أحمد عبد الحميد.. خمسون عاما في نقد المسرح

أحمد عبد الحميد..  خمسون عاما في نقد المسرح

العدد 850 صدر بتاريخ 11ديسمبر2023

ذات يوم كتب الناقد أحمد عبد الحميد في مقاله الأسبوعي بجريدة الجمهورية وهو يحلل النص المسرحي الشهير «كاليجولا» لألبير كامي: «إن الحياة هراء وعبث... الموت أيضا عبث وعدم».
وكأنه كان يرى الحظ الهلامي للسيناريو الأسود في الإثنين الحزين(5 سبتمبر 2005) منذ دخل المجال النقدي منذ أكثر من خمسين عاما، لم تغره أضواء الشهرة أو الكتابة عن النجوم لأن هؤلاء لهم من يكتبون عنهم، بل اتجه بقلمه ليكشف عن مناطق مسكوت عنها في الحياة المسرحية المصرية.
فراح يكتب عن الأجيال الجديدة وتجاربهم، رغم أن كثيرا من أقرانه غاصوا في تقليدية الأداء وع ذلك حصدوا ثروات طائلة.
كان يدرك أن جمرة المسرح لا يمكن أن تمسكها سوى يد قوية قادرة على تحمل المشاق والصعاب، لذلك لم تختلف حياته التي عاشها عن الحياة التي كتب عنها مسرحيا على حد تعبير زميله وصديقه الناقد سمير الجمل.
لم يختلف اثنان على حيادية رؤيته النقدية، رغم أنه من مدرسة المواجهة في النقد، يبرز جماليات العرض وطرق الأداء التي حفل بها، وبالمثل يشير إلى السلبيات بنفس القدر وغالبا ما تكون آرائه صائبة.
وأرى أنه كان من أكثر نقادنا إبرازا لقيمة المسرح كفن محوري لتغيير الواقع، ومقالاته الكثيرة بها من الشواهد الدالة على دفاعه عن أبي الفنون، وضرورة تعميمه بين طلاب الجامعة الذين هم حجر الزاوية في بناء مستقبل الوطن، حيث يقول في معرض حديثه عن عرض «اثنين في قفة» والذي عرض بالجامعات الأمريكية: «لايمر أسبوع دون أن تسمع عن نشاط أو أكثر.. مسرحية، معرض للفنون التشكيلية، عروض موسيقية ومحاضرات على أعلى مستوى من نجوم السياسة والصحافة والفن.. مناخ ثقافي ليبرالي حقيقي يسهم في تنشيط العقل والخيال والارتقاء بالوجدان وتفجير الطاقات الإبداعية لدى الطلاب.. نشاط يوازي ويدعم العملية التعليمية على الجانب الآخر.. في جامعتنا النشاط متباعد وضئيل للغاية والمسرحية الوحيدة اليتيمة التي ثقدمها بعض وليس كل الكليات تعرض لليلة واحدة بعيدا عن الإعلام والأضواء.. وكأن إكرام الميت دفنه، أما عروض الجامعة الأمريكية فتستمر أسبوعا عل الأقل وتطبع لها الصور على أسطوانة ليزر ومعها بنفلت يقدم لل فيه نبذة عن كل ممثل وفني مشارك، وتوجه الدعوات إلى الصحافة ورموز الأدب والفن في مصر.. ويحصل الطلاب على درجات تضاف إلى درجات المواد الدراسية الأساسية... وبالتالي لا يشعر الطالب بأنه يضيع وقته وإنما يستثمره فيما يعود عليه بالنفع.. ولذلك ينجحون في سوق العمل وتتخاطفهم الشركات.. أما نحن في جامعاتنا فلا نهتم إلا بالمناهج وقتل المواهب» (جريدة الجمهورية- 22/ 2/ 2003).
بالإضافة إلى ذلك كان متابعا جيد لحركة المسرح في الأقاليم، ينتقل من مسرح في محافظة لمحافظة أخرى ليكتشف المواهب الجديدة من خلال نوادي المسرح ويقدمها على صفحة المسرح بجريدة الجمهورية، وكم كتب عن مواهب صغيرة أصبحت بعد ذلك من نجوم الصف الأول في السينما والمسرح والتليفزيون نذكر منهم عبلة كامل وأحمد السقا وأحمد آدم وغيرهم مبشرا بموهبتهم الفنية وكان لكتاباته تأثير واضح في إبراز أسمائهم على الساحة الفنية.
ومع ذلك لم يتوان في نقد بعضهم حين اختصر الكوميديا إلى مجرد أداء مبتذل، وأذكر أنه كتب مقالا لاذعا في ذلك تحت عنوان «محاكمة شباب الكوميديا» في جريدة الجمهورية بتاريخ 30/ 9/ 2001، أشار فيه إلى أن أحد العيوب القاتلة لجيل الموجة الجديدة من شباب الكوميديا أنهم يرفعون شعار الضجك مسئولية الممثل – مع أن هذا الشعار ضار بالممثل والفن جدا لأنه يقود العرض المسرحي إلى التفاهة والتفاهة تأتي من الضحالة، من التسطيح الأجوف المصنوع ومن الفكاهة اللفظية عندما تزيد عن الحد ومع إعلاء الشكل على المضمون، فإعلاء القيمة الوجدانية والجمالية على القيمة الفكرية والفلسفية وعلى العكس يضاعف ويعمق المتع الأخرى للعمل الفني، غير الإضحاك، ويرى عبد الحميد أن العمل الجيد هو الذي يلتصق بالذاكرة ويدوم طويلا.
وفي قراءة متأنية في مقالاته وإنتاجه النقدي نقف عند عدة نقاط:
