العدد 586 صدر بتاريخ 19نوفمبر2018
حركة المسرح المصري منذ نشأتها بالشكل المتعارف عليه؛ إلى وقت ليس بالبعيد، كانت متجاوبة مع حركة المجتمع والتغيرات التي تطرأ عليه، ونلمح هذا خاصة في بدايات القرن العشرين، حينما عالج المسرح المصري القضايا التي تعرضت لها الأمة تأثرا بالحروب العالمية، فظهرت شخصية غني الحرب مثلا، ثم إبان ثورة 19 كانت هناك بعض المحاولات خاصة في المسرح الغنائي للتغني بسعد زغلول، ثم الرصد لحالات الانقسام التي يعيشها المجتمع من خلال العلاقات التي تنشأ بين أبناء الباشوات وعامة الشعب، وعدم الاعتراف بهذه العلاقات خصوصا أن تصوير الطبقة الشعبية كان في الجانب المفعول به دائما، بالإضافة للعروض التي كانت تغلب عليها الكومديا ولكنها في نفس الوقت كانت تعالج بعض الأمراض الاجتماعية في المجتمع المصري، كذا المسرحيات التي كانت تحاول أن تشير إلى مشكلة الطبقة الحاكمة ومن يحيط بها.
ثم بعد ثورة يوليو 52 ارتبط المسرح ارتباطا وثيقا بالمجتمع، ولسنا هنا بصدد إبداء الأسباب لهذا، أو صحة التوجه في تدعيم الغالبية للمشروع الناصري، ولكنك لا يمكن أن تغفل أنه في العهد الناصري كانت هناك النصوص المسرحية التي قدمت على خشبة المسرح كانت تلمز طريقة الحكم والحكام مثل مسرحيات الشرقاوي وعبد الصبور ونجيب سرور ومحمود دياب.. إلخ.
وناهيك بأن الحالة بعد 67 تراوحت بين الدعاوى للصمود أو دعاوى التغيير المستترة، أو النصوص التي حاولت أن تجعل من الهزيمة مسئولية شعب لا قيادة، ثم بالطبع العروض التي واكبت حالة الهزيمة والتي تمثلت في نقل الشعور باللاجدوى أو الاغراق في التفاهة، ورغم تناقض التوجهات بين الرسائل في كل نوع، إلا أنك لا يمكن أن تغفل أنها كانت معبرا حقيقيا عن حالة ما بعد الهزيمة المتعارف عليها اجتماعيا ونفسيا.
وبعد 73 مباشرة سادت فترة احتفالية قصيرة، أعقبتها ردة الانفتاح الاقتصادي ثم الاتفاقيات التي حاولت أن تمحو في ثانية فكرة العدو المتعارف عليه، فهجر غالبية رواد هذا الفن الوطن، واستثمر البعض الحالة في إنشاء فرقهم الخاصة التي تدعو للاشيء: بل هي فقط تحاول أن تستحوذ على ما في جيوب تلك الطبقة الطفيلية التي أنجبها الانفتاح بسرعة كبيرة، ومع حقبة الثمانيات ومحاولة الدولة التوجه نحو الطبقة المثقفة التي هاجرت فأعادوها ولكن تحت اتفاق غير مكتوب بالا تكون هناك مهاجمة مباشرة لنظام الحكم أو رموزه، وعدم المساس بشروط الاتفاقيات الموضوعة؛ وإذا كان المسرح الخاص في بداية المرحلة أساسا لم يكن يعنيه هذا الأمر كثيرا في أغلبه، فاقتصر التوجيه على مسارح الدولة، ولكن الحقبة الناصرية أفرزت مسرحا آخر تغلب عليه الهواية ممثلا في مسرح الثقافة الجماهيرية والجامعات والشركات، وطبيعي ألا ينصاع هذا المسرح لهذه التوجهات، فكانت محاربة هذه الفكرة من جذورها بتقليص عدد النصوص العروض المسرحية لهذه الفئات ومحاولة توجيهها للتنافس فيما بينها لا التأثير والتأثر، ثم كان للرقابة دور جعل من محاولي فكرة التغيير الارتكان لعملية الإسقاط واسدعاءات للتاريخ دون التطرق للحاضر، وللأسف هذه الفكرة ارتبطت وتغلغلت في داخل المؤلفين أنفسهم فأصبح الكثير منهم لا يعرف كيفية الكتابة عن الواقع، وفي نفس الوقت يحتفظ دائما بالرقيب الداخلي من تلقاء نفسه.
