العدد 929 صدر بتاريخ 16يونيو2025
سياسة الأسلوب ومشكلة نوع الجنس
هناك مرحلتان “نهائيتان” أود أن أعرضهما باعتبارهما مؤثرتين في تطور ممارسة المسرح النسوي في الأكاديمية : صعود المسرح الجسدي ونظرية النوع. فالمسرح الجسدي يُمارس على نطاق واسع داخل أكاديمية المسرح وخارجها؛ وتُدرس نظرية نوع الجنس عبر مجموعة من مجالات الموضوع. وتجمع صنع المسرح النسوي في الأكاديمية بين هذين العنصرين للعمل نحو سجل جمالي وأداء يتحدى أداة التمثيل. باختصار، الخلفية وراء التطور العملي والنقدي لهذه “المراحل” النهائية هي كما يلى.
بالنسبة للعديد من الممارسات النسويات المحترفات، كان الضغط الاقتصادي على المسرح السياسي في الثمانينيات مسئولًا جزئيًا عن إزاحة المسرح السياسي القائم على القضايا وصعود مسرح أعطى الأولوية للأسلوب على المحتوى (السياسي). وكما علقت هانا، وهي تتطلع إلى المسرح البريطاني في الثمانينيات: “كانت الثمانينيات عقد الأسلوب. وما كانت [الفرق الصغيرة] تفعله أكثر جاذبية للناس في الثمانينيات لأنه لم يكن صعبًا، وكان غير مسيَس. لم يكن أحد يسأل أي أسئلة محرجة حول الحياة”. ويميز “الأسلوب”، الذي يُشار إليه الآن بشكل الأكثر شيوعًا باسم “المادي”، الكثير من أعمال الفرق الصغيرة والمتوسطة الحجم في التسعينيات على خشبات المسرح البريطانى. وكما أشارت هانا، فإن معظم (ولكن ليس كل) أعمال هذه الفرقة تعكس اهتمامًا بالأسلوب على حساب السياسة، على الرغم من أننا قد نزعم أن هذا على أقل تقدير يجعل مركزية المنطق سياسية في كتابة المسرحيات، ولاسيما التقاليد الواقعية، والتي كانت تميل إلى الهيمنة على كل من الأسلوبين البريطاني والأمريكى.
بينما يمكن استخدام سجل الأداء المادي لإيجاد طرق مبتكرة لتمثيل المسرحيات “الكلاسيكية” المكتوبة، فإنه يرتبط بشكل أكثر شيوعًا ويستخدم على نطاق واسع في ممارسة المسرح غير المكتوب. ومثل “المسرح المادي”، فإن الابتكار ليس في حد ذاته ممارسة سياسية، ولكنه يوفر إمكانيات سياسية. يزعم المحررون المشاركون في كتاب “ ازاحة الأب”، على سبيل المثال، أن “بناء ( أو ابتكار ) للنص هو ما تفعله عندما لا تستطيع تحمل إخراج مسرحية أخرى لشكسبير أو إبسن أو بنتر أو شو”. أو كما تقول أليسون أودي في كتابها “الابتكار”:
المسرح المبتكر هو انعكاس معاصر للثقافة والمجتمع.. وهو يتعلق بعلاقة مجموعة من الناس بثقافتهم، والمناخ الاجتماعي والسياسي والفني والاقتصادى، فضلًا عن القضايا أو الأحداث المحيطة بهم.. اذ يتميز المسرح المبتكر بالاختيار والفرصة و الإمكانيات اللا محدودة عن عرض النصوص المسرحية التقليدية.
