مفارقات غريبة زادت من حماسى للكتابة عن مسرحية «رماد من زمن الفتونة»؛ تبدأ المفارقات مع مطالعتى خبر أن العرض تم اختياره للمشاركة فى مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، بما يعنى أن اللجنة التى اختارتها اللجنة العليا لترشيح عروض مصرية للمهرجان رأت أن هذا العرض يتفوق على كل العروض المصرية المتنافسة، وأنه بلغ من الجودة الفنية ووفق المعايير المحددة ما يجعله يستحق تمثيل مصر فى هذا المهرجان العالمى، وأن به من المقومات ما يمنحه القدرة على المنافسة الدولية للفرق المشاركة، وتأتى المفارقة بمطالعتى لخبر إلغاء الفرقة التى تقدم المسرحية «فرسان الشرق للتراث» ودمجها فى فرقة الرقص الحديث بدار الأوبرا المصرية، بناءً على قرار مجلس إدارة الدار، وهنا تبرز المفارقة التى تبدو (كأن القرار عقوبة على التميز!) وهو قرار خاطئ سنرد عليه بمقال مستقل نفند فيه كل الأسباب التى ادعتها دار الأوبرا لإلغاء الفرقة، وكذلك المفارقات الغريبة لهذا القرار الذى ندعو وزير الثقافة لمراجعتهم فيه.«رماد من زمن الفتونة» عرض درامى راقص لفرقة فرسان الشرق التابعة لدار الأوبرا المصرية، يشارك فى الدورة الحالية لمهرجان المسرح التجريبى، وكان العرض قد أفتتح عروضه على مسرح الجمهورية فى ديسمبر الماضى، تصميم رقصات وإخراج «كريمة بدير» التى تواصل من خلاله مشروعها الداعم للمرأة ومناصرة قضاياها، والذى يتسق فى ذات الوقت مع فلسفة الفرقة فى استلهام التراث المصرى لتقديمه فى عروض فنية درامية راقصة على المسرح. وخلال مسيرتها مع الفرقة قدمت “بدير” - وفق هذا النهج - ثمانية عروض، أولها “دعاء الكروان – 2010” للفرقة القومية للعروض التراثية، والسبعة الأخرى قدمتها مع فرقة فرسان الشرق للتراث والرقص الحديث وهى “بهية –2013”، “ناعسة –2013”، “ريا وسكينة -2019”، “إيزيس -2020”، “سيرة عنترة –2021”، “حتشبسوت –2022”، زنوبيا –2023”.“رماد من زمن الفتونة” هو العرض السابع لـ”كريمة بدير” مع الفرقة، وهو الثالث لها مع المبدع “محمد فؤاد” مؤلف النص، إذ سبق وأن أخرجت له مسرحيتى “بهية، رايا وسكينة 2019”، وهو فنان له رؤية، حيث إنه مخرج - فى الأساس - ومصمم استعراضات وديكور، ويستفيد من كل تلك الخبرات فى صياغة بعض نصوص مسرحية تهتم بالقضايا الإنسانية وصراعاتها “الداخلية” مع النفس من أجل تحقيق السعادة، أو “الخارجية” مع المجتمع من أجل تحقيق الذات، ومن ضمن اهتماماته قضايا المرأة فى مواجهة الضغوط الاجتماعية والثقافة الذكورية، مع اتسامه بالجرأة فى معالجاته، والتفكير خارج الصندوق، ما يتفق وطبيعة “كريمة بدير” وفلسفتها أو مشروعها الفنى، ما يبين التقارب الفكرى بينهما، وما يفسر تعاونهما فى أكثر من عرض.