إنسان سعيد.. قولبة المشاعر الإنسانية

إنسان سعيد.. قولبة المشاعر الإنسانية

العدد 865 صدر بتاريخ 25مارس2024

قدمت فرقة 902 على مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون العرض المسرحي إنسان سعيد كتابة (سعيد سلمان) ومن إخراج (جورج جيهام) والعرض مستلهم من بعض نصوص الكاتب الروماني الفرنسي يوجين يونسكو (1909م – 1994م) والنصوص هي (المغنية الصلعاء – جاك أو الامتثال – ذو الحقائب – التحيات) ويعد يونسكو من أبرز مسرحيي العبث أو اللامعقول، وتعتبر مسيرته المسرحية هي الصورة الأكثر صدقاً للوضع الإنساني خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومسرح العبث أو المسرح العبثي هو مصطلح تم صياغته على يد الناقد مارتن أسلين (Martin Esslin) وقد تم اشتقاق المصطلح نفسه من مقالة للفيلسوف الفرنسي (البير كامو Alber Camus) وقد نشأ مسرح العبث ما بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ؛ ولكن النشأة الحقيقية كانت في خمسينات القرن العشرين بعد انهيار كل شيء بناه الإنسان جراء الحرب العالمية الثانية والتدمير النووي والذي زرع بداخل كل إنسان المخاوف التي اعترته، ونجد أن مسرح العبث كي يحقق الرسالة التي يرمي لها كان يسلك طريقة توجيه الصدمة للشخص حيث يخرج عن نطاق حياته اليومية التقليدية المريحة ويجعله إنسان مبتذل في كل تصرفاته، فقد عجز الإنسان عن التميز بين المضمون الإنساني الشامل والمضمون التافه، فلم يفرق بين وجه النظر الرحبة العميقة ووجهة النظر الضيقة والسطحية، مما أدى إلى الانحطاط الفكري الذي لم تتخلص منه الإنسانية عبر تاريخها الطويل إلى الآن.
مسرح العبث هو مسرح بلا حبكة بعيدة عن المنطق ليس لها معني، وبلا صراع، والأفكار غير متسلسلة وغير منطقية، واللغة عدمية وغير كافية كوسيلة من وسائل الاتصال، واللغة متعددة المعاني وليس لها معنى محدد، والحوار ليس محكماً.  
لماذا والآن نقدم عرض مسرحي مستلهم من نصوص مسرح العبث الذي نشأ بعد الدمار والخراب الذي أرتكبه الإنسان في حق البشرية والبعد عن المنطق وعدم قدرة اللغة على التواصل بين البشر؟
وللرد على ذلك أقول إننا نعيش على كوكب الأرض الذي أصبح قرية صغيرة، وبالإضافة إلى سخرية عبثية الحياة؛ لقد أصبحت الرأسمالية المتأخرة هي المسيطرة على العالم وتحولت المجتمعات إلى مجتمع استهلاكي، فنحن نشاهد الآن ما يدور حولنا على سطح الكوكب، والمعاناة الحقيقية لإنسان هذا العصر بحروب يستخدم فيها كل الوسائل التي أنتجها لنا العلم الحديث، لقد تشكل العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والآن يتشكل العالم بطريقة أخرى، وهذا هو السبب الحقيقي لتقديم مثل هذا العرض الآن. 
نص العرض
 العرض كما أشرنا مستلهم عن بعض نصوص الكاتب يوجين يونسكو، وهذه النصوص هي (المغنية الصلعاء، جاك أو الامتثال، التحيات، الرجل ذو الحقائب).
لفت نظري وجود كلمة تأليف وتنفيذ على بامفلت العرض فالكثير من الهواة وأيضا بعض من المحترفين يتناسوا أهمية ضبط المصطلح للدقة والأمانة مع المتلقي، فهل ما قدم هو تأليف ام اقتباس أو دراماتورجيا، وهذه دراسة لا مجال لها الآن، ومن وجهة نظري أن ما تم تقديمه اليوم هو كولاج مستلهم من بعض أعمال يونسكو التي ذكرتها. 
ومن الجائز ان يكتب الكاتب تأليف على سبيل المثال عندما يتناول عمل مستلهم عن مسرح العبث وبطريقة بعيدة تماما عن تكرار ما تناوله يونسكو، وعندما يحدث ذلك ومع التنظير وتطور الشكل المسرحي أستطيع القول كناقد أن هذا العمل به تناص وقدم مسرح الصورة وهو من مقولات مسرح ما بعد الحداثة.