ونظرًا لعلاقة النساء بالثقافة وتمثيلهن في “نصوص المسرحيات التقليدية”، فليس من المستغرب أن يفضلن بناء عروضهن الخاصة. فالتصميم يوفر للنساء طريقة لصنع المسرح، مما يعني أنهن لا يضطررن إلى العمل على نص “كبير” - أو، إذا اضطررن إلى ذلك، فقد يساعدن في إجراء تدخل جذري في “نص مسرحي تقليدي” أو “معترف به”. وكعملية، يوفر هذا للنساء الفرصة لممارسة المسرح بشكل تعاوني وديمقراطى. فالكثير من المسرحيات التي ابتكرتها فرق نسوية في أواخر السبعينيات، على سبيل المثال، تم ابتكارها بشكل تعاونى، بدلًا من كتابتها بواسطة كاتب مسرحى. مثال العروض التي ابتكرتها وقدمتها مجموعة فرقة مسرح النساء Women›s Theater Group بين عامي 1974 و1978. ولكن ما يميز هذا النموذج من الابتكار النسوي عن النموذج الأحدث القائم على الجسد هو تركيزه على القضايا النسوية. فقد ركز التصميم القائم على القضايا على ما تريد النساء قوله، وليس على الأسلوب الذي يرغبن في “قوله” به.
ومن ناحية أخرى، فإن الابتكار الجسدي مهم بالنسبة للنساء اللواتي يؤدين، لأنهن أولًا، كما اقترحت سيكسو في بيانها، يجب أن يجدن أجسادهن. وكما لاحظت جود وينتر، المؤدية المبدعة في فرقة مسرح دوروثي توك: “عندما أرى فرقًا مختلطة، غالبًا ما يكون المؤدون الذكور في العروض المسرحية الجسدية أقوياء جدًا. وأنا أنظر إلى المؤديات من النساء وأسأل نفسى، “لماذا ليسوا جيدات؟”. قد تحتاج النساء، كما تشير تعليقات وينتر، إلى مزيد من الرعاية والدعم في الأداء في سجل جسدى، ولكن يمكن أن نقوله إن لديهن المزيد ليكسبنه من خلال “التراجع” عن التكييف الاجتماعي والثقافي والمسرحي لأجسادهن. والأهم من ذلك كله، أن لديهن سيطرة أكبر على كل من محتوى وشكل عملهن المسرحى.
لا يقتصر دور المؤدِّية المبدعة على ممارسة المسرح النسوية بأي حال من الأحوال. فهي تظهر في مجموعة متنوعة من الفرق التي تركز على الجسد باعتباره وسيطا و”نصًا” جسديًا، وهي فرق، كما لاحظت هانا، ليست بالضرورة سياسية. ومع ذلك، فإن ما يميز المؤدِّي المبدعة في صناعة المسرح النسوي هو إعادة صياغة نوع الجنس من خلال سجلات الأداء النسوية الثقافية والمادية النسوية.
وعلى الرغم من مركزية الجسد الحي في المسرح الذي من خلاله يجسد أو يجعل اهتماماته مرئية، أو في حالة المسرح النسوى، على وجه التحديد، فان التركيز يكون على الجسد كمكان لتمثيل النوع الاجتماعى، إلا أنه من الغريب إلى حد ما، كما تلاحظ جايل أوستن، أن هذا المجال من النشاط النسوي كانت تتجاهله , ولا تزال , دراسات المرأة: “النساء المستريحات لفكرة العمل متعدد المجالات مازلن يبتعدن عن استخدام النصوص الدرامية”. وفي الآونة الأخيرة، دخل استبعاد الدراما والمسرح من دراسات نوع الجنس قد دخلت مرحلة جديدة. وكانت “المشكلة” مع نظرية ما في نوع الجنس، وهنا أشير إلى دراسة جوديث بتلر المؤثرة “مشكلة نوع الجنس” (1990)، وتكملتها “الأجساد المهمة Bodies that Matter” (1993)، وتتمثل في إزاحة الجسد الحي والأداء من خلال مفهوم نوع الجنس، و”الأداء”، ومجال النظرية كما هو مكتوب. وفي محاولة لإعادة توجيه القراءات الخاطئة لمشكلة نوع الجنس، وتحديدًا مفهوم “ الذات المختارة Choosing Subject “، أي الشخص الذي يقرر نوع جنسه، تستبعد بتلر احتمالات الأداء، لأن “المؤدى، كما يوضح دايموند، يشير إلى شخص يسبق ثم يفتعل تأثيرات نوع الجنس”. وكما تقول بتلر بنفسها:
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستنتج أن الجزء من نوع الجنس الذي يتم أداؤه هو «حقيقة» نوع الجنس؛ فالأداء باعتباره «فعلًا» محددًا يتميز عن الأداء من حيث أن الأخير يتكون من تكرار للمعايير التي تسبق المؤدي وتقيده وتتجاوزه، وبهذا المعنى لا يمكن اعتباره من صنع «إرادة» المؤدي أو «اختياره».
