العدد 873 صدر بتاريخ 20مايو2024
ظل الريحاني متردداً بين تمثيل الكوميديا الجادة الخالية من الاستعراضات الغنائية، والرقصات الأجنبية، مثل مسرحية «الجنيه المصري»، وبين تمثيل العروض الكوميدية المعتمدة على شهرة شخصية «كشكش بك»، بما فيها من مواقف مضحكة مبنية على سوء التفاهم بكل ما فيها من أغانٍ وراقصات أجنبيات مثل مسرحية «المحفظة يا مدام»!! وعلى الرغم من أن الواقع الجماهيري أثبت للريحاني أن عروضه «الكشكشوية» هي الناجحة والضامنة للإقبال الجماهيري .. إلا أن الريحاني كان من حين لآخر يحاول إثبات العكس أو التخلص من شخصية كشكش بك ومن عروضه الاستعراضية!! لذلك عاد بعد نجاح عرض «المحفظة يا مدام»، إلى عرض مسرحيته الجديدة «أولاد الحلال»، التي شاهدها «عزيز أحمد فهمي» الناقد الفني لمجلة «الكشكول» وكتب عنها مقالة في مارس 1932، قال فيها:
لست أرى في مسرح الريحاني إلا ما رآه «دني دينيس» فيه إذ قال عنه «إنه مدرسة شعبية مصرية فكهة الروح تعرض على جمهورها ألواناً من الدراسات الفنية في أسلوب فكه جميل ظريف وفي جو ضاحك مشرق بديع، فهي في الحق المدرسة التمثيلية المصرية الصادقة التي تؤدي رسالتها الفنية في شيء كثير من التدقيق والأمانة والإخلاص، بحيث لا تفوت الغرض الرئيسي الذي ترمي إليه تلك الرسالة، وبحيث لا تغفل عن فكرة قومية أو أهلية أو اجتماعية تبثها في ثنايا سياقها فتلمس نفس الجمهور في رفق ويكون لها فيما بعد أثرها الإصلاحي المبارك ينتج أحسن النتائج ويثمر أطيب الثمر» .. لست أرى في مسرح الريحاني إلا هذا الرأي، ولا أحسب الريحاني نفسه إلا صاحب مدرسة فنية لا تقل شأناً عن أي مدرسة فنية أخرى، سواء كانت مدرسة دراما أو مدرسة تراجيديا، أو ما إلى ذلك من تلك المدارس العابسة التي تريد جمهورها يقطب جبينه ويغير من ملامح وجهه ويمتلئ تشاؤماً من الحياة وسوء ظن فيها!! لذلك اغتبطت اغتباطاً شديداً إذ علمت أن الريحاني سيخرج رواية جديدة هي «أولاد الحلال» .. وأخذت انتظر بفارغ الصبر ليلة الخميس إذ ترفع عنها الستار للمرة الأولى .. قضيتها ليلة من أمتع الليالي الفنية، كونها قصة مصرية جمعت كثيراً من نواحي حياتنا الاجتماعية في كثير من المواقف الفكهة الظريفة التي لا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه من الضحك.
بعد هذه المقدمة، بدأ الناقد يروي قصة العرض، قائلاً: نجاتي أفندي شاب غني لم يوفق في دراسة الطب فهجر العلم والدرس واندفع مع صديق له طيب القلب في طريق الغواية، فكثرت عليه الديون وجاءه الدائنون يطلبون إليه سداد ديونه فيقابلهم عمه الذي أقبل عليه ليعرض أمر زواجه من فتاة ثرية، ويتساءل عمه عن أولئك الناس فيزعم صديق نجاتي أن نجاتي طبيب مختص بالأمراض العقلية وأن هؤلاء جميعاً مرضى بعقولهم، وتنشأ حلقات من سوء التفاهم ومواقف دقيقة فيها الحيرة والورطة وينتهي الأمر بأن يتزوج نجاتي، ثم بأن تغضب منه زوجه، ثم بأن يتم الصلح بينهما، ثم يتزوج عم نجاتي من أم عروس ابن أخيه فيباركهم بعد ذلك، الصديق الطيب كريم النفس ويقول لهم وهو يذكر وحدته «يا أولاد الـ ...» وهنا يمسك عن الكلام كأنه كان يريد أن يقول شيئاً لا يليق، إذا نظروا إليه جميعاً ابتسم واستدرك الأمر فقال: «يا أولاد الحلال».
