العدد 891 صدر بتاريخ 23سبتمبر2024
من أهم مزايا المهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي أحرص على متابعته منذ أكثر من ربع قرن، هو إتاحة الفرصة لمشاهدة عروض مسرحية عربية وأجنبية يأتي بها إلينا لنتعرف من خلالها على عادات وتقاليد الشعوب وبعض الممارسات الشعبية، كذلك تقنيات المسرح المختلفة وكيفية توظيفها من دولة إلى أخرى ومن مخرج إلى آخر، فضلاً عن الاستمتاع بفعل مشاهدة المسرح بمختلف توجهاته ومدارسه.
بعض العروض المشاركة في الدورة (31) للمهرجان الدولي للمسرح التجريبي التي انتهت منذ أيام تناولت القضايا نفسها منها عروض: “زغرودة الذي شاركت به دولة الإمارات، بوتكس الذي شاركت به دولة الأردن، قرط” الذي شاركت به دولة تونس تناولت “مشكلات الحياة الزوجية” والتي تختلف من أسرة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر.
زغرودة لم تبهرني الفكرة بقدر ما أبهرني كيفية تناولها، فالفكرة قديمة وسبق وقدمت في أكثر من عمل فني لعل أشهر هذه الأعمال فيلم “النوم في العسل”، وهي العجز الجنسي الذي يصيب الأزواج، فهذه القضية تعد من القضايا المسكوت عنها خاصة في الأسر والمجتمعات المحافظة، لذا فقد أصابت طريقة التناول أكثر من هدف، فلم يتم التصريح بلفظ واحد يشرح ماهية المشكلة باعتبار أن ذلك يدخل ضمن قائمة الموضوعات التي لا يجوز التصريح بها، فكانت الزعرودة هي طريقة التعبير عن المشكلة، إلى هنا لابد من وقفة وطرح تساؤل لماذا لم يكن العرض صامت يعتمد على الأداء الحركي أو المايم؟ ربما كانت الإجابة جدة الفكرة فاعتقد هي المرة الأولى التي يتم الاعتماد فيها على الزغرودة كلغة للتعبير، وبالفعل اللجوء إلى هذه التقنية الجديدة صرفنا عن الحديث عما هو الجديد الذي يقدمه العرض، فقد تم عرض المشكلة التي انتشرت بين جميع الأسر في العرض سواء كانوا أقارب أو مجرد جيران، كما ظهر أيضَا استغلال هذه القضية لترويج الدجل والنصب من قبل ممن يدعون أن لديهم الحل.
المدهش بالفعل هو القدرة على تقديم “كراكتارات” مختلفة والتمييز بينها ومعرفة الروابط التي تربطهم، بل وتمييز الحوار، فقد عبرت هذه الزغرودة عن كل الحالات الإنسانية من: فرح، حزن، غضب، شجار، خذلان......الخ من دون الحاجة إلى من يفك طلاسم العرض، ربما ظهر بعض الغموض في التفاصيل وليس القضية وقد يرجع ذلك إلى اختلاف العادات والتقاليد والأعراف بين البلدان العربية.
هي فكرة وصفها المؤلف في “بانفليت العرض” بالمجنونة، وقال عنها المخرج بأنها كانت تحد كبير بالنسبة له.
العرض هو مشاركة دولة الإمارات، تأليف علي جمال، إخراج عبد الرحمن الملا، بطولة مجموعة متميزة من الممثلين الإماراتيين الذين نجحوا بتفوق في كيفية استخدام وتوظيف الزغرودة بديلاً عن الكلام بحرفية عالية، بل وتوصيل كل ما أرادوا التعبير عنه بوضوح للمتلقي من خلال إيقاع هذه الزغرودة.
العرض الثاني هو “بوتكس” وهو مشاركة دولة الأردن في المهرجان، وفيه تلعب الفنانة أسماء مصطفى عدة أدوار فالعرض إعدادها عن نصها “هوى شرقي” ونص “صدى” لعبد المنعم عمايري، وإخراجها وبطولتها أيضًا مع الفنان هشام سويدان.