تدور الفكرة الرئيسية حول شخص يدعى بيرانجيه وعدم قدرته على التواصل مع الإنسان، بمعنى عدم التواصل مع العالم الخارجي والمحفزات الضاغطة علية من هذا العالم وذلك من خلال السعادة الزائفة والتي نراها في العلاقات الإنسانية.
 يوضح لنا العرض السعادة الزائفة وعدم التواصل لدرجة أن نرى الأب والأم في كل لقاء بينهما تبدأ رحلة التعارف على بعضهما البعض وكأنها أول مرة يلتقون معا. لقد أصبحت الأشخاص في هذا العالم عبارة عن دمى متحركة يسيطر عليها قوى ما، هذه القوي هي قوى رأسمالية، وتكمن سعادة الإنسان في تحوله إلى إنسان استهلاكي بشكل مفرط، لكنها في حقيقة الأمر سعادة مزيفة، فنشاهد بطل العرض يهرب من ضغط العالم الخارجي ويقبع في غرفته بمنزل والديه، ويعيش مع شماعة موجودة في الغرفة، ويعتبر هذا الجماد (الشماعة) هي الصديق الأوحد ويعبر لها عن مشاعره دون كلمات تنطق، فالكلمات فقدت القدرة على التواصل.

كيف حقق المخرج رؤيته البصرية:
اتجه المخرج في رؤيته إلى العديد من الطرق والمناهج الإخراجية فقد اعتمد على التعبير بالجسد أو مسرح الجسد الذي تحرر من قيود الكلمة والذي نظر للممثل كألة قادرة على التعبير والتواصل باستغلال إمكانيات وطاقة الجسد، وتحديد علاقة الممثل بالأجساد الأخرى (ممثلون، تقنيون، ...  الخ) وعلاقة الجسم المشخص من خلال محيطه (ديكور، أكسيسوار، إضاءة، ...الخ، وأستخدم الجروتسك في السخرية والأداء المبالغ فيه والمكياج وحركات الممثلين وظهر ذلك جليا في بداية العرض عندما قامت الخادمة بأداء دورها، ثم انتقلت في الأداء لتمثيل أدوار الحبيبين ماريو وماري، ووالد ووالدة ماريو، ثم إسلوب التمثيل داخل التمثيل، ثم المسرح الملحمي أو منهج بريخت؛ الذي ارتبط مصطلح المسرح الملحمي عالميا على صعيد الكتابة المسرحية والإخراج والتنظير باسمه، والذي يعتبر منهجا صالحا لكل العصور والأزمنة لكونه يطرح ثيمة العدالة الاجتماعية ويجعل المتلقي في موقع المفكر والمتأمل، فنجد فتاة تظهر وسط صالة العرض بين مقاعد المشاهدين وتشير إلى بيرانجية دون أية كلمة، والذي يستجيب لها ويخرج معها من باب دخول وخروج المشاهد حيث الخروج للمكان الفسيح، فهي المخلص لتبعده عن ثقافة القطيع،  حيث الأمل في سعادة حقيقية، كما قدم لنا المخرج مسرح ما بعد الحداثة الذي يعتمد علي التناص ومسرح  الصورة والسخرية 
 قدم المخرج عرضه بمزيج من التجارب المسرحية في إطار الاسلوب العبثي بتداخل الصور والغموض وافتراض الأشياء في غير موضعها لتجرد الواقع من إطار المألوف باستعمال أسلوب التهكم والسخرية والغرائبية التي لا تخضع إلى أي منطق.    
الديكور تجريبي عبارة عن منظر ثابت يعتبر منزل بيرانجية واسرته، مكون من مجموعة غرف مفتوحة على بعضها ويمثل العالم الذي يراه الجميع، فنرى في يسار عمق المسرح  برتكبل في حدود متران وضع فوقه شاشه وخلفها مصدر إضاءة يقف بجواره ممثل في الخلف ليظهر أمام المتلقي سلويت لشخص يتحدث بصوت مسموع محاولاً أن يستفز السامعين يكرر رسالة واحدة (تذكر يا عزيزي أنت سعيد ..سعيد للغاية) ويحث الناس علي شراء منزل يقسط ثمنه على مدار ثلاثون عاماً، ويبلغهم أنه لا يوجد أمراض طرفهم وتأتي الأمراض من فوبيا الأستيك المشوي، أو التهابات من حبة الجمبري المائة، ولكنك يا عزيزي سعيد للغاية.
