إدراك الزمن في المسرح(3)

إدراك الزمن  في المسرح(3)

العدد 868 صدر بتاريخ 15أبريل2024

 في الواقع، لا توجد إيماءة، ولا فعل، ولا حتى كلمة بسيطة بلا هدف في المسرح، لأن الصمت الزمني الذي يسبق ويلي الإيماءة، والكلمة، والسطر والفعل، يمكن أن يتضمن فقاعات طاقة صامتة قادرة على إشعال وتوسيع ذرات الزمن الحاضر. وبالتالي، تضع العروض التوجيهية الفعالة الحصى والتعرجات والدوامات والهزات في نهر الزمن بحيث تسحق الأمواج الصور التي لا معنى لها، وقد تكسر التيارات الانعكاسات. وبالتالي يمكننا أن نجد لحظات لزمن معلق تقريبا، زمن لا يتبع معيارا، زمن رأسي منفصل عن تتابع الزمن العادي. ويسميه بيتر بروك «اللحظة الحاضرة”، التي هي المرجع ألفريد الذي يمكن من خلاله الحكم على الفعل في المسرح. إنها خاصية الزمن الذي يتحول خلاله التلقي إلى إدراك عميق، في وميض الوعي أو في تكامله. 
     تنتقل خطوط قوة الميزانسين (ما يجب تحديه للتحليل غير الوصفي للأداء) بشكل أساسي من خلال التسارع والتباطؤ. فالتسارع يوحد الاتجاه ويفتحه بكثافة. ويميل التباطؤ إلى تشكيل تركيبة منيرة وصارخة تسمى التنوير Satori، أو اللحظة الحامل (عند ليسينج) أو التعبير الحركي Gestus (عند بريخت) أو إيماءة نفسية (عند مايكل تشيكوف)، وتتبع الذاكرة engram، والمجاز البصري المشحون عاطفيا pathosformel، والمخططات schemata ... حيث يُرسخ وعي المتفرج في النسيان وما الى غير ذلك من إمكانياته. وها لا يكون الزمن عاطفيا ومطلقا فحسب، بل ينطوي على نفسه، ويميل إلى الحظر ماديا، كما أنه واع بوجوده: المودة التلقائية للزمن التي اعتبرها كانط الشكل الأكثر أصالة للوعي. 
    إنها عملية أشبه بالساعة الزجاجية. إذ يجب أن تصطف كل المواد غير المتجانسة الذائبة التي ساعدت في إعداد الأداء والحبيبات الكثيرة المرتبة بالتوازي، أو المرتبة في وقت واحد، وترتب نفسها بالتسلسل في الأداء. إنها التسلسل القسري الذي يقدم نفسه باعتبار أنه لا رجعة فيه جوهريا. واللحظة الحالية هي عنق الساعة الزجاجية التي يتشكل من خلالها الوعي ويتألق التلقي في تلقي قبل أن ينطلق في آلاف من النقاط المتوازية في ذاكرة المتفرج. 
     بالطبع، في الأداء هناك عدة طرق للحصول على الزيادة اللازمة في الزمن، عن طريق كل من التباطؤ والتسريع. فالحذف مثلا أو الأفعال العشوائية التي تجري في اتجاه باستثناء الاتجاه المرغوب فيه (وهو النموذجي في الكوميديا دي لارتي والكوميديا). وأيضا، من أهم المشاهد التي تولد التوقع: حالة أوديب التي يردد فيها المتفرج صدى الشخصية ورغباتها وفي نفس الوقت مخاوف المشهد الذي لا مفر منه الذي سوف يعلم فيه البطل حقيقته. 
     ورغم ذلك، فيما وراء استراتيجيات التكوين الممكنة، أتمنى أن أوضح أن التعليق والتشويق، بل وأكثر من ذلك، هو مسألة تباطؤ أو تسارع فحسب، لكنه مرتبط في النهاية بكثافة الزمن، الذي يعاش في عقل جسم متعة إحساس الحاضر بنفسه، أو بإيقاع دقة القلب. التعليق أساسا هو عملية تشويه، لمختلف درجات التغير الزمني (الذي يبالغ في التشويق) والذي يمكن أن يتصرف مثل العدسة المكبرة في التباطؤ. عدسة مكبرة على ماذا ؟. عدسة مكبرة على الوعي الذي يتمدد بينما يصبح كل شيء آخر أصغر. تأمل الوقت المشترك، من خلال المحاكاة المجسدة، بين وعي عطيل المتمدد ووعي المتفرج. 
     يمكننا بالطبع الاستشهاد بآلاف أمثلة  التعليق والتشويق. وتأمل محاول إبطاء الزمن الناجحة، المتبلورة في قالب الجليد الذي يذوب ببطء في نيكروسيوس أملتاس. ويتبادر إلى ذهننا وتيرة ممثلي مسرح النو البطيئة، والوتيرة اللانهائية لممثلي الباتوه الياباني. اذ يكمن الفرق بين المسرح الغربي والمسرح الشرقي في استخدام الزمن. ويمكن تحديد هذا الفرق من خلال الثقافة التي تحب العمق التوافقي والصامت لنهر الزمن المتدفق، وتلك التحولات غير المدركة التي تعذي الثورات الصامتة للشرق الذي يبتعد عن عبادة الحدث الذي يصم الآذان – الجنون الحقيقي في طريقة الغرب في فهم الحقيقة والنقطة الأساسية في ثقافة أدائنا الغربي. 