ويحلل الناقد العرض قائلاً: هذا ملخص مقتضب لقصة «أولاد الحلال» تلك القصة التي بذل في وضعها الريحاني وبديع خيري جهداً فنياً طيباً يتعذر على غيرهما أن يبذل شيئاً منه وأن يوفق إلى بعض ما وفقا فيه! والواقع إن كان في مصر بعض من الكُتّاب التمثيليين الذين يصح أن يعملوا لمسرح الدراما، فينالوا في تغذيته نجاحاً نسبياً مشرفاً، فإن المسرح الفودفيلي الفني المصري القومي فقير كل الفقر من الأيدي المصرية التي تغذيه وتتعده بالنماء. لذلك لا نستطيع إلا أن نعجب بمجهود هذين المؤلفين الريحاني وخيري، ولذلك لا نستطيع إلا أن نعرض عما يقال عنهما من أنهما يعمدان في عملهما الفني إلى الاقتباس والتمصير، ونحن لا نرى ثمة غضاضة في أن يقتبس الريحاني لمسرحه الفودفيلي. على أن الريحاني في مسرحه مطبوع على أن يمد قصصه بالروح المصري القومي البحت، وأن يسكن جو مسرحه شخصية الحياة المصرية القومية البحتة بكل ما فيها من شئون وبكل ما فيها من دقة وغرابة، وحسب هذه الغاية وحدها ميزة كبرى تشرف مسرح الريحاني وتدعه يجمع بين أمرين غاية في الأهمية الفنية وهما أن يكون مسرحه مسرحاً فودفيلياً مستكملاً لشروط المسرح الفودفيلي الراقي، وأن يكون بجانب ذلك مسرحاً مصرياً قومياً مستوفياً لسائر نواحي المسرح القومي الناهض. تلك كلمة رأينا أن لا سبيل إلى إغفالها إذ أخذنا نكتب عن هذه القصة الفكهة الظريفة الموفقة من ناحيتها التأليفية، ونحن نكتفي بهذه الكلمة الموجزة ولو أنها لا تفي بذلك الموضوع وربما أفردنا للبحث فيه فصلاً مستقلاً، وربما كان ذلك قريباً.
بعد ذلك تناول الناقد شخصيات العرض، قائلاً: إذا استعرضت شخصيات هذه القصة تستطيع أن تلحظ فيها شيئاً خفياً ذلك هو تعمق المؤلفين في درس النفسية المصرية وملابسة الشخصية القومية التي تعيش معنا في البيت والشارع وكل مكان. وأي شخصيات تلك التي اتخذها الريحاني ليبني عليها أركان قصته؟ لقد اتخذ الريحاني في هذه القصة شخصيات غريبة فيها شذوذ وفيها تطرف، غير أنها ليست خيالية وليست دخيلة علينا بحال! فنجاتي بك طالب متهوس لم يوفق في الدراسة فانصرف عنها إلى حياة العبث واللهو، وصديقه «قراقيش» أفندي رجل طيب نرى أمثاله متصلين بأبناء الذوات، والمقدس «فلتس» رجل قبطي متدين يعمل في التجارة ويسعى لجمع المال، و«شطنوف» بك عم نجاتي رجل ثري ولكنه أبله متقدم في السن غير أنه من أبناء الهوى، ذو مقام محترم ولكنه يميل إلى العبث والمجون! تلك أهم الشخصيات التي تحمل قصة «أولاد الحلال» وهي شخصيات ظاهرة الظرف، ولست في حاجة إلى عناء لتلمس فيها شذوذها وفي بنائها فنها، ولنأمل لها التوفيق المرضي.