يلجأ المؤلف للتراث المصرى القريب - أوائل القرن العشرين يزيد أو يقل قليلًا - زمن الفتوات فى الحارة المصرية وسيطرتها على مصائر سكانها “رجال ونساء” وقتما كانت المرأة تحتمى بـ”ظل رجل”، ملتقطًا فكرة تغوص فى خصوصية المجتمع المصرى وقتها، حيث كان الفصل للعصا لا لميزان العدل، فى ظل شعار “البقاء للأقوى”، ومنها استلهم محمد فؤاد حكاية تبدو بسيطة - على العكس من باطنها - فى الصراع بين الرجل والمرأة، وكتبها فى لوحات متتالية، فنجده فى البداية يتوسل بثلاثة من الرواة “بأقنعة بيضاء” كل منهم ينحاز لرمز من الرموز “القوة، الجمال، العفل”، ولنتابع معهم حكاية فتاة غجرية ترفض الاستسلام للكينونة التى تفرضها عليها طبيعتها وفق واقع لا يعترف سوى بالقوة، وترفض الامتثال لنصح أمها بالرضوخ لضل رجل، ونجدها تفكر وهى ممسكة بتفاحة حمراء، بما يحيلنا لذاكرة التراث الإنسانى القديم لنستدعى حكاية الشجرة المحرمة والتفاحة، وغواية حواء لآدم ليأكل منها، فكانت سببًا لخروجه من الجنة، وليبدو لنا من المشهد وكأن الفتاة تنبهت لمكمن قوتها، “التفاحة/ الغواية”، “التفكير/ العقل”، لتقرر التحدى، والسعى - لا للقوة - وإنما للسيطرة على من يملك القوة، ومن ثم السيطرة عليه وعلى الحارة.. ولتتوالى الأحداث بصياغة فنية راقية عبر تابلوهات حركية راقصة؛ (“التكوين”، صراع الأقنعة “المال/ الجنس/ القوة العضلية”، الملابطة “صراع الفتونة”، “الحمام الشعبى وعرض قضايا نسوية/ “توجيه الفتاة الغجرية من الأقنعة للفتونة”، “حلم الغجرية بالفتونة”، البوظة “شعورًا بالقهر والهرب”، الكودية الأم والبنت الغجرية لعرض مشكلة البنت”، “تكية الدراويش والحيلة”، “التحايل على الأعيان ورأس المال”، “ثورة العامة لخداعهم من الغجرية والسيطرة عليهم”، “السحر والشعوذة للسيطرة على الفتوة”، “صراع الغجرية مع الشرابة وأنقلابها على نوعها”، “معاناة الجميع وبلوغ الغاية بالسيطرة فى النهاية”)، مع التركيز الدائم على المقابلة الثنائية “الأنوثة فى مواجهة الذكورة”، أو “سلاح جمال المرأة فى مواجهة سلاح عضلات الرجل” بما يبرز مفردات مثلث المعادلة (الجمال/ القوة/ التفكير) أو (الأنوثة/ العضلات/ العقل)، هذا، وقد استفاد “فؤاد” من خبراته كمخرج فى كتابة سيناريو العرض، وأظهر براعته فى صياغة حوار بليغ مكثف يشع بالدلالات.وبتأمل عنوان العرض، نجد أن كلمة “رماد” تشير لأكثر من دلالة، فالرماد هو ما يخلف النار، وهو ما يعنى أنه كان هناك نار متأججة، وقد تعنى أن الرماد ما زال يقبض بداخلة على نار تعود لتشتعل من جديد، ما قد يفسر عما يجوب بمضمون العرض مما يجوب بداخل الغجرية بطلة العرض، كما أن الرماد كلون قد يخيلنا للزمن الماضى باعتباره زمن الأبيض والأسود، وهو ما يتوافق مع باقى الجملة “من زمن فات” وما قد يحيلنا فى ذات الوقت إلى انشغال المرأة بقضية إثبات الوجود وتحقيق الذات منذ القدم وحتى الآن.وعن “كريمة بدير” المخرجة والمصممة للرقصات، فهى تتسم بشخصية تميزها بين مصممى الرقص الحديث، فهى تمتلك وعيًا بذاتها وبإمكانياتها وقدراتها، كذلك إخلاصها لمشروعها المنتمى لكيانها كأنثى، والذى تتخذ فيه من المرأة محورًا لها تؤكد من خلاله أنها لا تقل قوة عن الرجل، وأرى أن هذا العرض يعد العرض من أفضل عروضها، لتميزه بوضوح الرؤية، وبتكويناته البصرية، وكذلك تفوق فريق العرض على خشبة المسرح فى الأداء على المستويين “التمثيل، والأداء الراقص”، كذلك الإيقاع.