وللأسف المدة الطويلة التي تغلغل فيها نظام الحكم ما بعد 80 في الواقع والمجتمع المصري أفرزت عدة عوامل ساهمت بأن يبحث الجميع تقريبا عن مكاسبهن الشخصية، وأصبح الفساد في الأغلب الأعم هو الشيء الذي لا يكون لك فيه مصلحة؛ إما إذا كانت فهو حق ومشروع، وبالطبع هذه النعمة لم تتغلغل فقط في أديم المجتمع بل طالت غالبية من يطلق عليهم بالمثقفين، وأصبحت هنالك فعاليات مسرحية ربما كان شرط الوجود الأعم هو عدم الحديث عن الآن ونحن، إلا في الأشياء الهامشية التي تلقي باللوم على المجتمع ككل ونظرته لبعض الأمور.
أقولها بكل أسف إن سيادة الانتهازية قد عمل نظام الثمانينات وما بعدها على ترسيخه في المجتمع المصري ومن بينهم البعض أو الكثير من المسرحيين بالطبع، وعندما جاء يناير وما بعده آمل الكثيرون الخير في عملية الإصلاح المجتمعية التي تقودها النخبة، وخصوصا مثقفيها ومنهم المسرحيون بالطبع، ولكن بما أن هذه النخبة قد أصابها التشوه في المجمل فلم يكن هناك أي نتاج، وإذا اقتصرنا حديثنا على المسرح فلم يكن هناك أي نشاط مسرحي يصور يناير وما تم فيها، ما حدث هو أنه بعد الانصراف من التحرير سارع الكثير من شباب المسرحيين بركوب الموجة ومحاولة تقديم عروض تمجد الثورة وتقول إن التغيير كان واجبا مع كيل بعض السباب للنظام السابق، ولكنها في الأغلب كانت عروض تعتمد على نصوص تشبه (كلمات جاويش المسرح حينما يتلقى النقطة في الفرح الشعبي) أي قول ما يريده المتحكم في دفع النقود لا أكثر ولا أقل، للآن ليس هناك نص يتعرض للأيام التي مرت في ميدان التحرير أو في ميدان آخر، لم يتعرض أحد لمحاولة تجميع بعض أسباب التي أدت للخروج من شخصيات مختلفة عن بعضها اجتمعت في مكان واحد بمطلب واحد، ما هي الأشياء الفردية إلى دفعت الكل للخروج؟ والأشياء الجماعية؟ ما هي الأحلام؟ ما هي الطرائق؟ كيف تشتتت السبل؟ كيف أصبخ هناك مليون ائتلاف يتحدث عن الثورة وكلها يعارض بعضه مع أنهم يقولون إنهم من نتاج واحد؟! والنتيجة أن مسرح الدولة فيما بعد الميدان إلى بدايات حكم الإخوان قدم الكثير من العروض غير الجيدة، بل التي بعضها لا ينتمي للمسرح أساسا، وكلها قدمت من أجل العمل والحصول على النقدية في الأغلب الأعم، لأن الكل يشترك في القول بضرورة الثورة والسب في النظام السابق دون أن يقول لماذا، والنتيجة أنني أتحداك أن تذكر اسم أي عرض منها.
أما الهواة الممثلون فيما بقي من فرق الثقافة الجماهيرية والجامعات، فلم تنتظر أن يكون هناك نصا يتحدث عن هذه الضرورة وكيل السباب، مهما كان جيدا أو رديئا، واكتفوا في الأغلب بإقحام مشاهد الثورة على نصوصهم التي لا تتماس مع الحالة الثورية أو المصرية في الأغلب، وبقدرة قادر في أي عرض حتى إن كان ينتمي للعصور الوسطى تخرج الإعلام المصرية والأغنيات الحماسية وتتم عملية التنحي.