أولها: أنه يربط تحليله للعروض المسرحية بآراء نقدية تأتي في إطار قراءة يمكن أن أسميها «سوسيومسرحية» تربط العرض بواقعه الاجتماعي والسياسي.
ثانيا: سلاسة اللغة النقدية- والتي تأتي عادة مرتبطة بالعرض ذاته فهو يكتب لغة وسطى تستفيد من جزالة الفصحى والفضاءات الرحبة للعامية المصرية، وربما يعود ذلك «إلى خبرته الطويلة في العمل الصحفي.
ثالثا: اهتمامه بالثراث المسرحي العالمي، بالقراءة ومشاهدة أعماله، ومع ذلك كان دائم التأكيد على قدرة المسرح المصري على النهوض من كبوته بشرط العودة إلى منابعه الأولى من فنون الحكي الشعبي وغيرها مع إكسابها معطيات الزمن الحالي، وله رأي مهم في ذلك في جريدة الجمهورية بتاريخ 4 يوليو 2001 يقول فيه:
«القوالب الشعبية ترد الفن إلى أصله، إلى اللعب، إلى روح السامر الشعبي، إلى فنون التسلية والتسؤرية في ليالي القرية القمرية وتعتمد الفنون الآدائية على التقاليد وأسلوب الكوميديا الشعبية في الفنون الدارجة».
وكان دائما ما يستشهد بمقولة علي الراعي: (إن المسرح الشعبي لا يعنيه أن ينسي المتفرج ما يجري أمامه إنما هو مجرد عرض مسرحي،وهو لا يسعي إلي أن يندمج  متفرجه  في العرض المسرحي حتي لينسي نفسه،وينسي الزمان والمكان الذي يعيش فيه.إن المسرح الشعبي لا يجد غضاضة في أن يتنبه متفرجه كل التنبيه، و يعي تماما أن ما أمامه عرض لقصة من قصص الحياة وليس الحياة ذاتها،  فمن عناصر مسرح الارتجال القدرة الذكية علي التقاط الحدث الاجتماعي الذي يشغل الرأي العام،ثم إدخاله إلي صلب العرض المسرحي، بغية جذب الجمهور وتحويل جانب من اهتمامه بالحدث إلي اهتمام بالعرض المسرحي أيضا ، فكأن الفنان يدعو جمهوره إلي التعاطف مع فنه،بعد أن تعاطف هو مع اهتماماته السياسية والاجتماعية،وفي الوقت ذاته يقوم الفنان بجزء من دوره الرئيسي وهو عرض الحياة وانتقاده انتقادا فنيا).
وكان عبد الحميد يؤكد دائما  أن هناك جذوراً شعبية للمسرح العربي اتسمت بفضائها المفتوح مثل الأراجوز وخيال الظل والحكواتي ، وهي فنون كانت وليدة الواقع ، حتى وإن كانت بعض هذه الفنون وفدت من حضارات أخرى مثل خيال الظل الذي يقول عنه د. عبد الحميد يونس في كتابه « خيال الظل» : أنه نبت في الشرق الأقصى ، واتخذ الزي الفارسي ، وواكب الحياة الإسلامية ، وأسهمت الطبقات الوسطى في ثرائه ، واستقر آخر الأمر في القاهرة ، فأزدهر ، ثم انتشر ونفذ إلى ربوع العالم الغربي ، وليس يعني الباحث أن يحدد بالضبط الطريق أو الطرق التي سلكها في رحلته عبر الزمان وعبر المكان ، حسبه أن يسجل حقيقيتين أثنتين : أولاهما ، أن اليونان والرومان لم يعرفا خيال الظل في العالم القديم ، وثانيتهما ، أن هذا الفن لم يصبح له كيانه المستقل بمقوماته الخاصة في التأليف والأداء والتذوق إلا في العالم الإسلامي بصفة عامة ، وفي الديار المصرية بصفة خاصة « وخيال الظل ـ لغويا ـ اصطلاح عربي شائع اتخذ معناه المستقل وانصهر في ضمير الشعب وحياته التعبيرية اليومية على حد تعبير د. حمادة إبراهيم   وسمي أيضاً « طيف الخيال» وهو الأسم الذي اختاره « إبن دانيال «  لتمثيلياته الظلية .
رابعا: دعوته الدائمة إلى إحياء فنون مسرحية أوشكت على الانقراض مثل المسرح الغنائي، حيث يرى أن أكبر مشكلة تواجه ازدهار المسرح الغنائي هي ندرة الأصوات الذهبية اللامعة، القوية المدربة التي يجيد أصحابها التمثيل بخفة ظل، أما الأصوات اللامعة فإن أصحابها يقصدون الحفلات الغنائية وتعبئة الشرائط والفيديو طكليب بعيدا عنم المسرح وإرهاقه الذي يتطلب جهدا يوميا منتظما ومتصلا يتضاعف إن كان الغناء حيا وليس مسجلا لذلك تتراجع دائما المحاولات لإحياء هذا الفن الجميل.
وهكذا نقف على أهم صفات الناقد الراحل وهي الالتزام الفكري والنقدي والعملي والمثابرة والتنقيب في التربة المصرية بحثا عن وجوه جديدة قد تغير الخريطة المسرحية.
كان أحمد عبد الحميد صاحب رؤية تدعو للتجديد المسرحي وفق الطبيعة الاجتماعية، وكان يرى أن المسرح يحتاج إلى تخطيط في إطار تخطيط ثقافي، واجتماعي شامل، يحقق لقاء الإنسان العربي بالإنسان العربي، على أرض النضال والمعاناة، وبهجة التفتح والتجدد والإبداع، بما يحقق لقاء حميميا واعيا مضيئا بحقيقته. وحقائق مجتمعه.


عيد عبد الحليم