العدد 616 صدر بتاريخ 17يونيو2019
(لكم تعب هذا الفنان وهو يبحث في اليقظة عم تراءى له في الحلم واستثار مخيلته وما أعظم الفرح الذي اجتاحه عندما تلقى هذا الحلم شكله المادي الملموس..) ستانسلافسكي
لا شك أن التمثيل فعل إبداعي يقوم به مبدع وهو الممثل، فالمممثل فاعل لهذا الفعل الإبداعي شأنه في ذلك شأن الشاعر والمؤلف الموسيقي والفنان التشكيلي وغيرهم من المبدعين، هناك إذن (فاعل) وهو الممثل المبدع و(فعل) وهو فعل الإبداع التمثيلي نفسه، وهما يستدعيان بالضرورة تصورا ما عن (مفعول به) أو مادة خام للتشكيل الإبداعي.. فما هو هذا (المفعول به)؟ من الواضح أن الشخصية الدرامية تعد (مفعول به) للفعل التمثيلي، ولكن هل هي وحدها؟ أم أن هناك آخر لا يقل عني أهمية؟ قلنا في العدد السابق كيف يريد الممثل أن يصبح هو نفسه بجسده ومشاعره وكامل كيانه مادة قابلة للتشكيل الفني والإبداعي.. فوضى تخضع للنظام، وهو بهذا المعنى (مفعول به) ثانٍ للفعل التمثيلي، إذن هناك مفعولان به وليس مفعولا واحدا، الأول هو الشخصية الدرامية، والثاني هو الممثل نفسه، بحيث يمكن تفسير الفعل التمثيلي بأن تلك الحركة الجدلية التي تهدف في النهاية إلى توحيد هذين المفعولين في مركب جديد يجمع بينهما معا. إذن الممثل (فاعل) و(مفعول به) في الوقت نفسه، مبدع وخامة للإبداع في الوقت نفسه.. وهو ما يجعله في موقف فريد ومتفرد بحق. ففي جميع أشكال الإبداع الفني تقريبا نجد المبدع يتعامل مع مادة خام كاللغة أو الأصوات أو الألوان والخطوط وغيرها، وهي جميعا ذات صفة أو طبيعة موضوعية بالنسبة إلى المبدع، أما الممثل فخامته هي جسده وصوته وجهازه الانفعالي، ولذا تفتقد هذه الصفة.
إن هذا الموقف الفريد، يفسر لنا حاجة الممثل الدائمة إلى من يراه ويحكم على عمله، فهو رغم أنه مبدع لا شك في ذلك، فإنه لا يستطيع أن ينفصل عن مادته الإبداعية الخام.. وكيف يأتي له هذا وهي/ هو نفسه.. هو لا يستطيع أن يقوم بتلك الحركة المعروفة للرسام، خطوة أو خطوتين إلى الخلف ليتأمل ما فعل، هو إذن يحتاج إلى آخر ليقوم بهذه الحركة نيابة عنه، وهذا الآخر هو من يسمى بالمخرج.. فمن المعروف تاريخيا أن الممثل قد اخترع المخرج لحاجته إليه (لا ينفي هذا قدرة بعض الممثلين العباقرة على التمثيل والإخراج في الوقت نفسه، وهي حالات نادرة يمكن اعتبارها الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
إن عدم الوعي بهذا الموقف المتفرد للممثل كمبدع ومادة إبداعية خام في الوقت نفسه كان، ولزمن طويل، مسئولا عن ذلك الاتهام المتهافت الذي كثيرا ما صفع به وجه الممثل.. أنت مجرد ناقل أو وسيط ولا حق لك في أن تعترض أو تبدي رأيا، فقط نفذ ما يطلب منك.. هو فقط مادة للتشكيل الإبداعي لا من قبله هو نفسه بل من قبل آخر وهو المخرج.. لقد أثبتت بحوث سيكولوجيا الإبداع التمثيلي الدور الإبداعي للممثل بما لا يدع مجالا للشك. يفرض هذا الموقف المتفرد على الممثل، أنه لا يستطيع أن يبدأ إبداعه بنفسه، شأن غيره من المبدعين، لا يستطيع أن يبادر لإثبات قدراته الإبداعية، هو دائما ينتظر دور يعرض عليه.. ينتظر (الفرصة) التي قد تأتي وقد لا تأتي، ولعل