نحن لا نعلم من هو هذا الرجل، ولا نعلم لأي قوة ينتمي أو لأي بلد في العالم، هذا الشخص يجعل الآخر يعيش في وهم السعادة المزيفة، وفي اسفل هذا المكان وعلى ارتفاع ستون سم من خشبة المسرح توجد غرفة بيرانجيه
وعلى يمين عمق المسرح وضع برتكبل مرتفع عن مستوي خشبة المسرح بحوالي متران يصعد له بسلم جانبي عبارة عن عشرة درجات يشبه سلم في فيلا، مقسم إلى ثلاث مستويات الدور العلوي غرفة الابنة التي تجلس بغرفتها طوال الوقت أمام المرآة تتزين، واسفله بارتفاع ستون سم تقريباً عن خشبه المسرح نجد غرفة الأب والأم، وهما طوال الوقت ينظران لبعضهما وكل منهما للأخر يشبهان على بعضهما وكأنها يلتقيان لأول مرة، ونرى في منتصف منتصف المسرح منضدة مستديرة وضع حولها كرسيان يمثل مكان لاستقبال الضيوف بمنزل أسرة بيرانجيه.
مع وضع أعلي شمال المسرح بعض الإعلانات الصارخة بشكل مبالغ فيه مثل رسم بعض البشر تضحك، وأعلى يمين المسرح وضعت الإعلانات الاستهلاكية (امتلك وحدتك السعيدة في مساكننا الخاصة للسعداء من امثالك).
في العالم العبثي وبخلق مكان وهمي في الفراغ المسرحي نجد مشهد المترو يتداخل مع مشهد المنزل، فنجد أن المترو يسير داخل المنزل، بقول الممثلين (الأب والأم والأخت) بأننا سنذهب إلى غرفة بيرانجية عن طريق المترو كوسيلة موصلات نظراً لأنها بعيدة في أخر المنزل، كما نري المترو من الداخل بوضع كراسي لجلوس الركاب، ونجد المنزل يتحول إلى كافتيريا، أو حلبة مصارعة بين الخطيب وخطيبته كمصارعة الثيران ومن سوف ينتصر، ويصبح الأهل هم جمهور المشاهدين، ويستخدم السلم كسلم في المترو ويظهر لنا شخصيتان وهما رجل المنطق والموظف في جدلية وهمية بينهما يحاول فيها رجل المنطق إقناع الموظف بان  اي شيء يمشي على أربع هو خنزير، وفي النهاية يرضخ الموظف لفكر رجل المنطق.  
الملابس كانت عبارة عن بالته ألوان مختلفة طغي الكاروه علي زي الممثلين، لتدل على أن العالم يسير في خط سير واحد، وقسمت إلي ثلاثة مجموعات، كل مجموعة بينهما علاقة ما، فالمجموعة الاولى  تمثل الأسرة (الأب والأم والأبنة والخادمة) يرتدون ملابس كاروه صغير ذو الألوان البني والأصفر  والبرتقالي، و المجموعة الثانية هم ركاب المترو كل منهم يرتدي جاكت ذو كاروه عريض يميل إلى اللون اللبني وبه خطوط بسيطة خضراء وبنطلون وسديري بيج، والمجموعة الثالثة كانت لبائع الجريدة وصديقة يرتدي كلاهما سلوبت كاروه أكبر يميل عليه اللون الأزرق في بني، ونري رجل المترو وهو شخصية مختلفة يحافظ على النظام والأمن يرتدي بدلة ذو لون أخضر غامق تشبه رجال الأمن بالشركات الخاصة، أما الأبن فكان يرتدي زي عصري مختلف لا يوحي بفترة زمنية معينة، وكذلك الرجل ذو الحقائب فهما مختلفين عن الجميع وليسا من القطيع، فالابن معترض على مايحدث، ورجل الحقائب يبحث عن السعادة الحقيقية فلم يجدها، فالمنزل هو الراحة والاستقرار والدفء والأسرة، وأن كل مايحملة في الحقيبة من أشياء مهمة  من تاريخه ومشاعرة وكل ما قد مر علية من ذكريات، أو أوراق مهمة، ستحقق له السعادة عندما يعود للمنزل لكنه يكتشف في النهاية أنها خاوية ليس بها أي شيء.