ثم حدث نفس الأمر في النصف الثاني من مرحلة حكم الإخوان، وسفور وجههم الحقيقي، نعم كان هناك بعض المنتفعين ما زالون يقدمون العروض التي تحاكم النظام السابق، ولكن الأمر أصبح لا يهدد فقط الهوية المصرية بل يهدد أكل عيش ووجود الكثير، فكان لا بد من وقفة، تزامنت مع رغبة الشعب في رفض هذا التوجه، ورأينا الكثير من الاحتجاجات التي ينضم إليها المسرحيون ولكن بدون فعالية مسرحية، صدعونا عن مسرح الشارع ومسرح الصحف الحية ومسرح المقهورين.. ووقت الحاجة إليه لم نجده، إلى أن كانت 30 يونيو، فتكررت نفس الصورة مع عملية ما بعد التنحي، الكثير من العروض التي كتبت في عجالة تحاكم أصحاب اللحى الطويلة والجلابيب، والنصوص التي ليس بها لحى أو جلابيب؛ يتم إلصاقهم بها قسرا في الكثير من الأحيان؛ خاصة من مسرح الهواة، مع بعض التفاتات لنصوص قديمة كتبت من زمن كانت تناقش عملية التطرف الديني لا عملية إقحام الدين في السياسة، مع أن البعض منها خاصة عند السلاموني قد مزج بينهما في (ديوان البقر) ذلك النص الذي قدمه الراحل سعد أردش فيما قبل وفاته بأكثر من ست سنين في محاولة لإخراجه ولكن لم ينل الفرصة، وأصبح الأمر هو مجرد إرضاء النظام الجديد الذي جاء بعد الإخوان مع التأكيد بأن رحيلهم كان واجبا، وصحيح مع أنني من أنصار هذا التوجه والتوجه الذي قبله، ولكن لم يفصح أحد لماذا كانت سرعة التخلص منهم واجبة اعتمادا على أسباب وحوادث كانت ماثلة أمام الجميع ومن الممكن التعامل معها دراميا، حتى نكون فعلا أمام عمل فني لا مجرد جاويش مسرح.
وفي هذه الأيام هناك دعوة لأن يتعرض المسرح لجهود مكافحة الإرهاب التي يقوم بها الجيش المصري، ونفس الأمر يتكرر وعلى أسوأ، فقد شاهدت مؤخرا عرضا مسرحيا تحت هذه الدعوة، ما كان من النص إلا أنه إعادة لنص شهير آخر كتب أثناء مرحلة النكسة ولكن بمعالجة ركيكة وضعيفة، وهناك استعارات كاملة لبعض الشخصيات، وأيضا الأثر الذي يجب الحفاظ عليه بعد استشهاد الجميع ولكن في هذه المرة تغير الوسيط من الأغنية للكتابة، مع وجود جو نفسي غير متضامن مع الفكرة، ومن الواضخ أن القائمين على العمل ولا المشتركين به لم يعرفوا ماهية الوحدات القتالية وكيف يكون التعامل معها مكانيا، بل إنه حتى لم يشاهدوا برجا للمراقبة ولا يعرفون شيئا عن الحياة العسكرية ذاتها، وخطورة وضع صناديق الذخيرة في مجال التعامل اليومي ناهيك بمدى إمكانية تعرضها للنار!! أي عارف ولو معرفة بسيطة بهذه الأمور لقال على الفور إن موت المجموعة واجبا، وإن لم يموتوا في القتال كان واجب تعرضهم للمحاكمة العسكرية بتهمة الإهمال، وطبيعي أن الإهمال ليس من جنودنا، ولكنه من صورهم على هذا النحو، لو كانوا تجشموا عناء زيارة مصاب من وحدة عسكرية مقاتلة وعرفوا منه فقط لخرجوا منه بعرض جيد، ومع التنوع في المصدر سيكون هناك اختلاف، أي أننا أمام ما يقرب من ألف قصة مسرحية مختلفة بشخصيات ودوافع تتشابك مع بعضها البعض لتكون هدقا دراميا حقيقيا باختلاف الموقع والأفراد، نظرا لأن كل موقع مخالف عن الآخر وطبيعي أن تكون هناك اختلافات فردية نظرا للحالة الإنسانية نفسها والنشأة والحلم والمستوى الاحتماعي والثقافي.. إلخ، ثم تبيان كيفية انصهار هذه الاختلافات في الهدف الأسمى.
الخلاصة، أننا ما زلنا نتعامل كما تعاملنا سابقا بدون رصد أو تفاعل حقيقي، نتعامل فقط لنقول إننا قدمنا عرضا يقول كذا، وفي الحقيقة هو ينقل نتيجة عكسية ولا يشاهده الجمهور أساسا في الأغلب الأعم، ونكتفي بدور جاويش المسرح ولا نحاول أن نكون المطرب الأساسي الذي ينصت الجميع له بلا جلبة أو استهجان أو استحسان يعوق عملية التقديم ومن ثم التلقي.