلفة، ورؤى نقدية متباينة، وبيئات ثقافية قد لا تتقاطع إلا فى التقدير للنص. بمعنى أدق الجائزة الأولى أعطتنى الثقة، والثانية عمّقتها، والثالثة فتحت لى أفقًا جديدًا فى التعامل مع مشروعي الإبداعى...، وهكذا ظلت كل جائزة تضع لبنة فى الوعى وتخلخل لبنة أخرى، لتنشأ الحركة الطبيعية للمسيرة.
صدر عنك كتاب تعريفى من أكاديمية الشعر العربى بالسعودية، وتم إدراجك فى موسوعة أطباء شعراء العراقية؛ كيف ترى أهمية هذا النوع من التوثيق والاحتفاء الأدبي؟ 
أرى أن هذا النوع من التوثيق الصادر عن مؤسسة مرموقة كأكاديمية الشعر العربى، أو عن الموسوعة ليس مجرد احتفاء، بل هو ممارسة ثقافية تؤسس للذاكرة وتمنح المنجز حقه فى البقاء. نحن فى العالم العربى كثيراً ما نعانى من انقطاع الذاكرة الأدبية. أصوات مهمة تظهر ثم تختفى دون أن يُلتقط أثرها؛ ولذلك تقع أهمية هذه الإصدارات في أنها تمنح النصّ قارئاً جديداً، وتضع المبدع داخل سياق أوسع من حدود بلده وتجربته الفردية، فالكتاب الذى صدر عنى فى السعودية قدّم صوتى فى فضاء عربى مختلف، والموسوعة العراقية وضعت تجربتى داخل إطار يجمع بين الطب والشعر، وأكثر ما يعنينى أن مثل هذا التوثيق لا يُجمّد التجربة، بل يفتح أسئلة جديدة حولها، فهو لا يقول هذا هو المبدع وقد اكتملت تجربته، بل يقول هذا هو المبدع فى هذه اللحظة من مسيرته فانتظروا ما بعدها.
لديك خبرة واسعة كعضو أو رئيس لجان تحكيم فى مؤسسات متعددة، وزارة التربية والتعليم، جامعة أسيوط، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كيف توازن بين دورك كعضو لجنة تحكيم ودورك كمبدع؟ وما هى المعايير الأساسية التى تعتمدها فى تقييم الأعمال؟
أنظر لموضوع التحكيم حقيقة على أنه بوّابة ثقافية مهمة؛ فكونك محكماً يمكِّنك من الاطلاع على عشرات الأعمال، ويبقيك محيطاً بالواقع الإبداعى وما وصلت إليه تجارب المبدعين الآخرين، وعليه، عندما أجلس على مقعد المحكّم، أخلع قدر الإمكان معطفى الشخصى، وأتعامل مع النصوص بوصفها كيانات مستقلة تستحق قراءة عادلة؛ وفى تلك اللحظة، لا أحاور الأعمال بمعايير تجربتى الخاصة، بل بمعايير الفن ذاته، وتختلف معايير كل فن عن نظيره، لكن هناك أمور عامة يمكن الاتفاق حولها، مثل امتلاك النص وعياً ببنيته وعناصره وأثره الجمالى، الأصالة والقدرة على الإضافة، الرؤية التي تتجاوز السائد، سلامة اللغة، احترام المتلقي فى حقه فى التمتع بعمل ناضج فنياً، وهكذا، وأصدقك القول، إن العمل فى لجان التحكيم علّمنى شيئًا مهمًا؛ أن أكون أكثر تواضعاً أمام النصوص، وأكثر حرصاً على تطوير أدواتى الإبداعية، فالتحكيم ليس تتويجًا للخبرة فحسب، بل اختبار يومى لنزاهة الناقد وجماليات المبدع فى آن واحد.