المكياج كان صارخاً حتى يحقق الجروتسك فكان أحمر الشفاه الذي يغطي الشفاه وجزء من الفم، وفي الوجه، فتظهر الشخصية بصورة ممسوخة لتناسب مع ما ينطق به الممثل ليثير السخرية.
الإضاءة كانت تحقق الحالة الدرامية، فنجد ألوان صارخة من شدة الإضاءة ( اللون البرتقالي) في معظم المشاهد، وتقل أحيانا وتسكن مثل مشهد الركاب التي تجلس داخل المترو للترقب، أو عندما ينزل الفرد ويصبح وحيداً، لكننا نجد في مشاهد ذو الحقائب ألوان هادئة ( اللون الأزرق والإضاءة الخافتة) حيث أنه خارج سياق الجميع فهو الإنسان التائه الذي يبحث عن منزله حيث الاستقرار والهدوء، كما تم أضاء صالة جلوس المتلقي ليصبح المتلقي جزء من اللعبة المسرحية وتظهر بها فتاة تشير إلى بيرانجيه ويخرج معها خارج صالة المتلقي لتشير إلى الذهاب  إلى مكان ما حيث الأمل والسعادة الحقيقية بعيد عن القطيع، كما تم أستخدم كشافان وضعا يمين ويسار مقدمة المسرح بجانب المصدر الرئيسي للإضاءة للتركيز علي اداء بعض الممثلين.
الموسيقى أعددت من موسيقى عالمية من حقبة زمن الروك اند رول  التي تعنى الهز والتقلب، والذي نشأت وتطورت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال أواخر الأربعينات والخمسينيات من القرن الماضي وذلك بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية، وفيها الإيقاع هو الأساس، فهي تحمل بين طياتها قدرة لافتة على تحريك الجسد وتحفيزه على الرقص.
عندي كلمة أخيرة أنني شاهدت صورة بصرية متميزة في حدود الإمكانات المادية لفرقة هواة، وقدمت لوحات فنية متميزة على مدار العرض، ولا نستطيع الاستغناء عنها وحذفها، لكنني شعرت بطول العرض وأن رسالته وصلت للمتلقي، وشعرت ان العرض انتهى، فكان من الأفضل حذف جزء من وقت العرض حتي يستقطب العرض عدد أكبر من الجمهور من ثقافات مختلفة دون الشعور بالملل على الرغم من السخرية التي أضافت لمحة كوميدية، وأن ازمة الإنسان التي تمثل على خشبة المسرح تتقاطع بشكل او بأخر مع المتلقي في صالة العرض، فالعرض يمس كل منا بشكل ما.
الممثلون في العرض : ندى عباس (الفتاة)، عبد الرحمن حاتم (رجل الشاشة)، ندى حسين (ماري / الخادمة)، أحمد هشام (بيرانجيه / الأبن)، مؤمن وليد (الرجل ذو الحقائب)، مينا مدحت (الرسام)، باهر فايز (المجداف)، رام هاني (الأب)، ميرنا يوسف (الأم)، أدهم وائل، هدى رضا، روان رضا، محمد علي، مادونا صفوت، مصطفى حمدي ( أنتم 1، 2، 3، 4، 5، 6) ندى محمد (سيدة المنطق)، أحمد مرزوق (المندهش)، إسلام عمر(رجل الجريدة)، عمر ادهم (رجل الأمن)، روان هشام (الجدة)، جورج هشام (الجد)، حازم داغستاني (صديق رجل الجريدة)، سلفيا طلعت (مندوبة المبيعات)، سلمي أسامة (جاكلين/ الأبنة) مريم باريس (المرأة)، نغم عبدالناصر (ام المتقدم للزواج)، محمد طارق (المتقدم للزواج).
ديكور (رضوى طارق)، ملابس (هناء النجدي)، مكياج (ميار المحمدي، عزة عرفات)، إضاءة (محمود الحسيني/ كاجو)، إعلانات الديكور (مادونا صفوت)، تنفيذ ديكور (محمد سلمان، حسين الجزيري، روماني جرجس)، دعاية (بيتر فايز، ماردينا مارك، باهر فايز)، مساعدي مخرج (سلمى أسامة، محمد طارق).


جمال الفيشاوي