وفى “رماد” تواصل “بدير” نهجها، فقدمت عرضًا يكشف عن الوعى الكامل للفكرة، حيث ركزت فى العرض على الصراع الداخلى للمرأة ووضعها وامكانياتها من أجل أن تشعر بكينونتها، ومنه إلى الصراع الخارجى مع ضغوط المجتمع والفكر الذكورى، حيث جعلت البطلة تبحث لنفسها عن كيفية تحقيق ما يمنحها القوة التى تعزز تواجدها فى الحياة، عبر مواجهات - تشع بالدلالات - فردية “الذات”، وثنائية “مع الأم أو بعض ممن يمتلكون القوة”، وجماعية، هذا؛ وقد بدى من العرض قيام المخرجة بدراسة واعية لأعماق الشخصيات وخصوصية كل منها، وترجمة ذلك عبر جمل حركية وتشكيلات جماعية “متحركة أو ثابتة”، وقد وظفت كافة عناصر العرض البصرية والسمعية لخدمة الرؤية الإخراجية التى سعت من خلالها لتوالد الدلالات والتى يتزايد معها توالد الأسئلة الوجودية للمرأة، بما يساعد على زيادة أبعاد الصراع.يبدأ العرض بمشهد استهلالى ثابت، بدءً من لحظة دخول المتفرج صالة الجمهور، حيث يجد خشبة المسرح قد أزيحت عنها الستار، ليدخل فى حالة العرض مباشرة، وبمجرد أن يستقر على مقعده يبدأ فى تأمل المنظر على خشبة المسرح بما يثير نشاطه الذهنى، ينتج عنه الكثير من الأسئلة، حوار الكتلة فى الفراغ بين مجموعة من الرموز التى تطالعنا على خشبة المسرح (مجسمات لمكعب ولكرة ولمخروط، بعض من البشر يبدون كجثث منثورة بشكل عشوائى على المجسمات) مع موسيقى تبعث على الترقب وتتماس فى ذات الوقت مع أجواء الصوفية، بما يشى للمتلقى - كل وفق ثقافته - بالكثير من الدلالات، ويتبع ذلك مشهد افتتاحى برقصة فردية لبطلة العرض، وهى تقبض بيدها على تفاحة، وفى الخلفية مجموعة من الراقصين فى وضعية السكون، يبدؤون الحركة تباعًا وكأنما يبعثون لمشاركتها الحياة، وتتوالى اللوحات، لنصل لنهاية العرض، حيث لوحة الختام، لنجد الفتاة الغجرية وهى تقبض فى ثقة على التفاحة ومن حولها يلتف الراقصين من الرجال فى تشكيل هرمى تتقدمه هى وكأنها حققت مبتغاها بفرض تأثيرها وسيطرتها على من يملك القوة.لم تعتمد المخرجة على الجمل الحوارية المحدودة فى توصيل رؤيتها، وإنما اتجهت للحارة الشعبية وقوانينها التى تحكم مجتمعها الملىء بالصراعات بين شرائح أهلها المختلفة وقت زمن الفتونة، وفتشت بين الظواهر الشعبية التى يمارسونها، بما تحمله من دلالات، بحثت عن المفردات التى يمكنها استلهامها لتوظفها فى تصميم رقصاتها، فتجدها استعانت منها بكل من “التحطيب، الأراجوز، الموالد، التنورة، الابتهالات، الدراويش” مع الوعى بالتوظيف لها وفق دلالة كل منها، مع الحرص - فى ذات الوقت - على الجماليات البصرية للوحات الفنية، بما يكشف عن كفاءة وقدرة المصممة على خلق الجمل الحركية والتشكيلات الجماعية المناسبة، وانتقاء الشكل المناسب الذى يعطى الدلالة التى تخدم رؤيتها، فحيث عبرت بتصميماتها المتميزة عن الدلالات الثلاثة فالرجل فى بداية العرض يدفع الكرة الجامدة بقوة من الداخل الى مقدمة دلالة على القوة، كذلك حركات راقصة للبطلة دلالة على الجمال، وأيضًا استغلال البطلة للتفاحة دلالة على التفكير أو المعرفة، حيث أن الجمال وحده لا يحقق سيطرتها، فامرأة الحانة لم يمكنها جمالها هدفها.