أشرفت على جوائز شعرية تحمل اسمك، فكيف ترى إطلاق جائزة شعرية خاصة بك، وتأثيرها عليك؟
أشكر فى هذا الإطار نادى القصة بأسيوط، والرعاة أصحاب الدور الأبرز فى إطلاق هذه الجوائز، وإطلاق مثل هذه الجائزة على مستوى الجمهورية كان فعلاً ايجابياً؛ لأنه يمثل مسؤولية ورغبة صادقة فى ردّ شيء من الجميل للمشهد الثقافى، أن يتحول اسم مبدع إلى منصة تمنح الآخرين الضوء هو انتقال من الفردى إلى الجمعى، وهذا يضعه فى مواجهة دائمة مع ذاته؛ إذ يصبح أكثر وعياً بما تمثّله تجربته للآخرين، وأكثر حرصاً على أن يكون اسمه بوابة لا حاجزاً، وهو الأمر الذى حاولته جاهداً من خلال كونى محاضراً بالمؤسسات الثقافية الحكومية ومؤسسات المجتمع المدنى منذ دراستى الجامعية، فانا أبحث دائماً عن إمكانية مشاركة ما لدي -على تواضعه- مع الآخرين، والحمد لله لقد شارك فى هذه الجوائز والمحاضرات عدد من الأسماء التي لها ثقلها فى المشهد الشعرى المصري والعربى.
ما أبرز التحولات التى لاحظتها فى المشهد المسرحى العربى أو المصرى من خلال متابعتك للحالة المسرحية، وخاصة من خلال عضويتك فى لجان تحكيم مهرجانات كبرى؟
المشهد المسرحى العربى والمصرى شهد تحولات مهمة، نتيجة للتجربة التاريخية والتحولات المعاصرة، وأول ما يلفت النظر تعدد الأشكال والتجارب المسرحية؛ المونودراما، والمسرح التجريبى، والمسرح التفاعلى، والفضاءات المغايرة، وحتى المسرح الرقمى، ما يجعل النص المسرحى أكثر دينامية، لكن يضع لجنة التحكيم أمام تحدٍ فى تقييمه على ضوء المعايير، أيضًا المخرجون والكتّاب اليوم يزاوجون بين الكلمة والسينوغرافيا والأداء بطريقة تكاد تجعل المشهد الواحد متعدد الأبعاد؛ وهذا يعكس وعيًا متزايدًا بأبعاد المسرح الفنى خارج حدود النص، وهناك صعود التجارب الفردية والمشاريع المستقلة خارج المؤسسات الرسمية، وهذا يخلق طاقة إبداعية كبيرة، لكنه يضاعف من صعوبة الانتشار والوصول إلى جمهور أوسع، وهناك حاجة ملحّة لإعادة التفكير فى آليات التقدير النقدى، وأرى أن هذه التحولات إيجابية للغاية؛ لأنها تؤكد أن المسرح حيّ ومتحرك، رغم التحديات الاقتصادية والإدارية، والأهم أن هذه التجارب الجديدة تُعيد المسرح إلى دوره الأساسي كمساحة للتجربة الإنسانية المتجددة.
ما مشاريعك المستقبلية التى تتطلع إليها، سواء على مستوى التأليف المسرحى، أو الشعر، أو الأبحاث النقدية؟
مشاريعى المستقبلية كل منها يغذى الآخر بطريقة تكاملية، فعلى مستوى الشعر، أتطلع إلى تعميق التجربة الشخصية فى ترسيخ مفهوم القصيدة العمودية الحديثة التى استفادت من المدونات النقدية بحقها بعد ظهور شعرى التفعيلة والنثر، لتجمع بين قوانينها الراسخة ورؤيتها الحداثية. أما في المسرح، أعمل على مشاريع تهتم بالمساحات التجريبية، الهدف منها أن يكون نصي المسرحي منصة للتجربة والابتكار، وأن تصل الأعمال إلى جمهور متنوع، سواء من خلال المهرجانات الرسمية أو الإنتاج المستقل. أما على مستوى الدراسات النقدية، فأركز على التحصيل العلمى المستمر، ودراسة التحولات المعاصرة فى الأدب العربى، كما أهدف إلى توثيق التجارب الجديدة فى الشعر والمسرح، وربطها بالسياق الثقافى والفكرى، بحيث تصبح الأبحاث أداة لفهم التطورات بدقة، وليست مجرد مراجعة أكاديمية.
ما النصيحة التى توجهها للشباب الراغبين فى دخول عالم الكتابة المسرحية؟
ألخصها فى حروف كلمة اطمئِن: اسع، طوّر موهبتك، احترم نجاحك.


روفيدة خليفة