هذا أحد مآسي هذه المهنة. ومن ناحية أخرى، فإن هذا (الدور) يعرض عليه في الغالب كمادة إبداعية أولا وكمبدع ربما.. فمواصفات الممثل كمادة (جسمه، وشكله، وصوته، وقدراته الانفعالية) تحدد بشكل متعسف ما يعرض عليه من (أدوار)، ولذا فمادته هذه تحدده وتحكمه رغما عنه، وما أسهل أن يوضع في قالب أو نمط محدد (وهو يحدث غالبا نتيجة استسهال المخرجين وفقر خيالهم) فيصبح الممثل أسير نمط مفروض عليه، وقد يقضي حياته يحاول الخروج منه دون جدوى.. (سنتناول بالتأمل في العدد القادم مدى موضوعية حدود الممثل في أدائه لأي دور، وهل يستطيع الممثل بالفعل أداء جميع الأدوار أم أن هناك حدودا تفرض عليه رغما عنه لا من قبل المخرجين فحسب، بل بطبيعة تكوينه هو نفسه كمادة إبداعية). سنتحدث فيما يلي إذن عن الممثل كفاعل مبدع للعملية الإبداعية التمثيلية بمراحلها المختلفة، وهو هنا مبدع بكامل صفات وسمات المبدع كما حددها جيلفورد C. Guilford p باستخدام أسلوب التحليل العاملي، ثم نتحدث عنه كمادة إبداعية خام تتحدد قيمتها بقابليتها للتشكيل الإبداعي. لقد تطورت بحوث ودراسات علم نفس الإبداع تطورا كبيرا على مدى الخمسين عاما الماضية، وكانت الأسئلة المثارة على مستوى التحليل الدينامي لما يسمى بالعملية الإبداعية Creative processهل هناك نمط منتظم يتردد في عملية الإبداع؟.. وهل هناك مراحل محددة تتمرحل خلالها هذه العملية؟ وما هي تلك المراحل؟ وهل هي المراحل نفسها في الميادين المختلفة للعمل الإبداعي كالشعر والتمثيل والموسيقى وغيرها. هذه بعض التساؤلات التي شغلت بالفعل أذهان المشتغلين بدراسات الإبداع على مدى سنوات، واستطاعوا بجهدهم العملي المنظم أن ينجحوا بالفعل في وضع إجابات حاسمة على الكثير منها. يعد تصور G. Wallas (جراهام والاس) عن مراحل العملية الإبداعية أحد التصورات الكلاسيكية التي ما زالت لها اعتبارها، كتصور مبدئي، حتى الآن، وقد حدد والاس مراحل العملية الإبداعية بشكل عام في أربع مراحل على النحو التالي: 1 - مرحلة الإعداد Preparation. 2 - مرحلة الاختزان incubation. 3 - مرحلة الإلهام illumination. 4 - مرحلة التحقق والتصحيح verification and revision. ومن الأهمية أن نلاحظ أن تصور مراحل للعملية الإبداعية عامة هو فصل متعسف بهدف التحليل والدراسة، فالعملية الإبداعية عملية ديناميكية كلية تتداخل فيها المراحل بشدة بحيث يصبح الفصل بينها أيا كان فصلا تعسفيا، ولكن ما باليد حيلة فالتحليل بطبيعته متعسف كما قلنا من قبل يجتزئ النظر ويحدده.. إننا على الأقل نستطيع أن نكون على وعي دائم بهذا التعسف، على وعي دائم بتداخل هذه المراحل وتشابكها. كذلك من الأهمية أن نلاحظ أن هذه المراحل أساسية، وقد يضاف إليها مراحل أخرى فرعية، خاصة بطبيعة الإبداع في فن من الفنون غير أنه من الواضح حتى الآن أن أي عمل إبداعي لا يخلو من تلك المراحل الأساسية. إن الوعي بهذه المراحل يعد في تصوري مهما للمبدع عامة وللممثل هنا خاصة، فهذا الوعي من شأنه أن يساعد الممثل في ضبط وتنظيم طاقته الإبداعية، كما أن وعيه بأنه في مرحلة ما من هذه المراحل يجعله أكثر قدرة على تحقيق كل إيجابيات المرحلة.