ونجدها فى لوحة الدراويش تبرز سلطة الدين كنوع من الصراعات الموجودة أو إحدى أطراف القوة داخل المجتمع حيث يتم استغلاله من خلال رجال الدين من أجل الاستفادة منه كسلطة، وكذلك وظيف التنورة والصوفية والمناجاة التى يتم استغلال كل منها، حيث لا يمكن تجاهل تأثير هذا الاستغلال فى السيطرة على المجتمع، وفى لوحة الفتوات وللتدليل على القوة تم توظيف التحطيب بما له من دلالة صريحة بالذاكرة الشعبية تؤكد أن البقاء للأقوى، ومن ثم تكون له الكلمة وامتلاك حق الحكم.وقد نجت المخرجة فى توظيف الديكور، والاستغلال الجيد للكتل الثابتة والاستفادة منها فى تصميم رقصاتها بتكوين تشكيلات من كتل الراقصين المتحركة فى فراغ المسرح، بما يحدث حوارًا بين الثابت والمتحرك، وقد بلغ الأداء الحركى والتمثيلى لفريق العرض قمته، على الرغم من صعوبة الجمع بينهما، حيث وضح اهتمام “المخرجة/المدربة” بالتدريب على المستويين، ومن الإنصاف الإشارة إلى أن جميع من ظهروا على المسرح نجح فى ذلك، حتى الصامتون منهم كانوا يؤدون الحركات الراقصة بمعايشة كاملة للحالة وبملامح بادية على الوجه تبرز معايشتهم التامة، بما وجب تقديم التحية لكل أعضاء الفريق.أجادت “بدير” إعداد موسيقى العرض، حيث كانت حاضرة بقوة بما يتفق والحالات المختلفة، فجاءت ملائمة لمشاهد صراعات القوة بما صحبها من صخب وقوة وتواتر يزيد من الصراع، كذلك تباينت بين الحزن والصوفية والانكسار موائمة لبعض الحالات بمشاهد العرض، مع الإشارة إلى أن الموسيقى لعبت دورًا هامًا فى الحفاظ على إيقاع العرض. أيضًا أجادت فى توظيف الإضاءة، بتفاعلها مع المنظر العام بما يحقق المتعة الجمالية البصرية، وكذلك توظيفها المؤثر فى لوحات الصراع بما يتفق مع الحالة ويساعد المتلقى تعايش الحالة.الديكور والملابس للفنان أنيس إسماعيل الذى صاغ المنظر المسرحى بوعى شديد، حيث إنه لم يحاول محاكاة الحارة المصرية فى زمنها، لكنه ذهب لتنفيذ رؤية تشكيلية تجريبية تتسع معها الدلالات، وتطلق خيال المتفرج وتستفزه للتفاعل معها، كذلك تتيح للمخرجة التعامل مع قطع الديكور بشكل غير تقليدى، ومراعاة تعدد توظيفها وقابليتها للاستخدام المتعدد، مع ملاحظة عدم التأثير على مساحة الحركة للفريق بعدده الكبير، وأما الملابس، فقد تباينت بين اللونين “الأسود والأبيض” بما عكس اللون الرمادى الذى لا تتضح الرؤية معه، ويتفاعل مع المنظر العام بما يتفق والرؤية التشكيلية الكلية، وجاء تصميمها أقرب لها قى زمنها ولبيئة العرض “الحارة”، ومناسبًا للشخصيات وفق بناءها النفسى ووظيفتها، بما يساعد الممثل على التعايش، والمتفرج على مصداقية التلقى. وأجد أن ديكور وملابس “أنيس إسماعيل” من أحد أهم العوامل التى ساعدت على نجاح العرض وأتاح للمخرجة خلق تشكيل سينوغرافيا مدهشة تميز العرض.“رماد من زمن الفتونة” عرض درامى راقص، تميزت كل عناصره، وأعتقد أنه سيتنافس بقوة على جوائز “العرض الأول، السينوغرافيا، التصميم الحركى، الإخراج، بما من شأنه إنصاف فرقة فرسان الشرق للرقص الحديث، وما يستوجب التحية والتقدير لجميع العناصر المشاركة فى صناعة العرض، وفريق الدراما الحركية والتمثيل.