افتتح مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى دورته الثانية والثلاثين بعرض “انتصار حورس” – دراماتورج د. محمد سمير الخطيب وإخراج وليد عونى – العرض الذى يتناول أسطورة إيزيس وأوزوريس التى بدأت بمقتل أوزوريس على يد أخيه سيت ثم مرَّت بقيام إيزيس بإعادة إحياء أوزوريس لتنتهى بانتصار حورس على عمه سيت. غير أن العرض لا يتناول الأسطورة من حيث هى حكاية تنطوى على تصعيد درامى يمكن تفكيكه إلى دراما تقليدية تنعكس فى حوار وأداء وحركة.. إلخ؛ إنما يمنح الحكاية الأسطورية – إضافة إلى تدريمها “جعلها درامية” – أبعادًا متنوعة ويفتح لها آفاقًا تجعلها تعبر الزمن وتتجاوز الدلالات الراسخة فيها إلى دلالات أرحب.يتداخل فى العرض عدد من الأزمان، وقد حدث ذلك على مستويين عامين – أفقى ورأسى – وعدة مستويات خاصة. ينشطر الزمن فى المستوى العام الأفقى إلى أربعة أزمان. الأول: زمن الأسطورة الأصلية والذى استعان فيه العرض بالبروجيكتور ليستعرض لوحات المروية الأسطورية ذاتها، بيد أن هذا الزمن الأسطورى ذاته يتأرجح بين مستويين، واحد توثيقى ثابت “صور” يتمثل فى لوحات المعابد (التى لا تثبت دائمًا بل تتحرك أحيانًا بالشكلين العرضى والرأسى لتراوغ عين المتفرج) ومستوى آخر متحرك “فيديو” يمزج التاريخى بالمتخيل خالقًا تكوينات بصرية موحية تحيل الصورة المعبدية إلى كل متكامل ينطوى على جمالية بصرية خاصة تتعلق بالحدث المراد عرضه وتحيل التشكيلى إلى درامى فى ذاته.الزمن الثانى أفقيًا هو بؤرة العرض ومركزه والذى يتمثل فى مساحة اللعب “التمثيل” التى تفتت الأسطورة إلى عدد من الوحدات الدرامية التى تمزج التمثيلى الصامت، بالأدائى والحركى والتعبيرى والاستعراضى، مانحة الجسد أقصى حرية للتعبير والتمثيل رغم المساحة المحددة التى انحصرت فيها الأجساد وفقا للشكل الذى أراده العرض لفضاء الخشبه. الوحدات الدرامية مصحوبة فى كثير من الأحيان بالموسيقى التى تخلق للوحدة الواحدة إيقاعها الخاص المناسب للحالتين النفسية والشعورية السائدتين فى الموقف الدرامى، ومرفقًا فى بعض الأحيان بأغانٍ تحتفظ بلغتها المصرية القديمة وتمزج فى ألحانها بين القديم والمعاصر، متخذة من المعاصر ما يلائم الجو الأسطورى. تختلف الألحان وفق ما تقتضيه الحالة فهى مضطربة فى حالة الصراعات والاحتراب وصاخبة احتفالية فى حالة الانتصار وجنائزية فى حالة الحزن والندم. هذه المسرحية البؤرة: البنت البكر للمسرحية العامة الأم، هى كل العرض وجزء منه فى آن، كما أنها تكتسى بالعناصر التاريخية المعبرة عن الزمن القديم “رموز وأقنعة ورماح وحراب وأقواس وأسهم وسنابل ومراكب وأجنحة من ريش.. إلخ”.