مراحل العملية الإبداعية التمثيلية... الممثل كمبدع
للممثل بالطبع الحق في رفض أداء أو تمثيل (دور) ما، هذا إذا لم يضطر إلى قبوله أصلا وفي أي حال، فبمجرد قبوله الإرادي الحر لأداء (دور) يبدأ دوره كمبدع، فأول شروط الإبداع هو الاختيار الإرادي الحر، وبعده تبدأ العملية الإبداعية. القاعدة الأساسية هنا هي أن الإبداع التمثيلي مجال لا يوجد فيه تمثيل (صحيح) واحد لدور من الأدوار بل هناك فقط تمثيل أفضل من الآخر لدور من الأدوار، ولا يمكن تصور حد حاسم نهائي لهذه الأفضلية، فدائما هناك تصور لأفضل يمكن أن يوجد.
مرحلة الإعداد Preparation
يبدو أن البداية هناك في العقل.. يبدأ الممثل إبداعه بقراءة (الدور) وهو التحقق الفعلي المبدئي للشخصية الدرامية، ولكن ماذا تعني قراءة الممثل لدوره؟ إنها تعني تكوين ما سماه ناتادزي الإطار العقلي (ناتادزي هذا هو عالم نفس روسي شهير اهتم بظاهرة الممثل وله دراسة رائدة في هذا المجال، ويعد صاحب أول محاولة لتصميم مقياس نفسي لقياس الاستعداد الإبداعي للممثل بشكل علمي). ولكن ماذا يعني هذا الإطار العقلي بالضبط؟ هو يعني مجموعة من التصورات المنطقية والمرتبطة بأفعال الشخصية الدراسية ودوافعها، ومبررات وأسس هذه الدوافع، إن الشخصية الدرامية تتحقق مبدئيا فيما يسمى بالدور، وهو عبارة عن سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تمتلئ بالثغرات وتثير تساؤلات عن الدوافع وغيرها، ولذا يحتاج الممثل إلى إطار عقلي ينظمها ويسد ثغراتها ويجيب على التساؤلات المثارة، هو بمعنى ما نسق آخر صغير يرتبط حتما بالنسق الدرامي الأكبر الذي يضم كل الشخصيات، هو إذن بناء من الفروض الذهنية عن الشخصية الدرامية يتسم بالمنطقية والاتساق، وبالتالي بالمصداقية المترتبة على الاقتناع، إن أكثر ما يزعج الممثل هنا هو عدم نجاحه في تكوين هذا الإطار نتيجة ضعف بناء الشخصية أو عدم اتساق أفعالها أو تناقضها، وبالتالي تصبح غير مقنعة وغير مصدقة بالنسبة له.. هو يريد أن يفهم ويقتنع لكي يصدق، والصدق بهذا المعنى شيء بالغ الأهمية بالنسبة للممثل، فدونه لا يستطيع أن يستمر في طريق الإبداع بشكل حقيقي وتتعثر خطواته التالية وتتسم بالافتعال، إن أهمية الإطار العقلي إذن تكمن في أنه يقدم للممثل إمكانية التصديق القائمة على الإقناع العقلي.. في هذه المرحلة يأخذ الممثل ملاحظاته عن الشخصية ويدير الحوار مع المخرج وغيره، ويناقش ويتكلم ويجمع الشواهد ويسجلها، وربما احتاج إلى قراءة بعض الكتب أو الدراسات النفسية أو التاريخية أو مشاهدة ودراسة نماذج من الواقع الفعلي.. حتى ينجح أخيرا في تكوين إطاره العقلي.