ويعود الناقد إلى تحليله للعرض قائلاً: وتقع القصة في ثلاثة فصول، يبتدئ في الفصل الأول التمهيد للورطة الفودفيلية! فنجاتي بك مدين، والدائنون كثيرون، منهم صاحبة البيت وهي امرأة مشاغبة من «الفتوات» ومنهم «المقدس فلتس» ذلك القبطي المتدين الدنيوي .. وقد جاء «شطنوف» بك عم نجاتي، وقد دهش لتلك المظاهرة غير أن «قراقيش» أفندي يخبره بأن أولئك جميعاً مجانين، وأن نجاتي طبيب يعالج المصابين بالأمراض العقلية .. وهذا الاستهلال الفكه الطريف يمهد للعقدة الفنية التي تستقر في جوف الفصل الثاني، فقد تزوج نجاتي بك من «غزالات» تلك الفتاة التي خطبها له عمه «شطنوف»! غير أن نجاتي قد كلف امرأة أخرى، وساقت الظروف هذه المرأة إلى منزله، وفي أثناء وجودها معه يحدثها ويبثها آلام حبه، إذا بزوجته «غزالات» تفاجئهما، وإذا بها تغضب، وإذا بسوء التفاهم يملأ فراغ القصة ويتشعب .. فيتناول «البك» الصغير وزوجه وعم «البك» الصغير وأم الزوج .. ويبقى عنصر واحد حائراً بين أولئك جميعاً لا يرى كيف يوفق بينهم ولا يعرف كيف يجمع شملهم. أما تلك الشخصية الحائرة التي أخذت تروح بين أولئك جميعاً وتغدو من غير طائل، وتقبل وتدبر وتضطرب وتقلق، وتعاني وتجهد عبثاً، وتقف موقف «الماكوك» لا يهدأ ولا يستقر .. فهي شخصية ذلك الصديق الطيب «قراقيش» أفندي. وإذا طالعنا الفصل الثالث اشتدت الأزمة ضيقاً .. فالزوج نادم يريد أن يعود لزوجه، و«الزوجة» تتظاهر بأنها لا تريد أن تعود إليه .. والأم بينهما مترددة، والعم بينهما حائر، وصديق الغفلة مضطرب .. ونظل نحن نتبع هذا السياق الطيب الظريف الفكه ونتنقل من أزماته وورطاته بين أزمة وأزمة، وبين ورطة وورطة حتى يسود الصلح فيرجع الزوج إلى زوجه، ويتزوج عم نجاتي من أم غزالات، ويهتف الصديق الذي بقي وحيداً طالباً لهم أجمعين «الفرفشة» وكثرة البنات ووفرة البنين!
ويستكمل الناقد موضوعه، قائلاً: رأيت الآن مبلغ ما وفقت إليه تلك القصة من الناحية التأليفية .. غير أن الورد لا يمكن أن يكون بغير شوك .. فقد فات نجيب الريحاني كما غاب عن صديقه بديع أن يمد لنا في أجل «المقدس فلتس» ذلك القبطي المغفل، وما عهدنا بأمثاله أن يكونوا مغفلين!! وصاحبة البيت تلك المرأة التي لا ينقصها إلا أن تضع فوق رأسها «لاسة» ظريفة، وأن تنتعل «بُلغَة» قاسية وأن تحمل في يدها «شُومَة» لتصبح فتوة من فتوات الحسينية هنا، أو كوم الشقافة في الإسكندرية .. نعم كنا نحب ذلك، وكان البناء الفني يستلزم أن يطول عمر هاتين الشخصيتين حتى نرى ما يقدر لهما من خاتمة .. أو تشك في أنه لو طال بهما العمر وعاشا معنا حتى آخر القصة لامتلأت القصة بالحياة والحركة، ولازدادت حبكة وقوة وانتعاشاً؟ وكذلك أرى أن استهلال الفصل الختامي كان به شيء من الفتور غير اللائق .. على أن هذه المآخذ لا تمس صميم القصة، وحسبها نجاحاً، أنها ابتدأت وانتهت ولم يلمس أحد من جمهور المتفرجين شيئاً من هذه المآخذ. فهي ثانوية جداً غير أن استدراكها كان أجدى وأنتج على أي حال.