وأما الزمن الأفقى الثالث: فهو زمن السارد “حورس المعاصر” الذى يمهد للوحدة الدرامية مستعيرًا صوت حورس ليسرد لنا الحادثة وخواطر حورس حولها، فيقول بتصميم وحسم: “سينتصر حورس على أعدائه”، ليبدو الهدف ليس الدراما الأسطورية نفسها بقدر ما هو منح هذه الدراما أبعادًا مختلفة، فالسارد يقدم لنا نهاية الدراما، يحرق أحداثه بنفسه، لأنه يهتم بما هو فوق القصة وما هو أبعد من دلالاتها المباشرة. غير أن هذا السارد ذا الحضور الصوتى المتميز وذا السيطرة المؤقتة على الخشبة بين وحدة درامية وأخرى، كان حضوره الصوتى أعلى من حضوره الجسدى فى لحظات، لا سيما أن لون ملابسه – تحت الإضاءة التى على جودتها وتنوع حضورها لم تجارى الحضور الصوتى “الموسيقى والغنائى والسردى” فى القوة – جاء هذا اللون فى درجة محايدة لم تمنحه ذلك الحضور المادى المأمول، فلو أنه ارتدى لونا أبيض زاهيا أو أى لون مميز آخر لكان حضوره أعلى. مع ذلك لا يعدم السارد حضوره الجسدى فهو يتحرك مستجيبًا لمساحتى التمثيل والخلفية أو ممهدًا لهما، كما أنه ينفعل مع الأحداث “يحمل حربة حين يرفع حورس حربته” ويشارك حورس الأسطورى حركاته وأفعاله البدنية أحيانًا، أى أنه يتماهى معه أدائيًا ليؤكد حقيقة تماهى المعاصرة مع التراث حتى وإن رغبت الأولى فى تجاوز الثانى، كما أنه يجرى حائرًا وتائهًا حين ينتقل حورس إلى الزمن المعاصر، وذلك بعدما يسهم بنفسه فى نقل حورس من الذهن “المتحف” إلى الزمن الحالى حين يلبسه بنفسه زيًا عسكريًا معاصرًا، لينتهى العرض بهما يشتركان فى أداء واحد.يأتى الزمن الأفقى الرابع متعينا فى زمن المشاهدة الذى يخضع بالضرورة للاستعارة الدالة التى رسمها العرض للفضاء، فقد انسدل ستار شفاف خلف السارد “يفصله عن الجمهور” جعل العرض يبدو فى عين المشاهد كمتحف يشاهَد فيه العرض عبر واجهة زجاجية، هذا المتحف فى تأويلات أخرى قد يمثل ذاكرة حورس المعاصر حول أجداده والتى ستصبح بالتبعية ذاكرة المتفرج حول أبطال الماضى، بهذا يندمج المُشاهد فى العرض عبر مستويين: مستوى مُشاهد العرض ومستوى زائر المتحف أو مراقب ذاكرة حورس السارد “العصرى”.وفق هذه المستويات الأفقية الأربع، تشتعل مساحة اللعب وتنشغل على طول العرض بالدراما الحركية والأداء التعبيرى الراقص. فهذه المساحة من جهة تمزج شخوص المروية برموزها وأدواتها وحيواناتها والتى يتداخل فيها زمنين يتضحان فى الملابس المصرية القديمة “الفرعونية” وملابس عصر الرومان. كما أنها من جهة أخرى تعد ترجمة أدائية معبرة عن الموقف السردى أو التكوين البصرى القديم على الشاشة الخلفية “اللوحات الأصلية أو المقاطع المبتكرة”، فتتنازعها بذلك قوتان: قوة التشكيلى وقوة السردى، وتبدو معلقة فى فراغ درامى يموج بالحركة والانفعال الدائمين والاندفاع المحسوب، كأن المسرحية البؤرة “التعبير الدرامى عن الأسطورة” لحن مشدود بين وترين لا يمل أحدهما من محاولات جذبها إليه: الوتر البصرى المشدود إلى حائط الخلفية والوتر الصوتى “السردي” الذى يمثل حلقة الوصل بين العرض “المتحف” والمشاهد. وما يعزز فكرة استعارة المتحف أن فضاء لوحة الخلفية يعلو عن فضاء اللعب وفضاء السارد، يتجاوزهما، فتصعد الصور عبره وتهبط فى حرية كأنها هابطة من سماء التاريخ أو عائدة إليها.