مرحلة الاختزان incubation
(للكلمة الإنجليزية هنا معنى خاص يجدر الإشارة إليه، فهي تعني حرفيا التفريخ أو التفقيس أو حضن البيض للفقس). في هذه المرحلة يتحول هذا الإطار العقلي إلى تيار من التفكير الداخلي ذي نبرة وجدانية واضحة تماثل تلك النبرة الوجدانية التي تسيطر على الشخصية الدرامية، هنا يأتي دور الخيال، والخيال هو المجسد الذهني للإطار العقلي، ولعل في هذا الخيال، أو بمعنى أدق هذا النوع الخاص من الخيال، القادر على إثارة تيار من الشعور، تكمن موهبة الممثل الخاصة، فالممثل هو ذلك الإنسان الذي يستطيع عن طريق خياله إثارة استجابة شعورية وحسية لا تثار بالنسبة لإنسان عادي إلا عن طريق موقف فعلي أو حقيقي. هنا يغوص الإطار العقلي داخل لاشعور الممثل ويتم تصحيحه وتعديله باستخدام إيحاءات الخيال، فالعملية الإبداعية تتخذ دائما شكل الخطوات التي تراجع وتصحح دائما بالعودة إلى ما سبق وتعديله في ضوء ما تم الوصول إليه. عن طريق الخيال يتحول الإطار العقلي إلى صور ذهنية عن الشخصية تأتي غالبا على شكل شذرات متفرقة تتسم بالضبابية والغموض أحيانا والوضوح والتحديد أحيانا أخرى (شكل الشخصية، مظهرها، حركاتها وسائلها في التعبير عن مشاعرها.. إلخ) هذه الأخيلة تثير لدى الممثل تيارا من التأمل الداخلي أو التفكير غير الواعي، ذا نبرة انفعالية ووجدانية واضحة، يبدأ الممثل هنا التعاطف مع الشخصية، مهما كانت غريبة أو مرفوضة، يبدأ في حبها والإحساس بها، ولكنه ما زال لا يستطيع القبض عليها كاملة، هو يحاول جاهدا أن يراها كاملة أمامه وأن يرى نفسه فيها ويعاني لذلك من أقصى درجات القلق والتوتر، وتؤدي به فوضى الانفعالات وغموض خيالاته إلى الشعور بعدم الاستقرار.. هو يبحث عن الاكتمال، عن تلك الومضة الغريبة، عن الإلهام وهو لا يأتي في الغالب بإرادته وإنما على حين فجأة.
مرحلة الإلهام illumination
يتحدث كثير من الممثلين عن الطبيعة المباغتة للإلهام، فهنا وفجأة تصل العملية الإبداعية إلى قمتها وتشرق الشخصية ويكتمل الإحساس بها، في تلك اللحظة تنتظم جميع الأمور تقريبا في مواقعها الصحيحة، والحق أن تفسير الإبداع بالإلهام فقط من أقدم التفسيرات النفسية على الإطلاق، وقد تم إضفاء لمحة من الغموض والسحر عليه مما أوقع المفكرين ولفترات طويلة في كثير من الحرج والارتباك، وحاول البعض التهوين من شأن الكثير من الجوانب الأخرى للعمل الإبداعي طالما أن عملية الإلهام تحدث بذلك الشكل القدري، وكان الإلهام بشكل عام يعني قوة لاشعورية تلقائية تسود لدى بعض الأشخاص في حالات غريبة تجعلهم قادرين على الإبداع والخلق الفني، إلا أن التفسير العلمي الحديث للإلهام، إذا شئنا أن نبقي على هذا المفهوم رغم ما يثيره من لبس، يرى أنه سلوك إنساني شأنه شأن أي سلوك إنساني آخر له شروط تحدده، وهو بالتحديد عملية عقلية تحدث على نحو مفاجئ تنتظم من خلالها مجموعة من العناصر المشتتة في سياق جديد له معناه، وهو وفق هذا التفسير العلمي، لا يمكن أن يحدث دون وجود عناصر أو مراحل أخرى للعملية الإبداعية.