     لقد رأينا أن التعليق هو عنصر تأسيسي في الأداء. وإذا فكرنا أن انطباع الأداء يعتمد على وجود نبضات متوترة ونبضات غير متوترة، وعلى تجميعها، عندئذ يصبح واضحا أن المطلب الأساسي لإدراك الإيقاع هو ذاته مبني على التعليق والتوقع، أو في أفضل الأحوال على تشويه الاستمرارية، المستمدة من إمكانية التكرار. ويمكن أن يظهر تتابع الوتيرة الضعيفة ناقصا ويثير توقعات الاكتمال، واحتمالات التوتر تماما، كما تتطلب، على العكس من ذلك، سلسلة متقطعة من اللهجات الاسترخاء. على أية حال، يتوقع إدراك الإيقاع من المخ أن يقوم بتجميع النبضات الضعيفة في نبضة متوترة. ألا يعد مثل هذا التوتر علامة على الوعي؟ ولهذا السبب أيضا، الزمن هو الوعي، ومن خلال الاستخدام الصحيح للإيقاع، ربما يقدم المسرح، في لحظة، أو ومضة قصيرة، لحظة اكتشافنا لوجودنا. 
     هذا الوعي بالزمن هو نفسه، في صلبه، وعي بالجسم، نظرا لأن الجسم هو حد الزمن، لأنه حد لذاته. وبمجرد ظهر الحد، سواء كان بدنيا أو ذهنيا، فإنه يرى كيف يظهر الزمن الحقيقي دون استدعائه ليحرك وعينا. 
     تؤسس نهائية الجسم استمرارية الفعل والفكر الإنساني العميق. والبشر يعرفون هذا: وقد ابتكروا المسرح لهذا السبب، لكي ينظروا إلى المرآة ويتحكموا في الزمن، لنمذجته ومده وتكثيفه، وتمزيقه من جذر الحقيقي. ولكي نصبح سادة الزمن، إلى حد الرغبة في الإمساك به، إلى الأبد على ما يبدو، في تلك الصناديق الصفيح التي تحتوي على الأفلام السينمائية الأولى. 
     ومع ذلك، في النهاية، هناك جانب واحد يحتاج إلى إعادة تأكيد: الزمن المعاش أثناء الأداء، زمن الحدث المباشر، وهو البعد الذي لا يمكن الوصول إليه بشكل تام بالتحليل العلمي. فالعقل لا يمكنه أن يفهم الزمن بشكل مباشر وعلى الفور، لنفس السبب الذي لا يمكن للعين أن ترى نفسها. فالأشياء المدركة بالعين تظل خفية بدونها، ولكنها ليست العين وتوجد بذاتها. ويطبق نفس الشيء على الزمن. إذ يمكن الوصول إليه بقدر ما هو مكاني، ولكن إذا فكرنا في الزمن كما هو معاش بواسطة المتفرج أثناء تجلي الأداء، بحيث يجب تفسح الفورية مكانا للبناء، فندرك أنه من المستحيل أن نقيس أو نحلل هذا الزمن المعاش. إنه القوة التي ليست عرضة للتأمل الذي يمكن أن يكسر تدفقه غير القابل للتوقف؛ إذ لا يمكن تجميده. انه مثل الموسيقى، التي ليس لها مادة، ومدفوع إلى التلاشي. ويمكن رؤيته، ولكن  باعتباره وعيا يكشف عن نفسه. 
     ويعرف أساتذة المسرح هذا. وقد كان ستانسلافسكي (مثل مايكل تشيكوف) يكره دائما اعتبار وتيرة الإيقاع كمعيار. واقترح تمارين مناسبة ودعا الممثل للبحث عن وتيرة إيقاعه الداخلي في ضوء التطابق مع وتيرة الإيقاع الخارجي. وفهم مييرهولد أن المخطط المتري هو تخصص وقائي من الزمن، ولذلك كان من الضروري أن يكثر توقع الزمن، وقد كانت تلك الكليشهات متكلسة، وغير عضوية، وقابلة للتكرار ولكنها فارغة، لأنها كانت محسوبة وذات طابع مكاني. 
     إنها بالطبع إساءة الفهم المكاني التي اعترف بها يوجينو باربا، الذي درس المسرح أثناء معايشته. فقد تحدث عن الدراماتورجيا باعتبارها درماتوجيا لأنواع من الدراماتورجيا، وباعتبارها تشابك خطوط الممثلين الفردية المنسوجة في نص حي living text . ثم يتساءل عما إذا كانت استعارة النسيج يمكن أن تكون مضللة لأنها تشي إلى إمكانية استخلاص مختلف أنواع الدراماتورجيا مرة أخرى من النتيجة النهائية للتشابك: “ ما كان ينبغي أن أقول النسيج،≠≠≠ بل أقول العطر”... من المستحيل الرجوع بعد العملية. ومن المستحيل أن نستخرج من العطر مختلف الخلاصات العطرية التي تكونه. 
     بفكر المخرج في العلاقة بين السجل والأداء؛ ولكن ما هما التحليل والعملية إن لم يكن الزمن المكاني الخاص بهما (كميته) وزمن الأداء المستمر وغير المتجانس (نوعيته) متروكا لتدفقه الذي لا رجعة فيه وشرارته الكمية في تطورها المتزامن؟ 
     إنه زمن المعالجة المستقل وغير القابل للوصف لأن كل وصف، وكل تحليل لا يقوم إلا على المكانية فحسب. وبالتالي يظل تحليل المزمن المسرحي متجاوزا جزئيا لأي شكل من التحليل العلمي.
............................................................................. 
 • لوشيانو ماريتي يعمل أستاذا للمسرح في جامعة سبانزا – روما – ايطاليا 
 • هذه المقالة هي الفصل التاسع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب الإدراكي» الصفحات 139-153 – الصادر عن دار نشر بلومسبري 2016.


ترجمة أحمد عبد الفتاح