إن رفض الأداء يعني إغلاق إمكانية وجود مجال نظري يمكنه، في المجال النسوى، أن يُظهر لنا على الأقل «حقائق» جزئية عن الجنس. إن «الأداء» يمكن أن يُظهر الطرق التي يتم بها لعب الجنس من خلال «تكرار المعايير»، وبالتالي يسمح لنا بمعارضتها. أو، باستخدام نموذج دي لوريتيس، فإنه يسمح لنا بإمكانية إثبات «لكنني لست كذلك». وباعتباره أسلوبًا مقاومًا لـ «الفعل» بدلًا من «الكتابة»، فإنه يوفر إمكانية «طرق جديدة للرؤية».
مجال الاضطراب: نحو ممارسة نسوية
في إطار هذه المصفوفة من النظرية النسوية ونظرية النوع والأداء النسوى، بدأت الممارسة النسوية في الأكاديمية في الظهور. في ثمانينيات القرن العشرين، بمجرد أن بدأت النسوية في فرض نفسها في أكاديمية المسرح، بدأ المنهج الدرامي في التغير. لقد أدى زيادة إمكانية الوصول إلى المسرحيات النسوية إلى أنه لم يعد من الضروري أن تحاول مجموعات كبيرة من الطالبات غالبيتها من الإناث إضفاء معنى عملي (وأيديولوجي) على المسرحيات التي كتبها رجال بيض من الطبقة المتوسطة من المغايرين جنسيًا (وإن لم يكن ذلك حصريًا). أو إذا فعلوا ذلك، فيمكنهم استخدام النقد والنظرية النسوية لتحدي مثل هذه المسرحيات والطرق التي يتم بها تقديمها وتقديمها على خشبة المسرح، وبالتالي تقديمها على خشبة المسرح بشكل مختلف.
مع دخول الممارسات النسويات المحترفات إلى الأكاديمية للعمل في ورش العمل والأداء، كان هذا يعني أن النساء اللواتي يدرسن المسرح تم تعريفهن بتقنيات إما لأداء نصوص نسوية (انظر الفصل 7)، أو ابتكار نصوصهن الخاصة. وعلى الرغم من الدفع في منتصف الثمانينيات نحو إمكانية وجود لغة “أنثوية” للمسرح، متأصلة في الفكر والممارسة الثقافية النسوية، فقد أصبح من الواضح أنه لا توجد طريقة واحدة لصنع مسرح نسوى، أو جعل المسرح نسويًا. وقد أظهرت تعدد ممارسات الورشة التي جلبتها الممارسات المحترفات إلى الأكاديمية مجموعة من المناهج والتقنيات والأساليب، التي تعتمد على التاريخ المسرحي والشخصي والسياسي والجغرافي والنسوي الفردى. ومع ذلك، فإن مثل هذه الورش التدريبية كانت تشترك في بعض القواسم المشتركة فيما يتعلق بتنوعها: فقد اختلفت عن الممارسة التربوية التقليدية من خلال الاعتراف بأن العوامل الثقافية والمادية مثل الجنس والعرق والطبقة والعمر والتوجه الجنسي قد تحدث فرقًا في العمل المسرحي - منهجيًا وأسلوبيًا وموضوعيًا وجماليًا.
في الآونة الأخيرة، في تسعينيات القرن العشرين، شجعنا تأثير الابتكار والعمل
جسديًا، جنبًا إلى جنب مع النظريات النسوية والجنسانية على تبني أسلوب نظري للممارسة النسوية حيث يكون جسد/صوت المؤدية المصممة هو موقع الانخراط النقدي في سياسات أو تمثيل النوع الاجتماعى. وعلى النقيض من نظرية نوع الجنس على طريقة باتلر، والتي تقع في النص، فإن ممارسة المسرح النسوي المكتوب تعبر عن مخاوفها من خلال “الفعل”. إن الاستمرار في تهميش هذا العمل هو تجاهل إمكانية وجود مجال للنشاط النظري الذي ينتهي ويبدأ ويعالج من خلال أجساد حقيقية “مهمة” للغاية.