مرحلة التحقق والتصحيح verification and revision
هنا يبدأ الممثل تمثيله بالفعل، ويأخذ حلمه الشكل المادي الملموس، كما يقول ستانسلافسكي، وتدخل العملية الإبداعي مرحلتها الأخيرة، لقد أمكن هنا وضع المادة الخام في صياغة محددة المعالم إلى حد كبير على المستوى المتعين، لقد سقطت جميع الحواجز وها هي الشخصية بداخلها مكتملة لقد أصبح هو/ هي بالفعل، هنا يجد الممثل متعة الإبداع وفرحته، إلا أن هذا الاكتمال يظل عرضة لبعض التعديلات الجزئية البسيطة، وذلك بعملية التصحيح التي يقوم بها الممثل نتيجة رد الفعل المبدئي من المشاهد.
تلك هي مراحل العملية الإبداعية في تصور والاس تطبيقا على الإبداع التمثيلي، إلا أن هناك أسلوبا آخر في تحليل العملية الإبداعية، وهو الأسلوب الذي ينظر إلى الإبداع بصفته مجموعة من السمات أو العوامل التي تميز الشخص المبدع، ويعد سلوكه هذه السمات أو العوامل التي تميز الشخص المبدع، ويسمى الشخص مبدعا إذا ظهرت في سلوكه هذه السمات أو العوامل، ويعد جيلفورد العالم الأمريكي أول من بدأ البحث عن العوامل الرئيسية للإبداع باستخدام أسلوب التحليل العامليfactor analysis.
هناك إذن قدرات أو سمات للممثل كمبدع وهي سمات مشتركة بالفعل وجد أنها سائدة بين الممثلين المبدعين، وهي تقريبا سمات المبدع نفسها بشكل عام مع الاختلاف في بعض التفاصيل التي تفرضها طبيعة العملية الإبداعية التمثيلية.
تدقق الأفكار Fluency
ويقصد بها هنا القدرة على إنتاج أكبر قدر ممكن من الأفكار ذات الطبيعة الدرامية، والقادرة على إثارة نبرة وجدانية واضحة، فالممثل المبدع هو شخص متفوق من حيث كمية الأفكار ذات الصد الوجداني التي يقترحها عن شخصية درامية معينة في وحدة زمنية ثابتة بالمقارنة بغيره، أي أنه على درجة مرتفعة من التدفق الفكري ذي الطبيعة الدرامية المثيرة لتيار وجداني، ولا شك أن هناك علاقة واضحة بين هذه القدرة وما تحدثنا عنه سابقا تحت اسم الإطار العقلي.
المرونة flexibility
ويقصد بها عامة القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغير الموقف، أي أنها عكس ما يسمى بالتصلب الفكري وهو تبني الممثل لأنماط فكرية محددة يواجه بها جميع المواقف الفعلية المختلفة والمتنوعة، فهي تعني إذن القدرة على مواجهة المواقف المتغيرة والمختلفة بحالات عقلية جديدة ومناسبة لهذه المواقف. إن الممثل المبدع على درجة مرتفعة من المرونة الذهنية والقدرة على تغيير الاتجاه العقلي بما يلائم اختلاف المواقف الفعلية، فهو قادر على فهم وتبني وجهات نظر الشخصيات الدرامية المختلفة، حتى وإن تعارضت تماما مع وجهة نظره هو، وهو ما يعني ضمنا القدرة على استبعاد الأحكام الأخلاقية والقيمية.