على أن الزمن لا يتحرك رأسيًا وفق الخطية المعهودة، فهو أولًا يتناول الأسطورة تناولًا مغايرًا فيحرمها الحوار الدرامى ليمنحها طاقات تعبيرية واستعراضية هائلة، وهو ثانيًا يقوم باستعادة للأسطورة فى زمنين غير زمانها الأول، زمننا الحالى وزمن الرومان أيضًا، فيصنع فى هذا المستوى الخاص نوعًا من الهدم المتبوع بالبناء، نوعًا من المحو المصحوب بالتشييد والتكرار بغرض التثبيت. كما أن هذا الزمن الرأسى يترك الكتاب – التمثيل الحرفى للأسطورة – ليضفى على الحدث مهابة مسرحية خاصة تتجلى فى الأغانى والألحان والأهم أنها تتجلى فى تشكيلات حركية تمثل وحدها مسرحيات صغرى داخل مسرحيتها الأم “مسرحية البؤرة” التى هى بدورها جزء من مسرحية أكبر هى العرض الذى هو بدوره جزء من مسرحية كبرى تقوم على استعارة المتحف كما أشرنا من قبل.لا تتجلى تلك التشكيلات الحركية ولا ترتقى جماليًا دون تكوينات بصرية مدروسة، يمكن عبر التقاط الصور الثابتة للعرض أن نتلمس فيها جودة التشكيل، فمثلًا حين يعتلى حورس فرس النهر “المعادل الرمزى لسيت” ليهزمه، يكون سيت واقفًا فى الأسفل يتلقى الضربات المتخيلة من حورس، ثم حين يفتح حورس ذراعيه منتصرًا يقوم سيت بفتح ذراعيه منهزمًا يحتضر، فيحدث هذا النوع من التحقق الجمالى الخاص جدًا على مستوى الموقف الدرامى داخل الوحدة الواحدة. ولا يكف هذا الفضاء المركزى “فضاء اللعب” عن تغيير الوضعيات والحركات والاستعراضات مستجيبًا لنداءات الموقف المسرود أو اللوحة فى الخلفية، فتتوالى المشهديات الموحية، والتى يمكن أن نرصد منها تمثيل القتل واستعادة الروح والحمل والولادة، وأيضًا مقتل سيت فوق رمزه “فرس النهر” بينما حراب عديدة تخترق جسده، وأيضًا حين يحاط حورس بجيشه، وحين يتحرك مركبه فى النيل، وحين تنعى إيزيس زوجها فى طقس جنائزى، وحين ينتصر سيت فينفرد بالمسرح وحده بينما يتابعه السارد المعاصر فى فخر، وحين تتناغم السنابل فوق رؤوس الممثلات مع السنابل المتحركة الحية فى الخلفية عاكسة الخير الذى يتبع الانتصار الحورسى قديمًا وفى الدراما وفى الواقع.ثم ينتقل هذا الزمن الرأسى بالأسطورة نحو الزمن المعاصر نقلة مقننة دراميًا، إذ يمهد لها حين ينبعث حورس عبر الرياح الأربعة التى تمثلها أربع نسوة يحملن أشرعة، وتقوم إيزيس بتوديع حورس كأنها تتركه لشعبه “للمستقبل” وتعود لكتاب التاريخ، ويمنح العرض هذه النقلة عصريتها عبر البروجيكتور الذى يمحو الجو الأسطورى لحساب أجواء تكنولوجية آنية تظهر فيها المعادلات والرقميات والعلامات التقنية بعد الحداثية، وحينها تستجيب الخشبة استجابة تتلائم مع هذا العصر المتسارع فتتسارع حركة الممثلين “حتى إنها لتكاد تبدو مضطربة عن قصد” وتتداخل الأدوار وتتشظى البنى الزمانية وتتفاعل مع بعضها فى زمن