العرض يتناول مشاكل الفنانين مع الحياة وتأثيرها على حياتهم الزوجية، فالزوج دائم البحث عن لون مفقود لإكمال لوحته، كما يعاني من افتقاد الموديل الذي يجعل لوحاته مطلوبة من قبل هواة اقتناء البورتريه، وهو ما يجعله معظم الوقت يلجأ إلى الخمر ليهرب من الواقع المؤلم خاصة مع مسئوليات البيت الذي لم يعد يقدر عليها، بينما تعاني الزوجة من الشعور بأن زوجها لم يعد يحبها وتفتش في أوراقه ولوحاته لتعرف من هي التي يحبها، وتتصاعد الفجوة بينهما إلى أن تحدث المواجهة التي تقرر الزوجة بعدها الخروج من حياته ومنزله وصفع الباب خلفها كما صفعته نورا في بيت الدمية، ولم تكن الصفعة هي الرابط الوحيد بين هذا العرض وبيت الدمية، بل أن إحدى الرقصات التعبيرية التي اشتركا فيها كانت متمثلة في تحريك الزوج للزوجة من خلال خيوط وهمية تشير لكونها دمية يحركها كما يشاء، وعلى الرغم من هذا التشابه إلا أن القضية لم تكن واحدة بل القضية هنا افتقاد لغة الحوار والتفاهم لاعتقاد كلا منهما تغير مشاعر الآخر بعد أن امتلكه.
وعلى الرغم من مأساوية الحدث والتي تم التعبير عنها بعدة وسائل منها الإضاءة التي عبرت بوضوح عن حالة الاختناق التي يشعر بها كلا منهما، كذلك البراويز الفارغة، وصندوق الذكريات التي يبحثون فيه عن حياتهما المفتقدة، إلا أن به حالة من البهجة والشجن التي يعيشها المتلقي خلال زمن العرض حيث الاستماع إلى مقاطع موسيقية لأغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، كذلك الاستعراضات والرقصات والتعبير الجسدي المميز للممثلين خاصة أسماء التي اتسمت بالمرونة والقدرة الفائقة على التعبير بالجسد والوجه عن الحالة النفسية السيئة التي تمر بها الزوجة، اعتمد العرض على الرمزية بأكثر من وسيلة لعل أكثرها وضوحًا اسمه “بوتكس” أو الحب في زمن البوتكس وهو العنوان الفرعي، حيث تحول الحب إلى مصنوع وليس حقيقيًا كتغير الملامح بعد حقنها بالبوتكس.
العرض الثالث هو “قرط” الذي تشارك به تونس في المهرجان وهو يتناول مواجهة عنيفة بين زوجين ذهبا إلى إحدى الحانات مع زوجين أخران تربط بينهما علاقة صداقة، وأثناء هذه السهرة التي كان من المفترض أن تكون سعيدة ومتميزة بالموسيقى والرقص وتناول الطعام والشراب، تفاجئ الزوجة زوجها برغبتها في السفر إلى إحدى الدول الأوربية لضمان حياة أفضل، ويرفض الزوج تحقيق رغبتها ويعلن تمسكه بالعيش في الوطن، فتبدأ في سرد مشكلاتها ومعاناتها مع العيش في الوطن ويقضيان الليلة في مواجهات واتهامات تنتهي بانفصالهما، لم يكن الحوار هو اللغة الوحيدة التي استخدمت في هذه المواجهة، لكن تميز العرض باستخدام لغة التعبير الجسدي والرقص والموسيقى المعبرة والإضاءة الخافتة التي أظهرت أبطال العرض في معظم الأوقات وكأنهم مجرد ظلال، كذلك الديكور المستخدم وهو عبارة عن منضدة طويلة ينتهي طرفيها بمقعدين يجلسان عليهما الزوجان، في دلالة واضحة تمامًا على الفجوة والتناقضات التي بينهما، العرض تأليف وإخراج محمد بوسعيدي، تمثيل: عبد السلام مجدوب، خليل بن حريز، هاجر الحاج قاسم، أماني بن فرج وأمان الله الرياحي.
في النهاية فالعروض الثلاثة لم تتفق في قضية المشكلات الأسرية- بغض النظر عن اختلاف طبيعة هذه المشكلات من أسرة إلى أخرى- فحسب وإنما اتفقت إلى حد كبير في كيفية التناول، حيث اعتمدت العروض الثلاث على الرمزية في استخدام الديكور، كذلك الكريوجراف والرقص اللذان يمثلان عنصران جوهريان في العروض الثلاثة، تنتهي كل العروض بانفصال الأزواج فيما عدا عرض زغرودة الذي ينتهي بحل أزمة العروسان الذي بدأ بها.