الابتكار originality
وهي تعني عدم المسايرة الفكرية بتكرار أفكار المحيطين والقدرة على توليد الأفكار والحلول الجديدة، فالممثل المبدع قادر بالضرورة على الابتكار، فهو لا يخضع للأفكار والحلول الشائعة والتقليدية وينفر منها، ويبحث عما هو أصيل وجديد ومبتكر، وتختلف هذه القدرة عن قدرة تدفق الأفكار من حيث إن هذه الأخيرة تتعلق بكمية الأفكار، أما الابتكار فيتعلق بقيمة تلك الأفكار من حيث الجدة، وتختلف عن قدرة المرونة التي تشير إلى النفور من تكرار الممثل لأفكاره وحلوله هو، أما الابتكار فيتعلق بالنفور من تكرار أفكار وحلول الآخرين.
إن عدم وجود هذه القدرات، أو عدم استخدامها إن وجدت، يؤدي إلى ما يسمى بالتصلب أو التحجر التمثيلي، فنجد الأفكار نفسها والحلول نفسها وأنماط وأشكال الأداء نفسها، مهما اختلفت الشخصيات الدرامية وتنوعت (وسنعود إلى هذه الفكرة في عدد قادم عند تأمل واقع التمثيل في مصر).
الحساسية للمشكلات Sensitivity to problems
وهي تعني الحساسية المرهفة في إدراك الثغرات ونواحي القصور والغموض في المجال الخاص بالمبدع. ولدى الممثل تعني القدرة على إدراك نواحي الضعف والقصور وأماكن الثغرات في الشخصية الدرامية، وكذلك المشكلات الدقيقة التي تثيرها على مستوى التمثيل، وهو إذن يستطيع أن يرى ما لا يراه غيره من مشكلات تكمن في الموقف الخاص بكل شخصية درامية حين يحاول تمثيلها.
مواصلة الاتجاه Maintaining of direction
لعل هذه من أهم القدرات الخاصة بالممثل وألزمها له، وهي القدرة على التركيز والاحتفاظ بالانتباه لفترات طويلة ولمدى بعيد رغم أي عوامل مشتتة أو معوقة قد تثيرها المواقف الخارجية، ويبدو أن الممثل المبدع يستطيع مواصلة الاتجاه والتركيز على مستويات متعددة، وفي الوقت نفسه: جسمه وطاقته الفيزيقية والحركية، وكذلك حالته الوجدانية والانفعالية، وأخيرا صوره الذهنية والخيالية ومواصلة توليدها وتنميتها.
تلك هي أهم القدرات أو العوامل التي تم رصدها كقدرات مميزة للممثل المبدع، وهي في مجملها القدرات نفسها التي تميز سائر المبدعين، ولكل قدرة من هذه القدرات مقاييس نفسية تساعد على رصدها واكتشافها وتحديد مدى أو درجة تحققها، بحيث يمكن تنمية المهمل منها وتنشيطه عن طريق التدريبات الخاصة بها في ما يعرف باستوديوهات الممثل.
الممثل كمادة خام
تتحدد قيمة المادة الإبداعية بمدى مرونتها وقابليتها للتشكيل الإبداعي، وإذا كانت مادة الممثل الإبداعية هي جسمه وصوته وجهازه الانفعالي، فهو ولا شك يحتاج إلى تنمية هذه المادة إلى أقصى طاقة لها على الاستجابة والمرونة من ناحية، كما يحتاج أيضا إلى تنمية سيطرته الكاملة عليها ومعرفة أسرارها وأساليب قيادتها من ناحية أخرى، ولقد تقدم علم تدريب الممثل، كمبدع وكمادة إبداعية، في السنوات الأخيرة، تقدما كبيرا وأصبح له أساليبه ومناهجه العلمية والتربوية المعترف بها.
سبق وأن نشرت هذه الدراسة في مجلة الفن السابع في منتصف التسعينات