واحد معاصر يستلزم بدوره أن يتخلى الممثلون عن ملابسهم وأدواتهم الأسطورية فيرتدون ملابس عصرية ويقدمون مسرحية ملخصة للأسطورة “للعرض كله” يستعيدون فيها ما حدث فى صيغة عصرية تمثل “ميتادراما” غير منفصلة عن موضوعها الأم وغير نافية للعود الأبدى “تكرار حضور سيت – الشر، وتكرار انتصار حورس – الخير” وغير خاضعة أيضا للدراما التقليدية إذ يصبح حورس حينها ثلاث بعدما يدخل حورس معاصر آخر لينضم للحورسيْن: “الأسطورى” و”السارد العصرى” فتكتمل ملامح التشظى ويقدم العرض علامة مهمة فى وحدته الدرامية الأخيرة هذه، علامة تفتح المجال لعدد من التأويلات، فانتصار حورس بينما العلامات التقنية تتقاطر فى الخلفية، قد يعد دلالة على ثبات الإنسان فى هذا التيه المعاصر وقد يعد دلالة على انتصار كل حورس “مصرى” معاصر على جميع التحديات الآنية والمستقبلية مستندًا على جدار العزيمة التاريخى “ميراث الجدود”، وقد يصب نهر التأويلات فى مصاب أخرى متعددة.وفق هذه البنية، يمثل الزمنان الأفقى والرأسى مسرحيات داخل مسرحيات داخل مسرحية عامة ينحنى عليها زمن المُشاهد وكأنه زمن أينشتاين، زمن يعاين كل هذه العوالم المتداخلة فى آن واحد. كما ينكسر خلالها الإيهام على أكثر من مستوى، فبعدما يستحيل العرض متحفًا وذاكرة يتابع المشاهد عبره/عبرها تاريخًا، يتقدم السارد نحو حورس الأسطورى فيجذبه إلى الزمن الحاضر مع ارتفاع الستار الشفاف وانغلاق المتحف، فيتصافحا ثم تهبط الكرة البرتقالية التى كانت قد هبطت فى بداية العرض فيتقاذفها الاثنان لتنفتح دلالة المشهد الأخير على تأويلات مختلفة، منها أن تمثل الكرة تلك الصخرة التى يدفعها الإنسان “السيزيفي” ولا تتوانى عن العودة لتواجهه من جديد، ومنها أيضًا مركب الشمس التى يحركها المصرى القديم بالتعاون مع المصرى المعاصر فى زمن السيولة والتعقيد الحالى.يتضح هنا كيف قام العرض – فى نزعته التجريبية – بكسر النسق/الشكل فى أكثر من مستوى، ليتجلى سؤال كسر السياق والذى يكون جوابه أن العرض لم يتناول الأسطورة على طبعها الحكائى التقليدى بل زرعها فى أكثر من بعد، ويكتمل الجواب بفكرة أن العرض وهو يحافظ على التمثيل المعرفى المستقر فى الوجدان الجمعى “الوجدان الذى يرغب ويحلم بانتصار دائم وأبدى للخير ممثلًا فى حورس على الشر ممثلًا فى سيت”، وهو يحافظ على هذا يتجاوزه بفكرة استعادة الأسطورى استعادة تجعل الماضى يموج فى الحاضر ويمضيان سوية نحو مستقبل غائم لكنهما متسلحين بأسطورة عظيمة لها درسها وعظتها ودلالاتها المرنة. ويغدو اتساق الشكل مع المضمون “النسق مع السياق” – والذى قد يتمثل فى انتصار تعبيرى تتحرر فيه الأجساد من كل القيود تاريخية كانت أو معاصرة أو مجهولة مستقبلية تتربص بهذا الجسد – يغدو هذا الاتساق المغلف بالدراما الحركية والغنائية والتعبيرية والراقصة، هو الجمالية الكلية والغاية التجريبية الأهم التى سعى إليها العرض.