العدد 941 صدر بتاريخ 8سبتمبر2025
لجواد الأسدى معزّة خاصة فى قلوبنا نحن المسرحيين المصريين. لذا، حين يُعلن عرض بتوقيعه، نتزاحم لرؤيته. فخبرتنا مع عروضه — منذ خيوط من فضة ورقصة العلم وتقاسيم على العنبر وحمّام بغدادى وشباك أوفيليا وحتى الخادمتان — منحتنا يقينًا بأن أى جديد يحمل توقيعه ستكون بلا شك بوابة لمتعة بصرية وفكرية.
أجمل ما فى عروض جواد، سواء كانت عن نصوص معروفة أو إعدادًا لمجموعة نصوص، أو نصوص كتبها بنفسه، هو النهج الخاص الذى يميّزه: الاعتماد على الممثل.
جواد لا تغريه الكتل الديكورية الضخمة، ولا ألوان الإضاءة المبهرة. فهو من كبار المؤمنين بأن المسرح ممثل أولًا، وأن الزخارف تأتى بعده، وقد لا تأتى.
منذ العرض الأول الذى شاهدته له، خيوط من فضة، وصفته بـ»النحات». نعم، فالممثل مع جواد الأسدى مشروع نحتى، يظل يدق عليه بإزميله فى بروفات تمتد لشهور، حتى يطمئن هو ومساعدوه إلى أن الجدارية المنحوتة فى ذهنه قد اكتملت، ثم يتركها للجمهور ليكملها بما يرى، كل حسب خبرته وانحيازه الإنسانى.
خشبة مفتوحة.. على الخراب والوحشة
وجاء»سيرك»، عرضه المشارك فى فعاليات مهرجان القاهرة ممثّلًا دولة العراق، يسير على الدرب نفسه:
الخشبة مساحة فارغة، تغرق فى سواد يضاعف كآبة ووحشة الجدران الكاحلة المائلة، وكأنها تكتم على روح المشاهد. وفى العمق، يغيم جدار أحمر، ملطخ ببياض ذهب ألقه.
وسط هذا الفراغ المقبوح، تدخل شخوص كثيرة، كل منها يحمل هاتفه الوهمى، يتحدث فيه بهلع إلى الآخر، إمّا ليطمئن عليه أو ليطمئنه على نفسه.
البداية تقول بوضوح إن حدثًا جللًا وقع قبل قليل، حدثًا مريعًا قد يكون حريقًا أو هدمًا متعمدًا، فُقدت فيه شخصيات وفرت أخرى. وسرعان ما ندرك أن المكان كان سيركًا، لم يبق منه سوى هذا القبو المطل على حديقة كانت يومًا متنفسًا للباحثين عن الراحة.
يصوغ جواد الأسدى حدوتته بأربعة شخوص وكلب، لكنها الحدوتة التى ستأتى متشظية، تنهج نهج خطوة للأمام خطوتان للخلف دون تراتبية أو حبكة. هى أقرب إلى لعبة بازل سيجبرنا هو — بتقسيماته ونحته الخاص لشخوصها وتداخل حكاياتهم — على لملمة قطعها.
ممثلة وصاحب سيرك وروائى هم كل الحضور، بينما الغائبان (كلب مقتول وضابط) غيابهما حضور، إذ يحرك كل منهما الأحداث من خلف الجدار.
الظهور الأول للممثلة، بردائها الفضفاض (أسود مطعّم بأحمر قانٍ) ووجه مصبوغ ببياض فاقع، وشعر معقوف بأخشاب، يحيلنا فورًا إلى ممثلات الكابوكى، وكأن جواد يهدينا أولى بوابات الدخول إلى عالمه الخاص: الكون سيرك، والدلالات مشفّرة، والممثلة راوية، والقصيد المختار (لماذا تركت الحصان وحيدًا) نافذة على معانٍ أرحب.