بينما من المهم التأكيد على أنه لا توجد طريقة واحدة لممارسة المسرح النسوى، فمن المفيد أن يكون لدينا بعض المفاهيم الواسعة النطاق لأهداف وغايات النسوية في ورشة العمل المسرحية. ومع تطور ممارستك الخاصة، يمكنك تحديد هذه الأهداف بنفسك. مقترحاتي الخاصة، التي تدعم وتنير الفصول القائمة على الممارسة والتي تلي ذلك هي:
• أن الممارسة النسوية قد تشكل مجالًا نظريًا.
• أن الممارسة النسوية قد تعمل رسميًا وأيديولوجيًا باعتبارها
«مجالًا للاضطراب».
• أن الممارسة النسوية «تسرق» من أي مكان وأي شيء
ضروري لخلق «الاضطراب» المطلوب.
• أن الأنساق التمثيلية (للجنس، والجنسانية، والطبقة، والعرق، وما إلى ذلك)هي موضوع (وتخضع لـ) هذا «الاضطراب».
للتوضيح: في هذا الكتاب، تعمل النظرية النقدية النسوية على «توجيه» العديد من المقترحات الخاصة بممارسة المسرح النسوي والتي قد تعمل بدورها على «إعادة توجيه» النظرية.
ومع ذلك، فمن الضروري التأكيد على أن الممارسة النسوية لا تتبع مجموعة محددة مسبقًا من القواعد؛ فهي ليست مصممة “لتلائم” “نظرية”. إن الأفكار المجردة والمقترحات النظرية التي يتم تطويرها واستكشافها من خلال الممارسة تشكل عملية من البدايات والاكتشافات والأحداث غير المتوقعة والتناقضات والارتباكات التي لا مفر منها. وما يرشدنا خلال هذا في سياق النظرية والممارسة النسوية هو التزامنا باستكشاف طرق مختلفة لتمثيل أو “رؤية” النوع الاجتماعي؛ وبجعل أنفسنا مرئيين عندما لا يمكن “رؤيتنا” في الأنظمة المهيمنة للتمثيل الاجتماعي والثقافي والمسرحى.
“إن “مجال الاضطراب” هو مفهوم “اختلسته” من مذكرات سيمون بنموسا في كتابها “ توجيهات بنموسا BennMousa Directs” (1979). وبصفتها مخرجة، تحاول بنموسا تعريف مهمتها بأنها تعمل “في نطاق...” الاضطراب “، حيث تهرب من معناها الأصلي إلى الحد الذي تصبح فيه غير قابلة للتمييز عن بعضها البعض”. وتشرح كيف تستخدم “الاضطراب” “بمعناه النشط المتحرك، لمعارضته للفئات الراكدة”. واستنادًا إلى مذكرات بنموسا، أود أن أجادل في ممارسة المسرح النسوي باعتباره “مجالً...” اضطراب “. لا ينبغي تصنيفه كنوع أو أسلوب مسرحي واحد، مثل “مسرح الجسد”، أو “المسرح البصري”، أو المسرح السمعى، أو الجسدى، أو المسرح المبتكر، بل كممارسة “تختلس” أو تستمد من كل ما هو ضرورى، من أي مكان تكون هناك حاجة إليه، لمعارضة التصنيف؛ ولإزعاج العمليات التي تولد المعنى والتمثيل؛ ولتفعيل مجال الفعل لغرض “التراجع عنه”.
الهوامش
• إيلين أستون : محاضرة أولى في دراسات المسرح بجامعة لوبورو. ألفت كتاب «مقدمة في النسوية والمسرح» (دار روتليدج للنشر، 1995)، وشاركت في تأليف كتاب «المسرح كنظام إشارات» (دار روتليدج للنشر، 1991).
• هذه المقالة هي الفصل الأول من كتاب « Feminist Theater Practice» الصادر عن مطبوعات روتليدج عام 1999