ثم انتقل الناقد في مقالته إلى الحديث عن «الإخراج والتمثيل»، فقال: أما الإخراج فكان جميلاً بسيطاً، مع امتلاء هذه القصة بالحركة والنشاط. والعناصر الخافقة فيها .. وليس هذا بكثير على نجيب الريحاني ابن المسرح «قراقيش أفندي»!! وأحسب أن مجرد سماعك لهذا الاسم يملؤك ضحكاً وشوقاً لرؤية صاحبه! فقد كان مثالاً لصديق الغفلة الحائر الذي لا يعرف كيف ينجو من الورطة فإذا أنقذ نفسه منها أوقع غيره فيها. وقد ابتدع لنفسه شخصية غاية في الظرف أمدها بروحه الخفيف الفكه فكان بحق بطل قصة فودفيلية بلغ أقصى ما يمكن أن يبلغ من توفيق .. وها أنا أتخيله وهو «يبلف» عم صديقه، ثم «يدجل» على من بعقولهم لطف وما بغيره من لطف .. ثم وهو يسعى للتوفيق بين أفراد الأسرة المتنافرة، فلا أملك إلا أن أضحك. وها أنا أهنئ الريحاني، أو الصديق قراقيش، بما أصاب من توفيق ونجاح كريمين. أما «عبد اللطيف جمجوم» فقد أنعش دور عم نجاتي بك، وهو رجل غني غير أنه مغفل بعض «التغفيل». كان في تمثيله طبيعياً خفيف الظل، وكان له من صوته وحركاته، وخفة روحه سبباً من أسباب نجاحه. أما «التوني» فقد قام بدور نجاتي بك الشاب العابث المستهتر. وأنا أرى أن التوني لم يفهم هذه الشخصية، أو هو قد فهمها وعجز عن أن يؤديها وأن يؤدي لها حقها .. أو قد فهمها وأداها، وإنما منعه ثقته من النجاح فيها. أما «كيكي» فقد نجحت، وليس النجاح عليها بمستغرب، فهي قد درست المسرح دراسة طويلة، وهي تتعمق أيضاً في دراسة ما يُسند إليها من الأدوار، وأكاد أعتقد أن كيكي لم تخفق في دور مما أسند إليها من الأدوار طول حياتها التمثيلية .. كانت ظريفة، وكنا نحس بالوحشة إذا غابت عنّا. وأما «محمد مصطفى» أو «رودلف جالنطينو» كما يقولون .. فأنا أشهد له بأنه نال حظاً كبيراً من النجاح، وكذلك نجحت «فيكتوريا كوهين» في تأدية دور أم غزالات فكانت غزالة .. ولو أنها غزالة عجوز!! وما دمنا في معرض التهنئة .. فلنهنئ أيضاً القلعاوي، وحسين إبراهيم .. ولنهنئ أخيراً الريحاني بأولاده.
أما ناقد مجلة «المصور» فكتب مقالة أخرى عن المسرحية، بدأها بمقدمة قال فيها: لست أدري أتعتبر هذه الرواية ثانية روايات موسم الريحاني أو الثالثة؟ ذلك لأن الفرقة بدأت عملها في الكورسال برواية «الجنيه المصري» ثم سافرت إلى الإسكندرية وعادت إلى نفس المسرح فعرضت رواية «المحفظة يا مدام» ثم غادرته إلى تياترو برنتانيا حيث أعادت تمثيل بعض الروايات القديمة إلى أن أخرجت أخيراً رواية «أولاد الحلال». وهذه الأخيرة من وضع نجيب الريحاني وبديع خيري، وقد وصلا فيها إلى درجة كبيرة من النجاح وإن كنا لا نخليهما من مسئولية الإهمال والتباطؤ وعدم موالاة العمل لمواجهة الصعوبات التي تعترض جميع الفرق التمثيلية في الوقت الحاضر [والمقصود الأزمة المالية العالمية]. نجيب الريحاني وبديع خيري شخصيتان من أقوى الشخصيات التي تعمل في المسارح المصرية، ولو توفرا على الإنتاج لكان المسرح الذي يغذيانه قبلة الأنظار وموضع الاعتبار. وقد حاولت أن أقف على سبب لنكوص المؤلفين وتقاعدهما ولكن لم أجد في الحقيقة ما يبرر منهما ذلك!!