فى المقابل، جاء صاحب السيرك بملابس زاهية وحركات تنطق ببهجة كاذبة، يفضحها انكسار الصوت أحيانًا، وأحيانًا صراخ يدافع به عن اتهام يحيك فى صدره.
أما الروائى، فعاشق قديم يحيا على أمجاد شهرة زالت. يزور الحديقة القديمة أملًا فى وحى جديد يستكمل به روايته المستعصية.
فى الحديقة، وعلى طريقة رائعة إدوارد ألبى فى قصة حديقة الحيوان، يتدرج الحوار بينه وبين صاحب السيرك (الصديق القديم) من تعبير عن شوق، إلى سخرية وتسفيه، إلى غضب كاشف عن حقيقة كل منهما وعلاقته بالآخر.
وعلى طريقة خطوة للخلف خطوة للأمام، تظهر الممثلة فى تقاطعات كاشفة، مرة على خشبة مسرحها تشدو بـ(لماذا تركت الحصان وحيدًا) لتحيل السيرك - مكانًا وزمانًا - إلى دلالة تذكّرنا بجرحنا الأكبر والأعمق. فكل مدننا المشيدة على الهشاشة تتأهب لانهيار أو تستعد لحريق.
لعبة استكمال اللوحة
بنى جواد الأسدى نصه، ومن ثم عرضه، على التقاطعات بين الثلاثة، تتخللها مواجهات كاشفة. فكل منهم يحمل بداخله خطأ تراجيديًا يقوده ويقود المكان إلى خراب حتمى. بينما يقبع فى الخلفية ضابط يدير عرائسه بدقة رغم الغياب. نحن لا نرى الضابط، فقط نسمع عنه، بل نكاد نشعر به يجاورنا على مقاعد المتفرجين، يبتسم ابتسامة العارف أن الخراب آتٍ لا محالة.
الكلب الغائب دلالة أخرى، بل ودافع للحدث نحو الانفجار والانكشاف، ومن ثم الهروب. فحين يقتله صاحبه إرضاءً للضابط، توقن الزوجة أنها كانت تحاول رأب صدع بناء هش أقامته على شفا هاوية، ولم تنتبه إلا بعد فوات الأوان.
هنا أيضًا حب قديم يلتقى على مقعد خشبى فى الحديقة: ممثلة هاربة من سجن الوهم، وروائى فارّ من مواجهة نفسه، يلوذ بالحديقة يستجديها وحيًا يعرف أنه غافله وهرب للأبد بعد أن أصاب أصابعه شلل.
وهكذا يمارس معنا جواد الأسدى لعبته المحببة: لوحة (بازل) يطالبنا بمحاولة لملمة أشلائه. وحينها سنكتشف أن كلًّا منا فيه شيء من كل منهم. فينا من لاعب السيرك الذى يخطو بحذر على حبل الحياة مستندًا إلى عصا إفكه وخداعه، ونحن المثقف الغارق فى وهمه النادب لعجزه، ونحن الممثلة التى تشدو بقصائد العشق والثورة على المسرح بينما يكشف واقعها عن روح مسكينة ترزح تحت صخرة القهر.
كل هذه الاكتشافات والدلالات تنبئ بأن سيرك جواد الأسدى، مجهول الاسم والزمان والمكان، ليس سيركًا بقدر ما هو حياة.. حياتنا العربية الآن. وكأن جواد يصرخ فينا مجددًا: «رعب أكثر من هذا سوف يجيء»!
لذلك، قد تجد فى أداء ممثلى العرض بعض المبالغة، لكنها مبالغة مبرَّرة، يفرضها منطق «اللعبة المسرحية»، حيث لا مجال هنا للاستغراق والتوحّد، بل للمراقبة والتحليل. ففى آخر الرحلة ستواجه نفسك بعد أن كنت تظن أنك تشاهد بحياد. لتخرج مرعوبا مما سيجيء.
(نشر بالاتفاق مع موقع شهريار النجوم)