مسرحية إبقى إغمزني!!

مسرحية إبقى إغمزني!!

العدد 860 صدر بتاريخ 19فبراير2024

تُعدّ مسرحية «إبقى إغمزني» آخر مسرحية لهذا الموسم، يؤدي فيها الريحاني شخصية «كشكش بك» دون الالتزام بمظهره المألوف بوصفه «عمدة كفر البلاص» بالجبة والعمة والقفطان، بل ظهر بالطربوش والبدلة كونه موظفاً!! وهذا الأمر كان تمهيداً لتخلية عن شخصية «كشكش» فيما بعد، حيث إنه تمسك بها طوال الموسم تقريباً. هذا بالإضافة إلى أنها آخر مسرحية يؤديها الريحاني بدون بطولة نسائية مصرية أو عربية معروفة – باستثناء «أمينة محمد» - والاكتفاء بالأجنبيات المتحدثات بالعربية في صعوبة، اعتماداً على جمالهن ورقصاتهن واستعراضاتهن! ومن مميزات هذه المسرحية أنها ذات مضمون تم استخدامه في عروض أخرى، بل وفي أفلام سينمائية!! ففكرة مسرحية «ابقى إغمزني» هي نفسها فكرة فيلم «أبو حلموس» الذي قام ببطولته الريحاني عام 1947. 
عُرضت مسرحية «ابقى إغمزني» في أبريل 1928 وكتبت عنها مجلة «المستقبل» كلمة وصفتها بأنها سخرية لاذعة وعظة بالغة في صورة فكهة ولباس مزوق، تبعث فيك الضحك، وتنساب إلى نفسك لتثير فيها شيئاً من السخرية والاستخفاف بالعالم. ترسم لك هذه القصة صورة مصغرة منه وحالة صادقة من حالاته. تدور وقائع القصة حول المال، ولكنه ليس المال الذي هو زينة الحياة الدنيا، بل هو مال العصر الحاضر وسر مصاب العالم والوصمة المطبوعة على جبينه!! هو المال الذي في سبيله تفسد الضمائر، وتضيع الكرامات!! هو المال الذي يتعشقه البعض فيهدد عرضه ويستهين بشرفه في سبيل الحصول عليه والاستمتاع به. والقصة من تأليف الأستاذ البارع بديع خيري، وتكاد تكون في الصف الأول من قصص بديع لمفاجآتها ونكاتها ومواقفها الكثيرة القوية. لقد أضحكتنا طويلاً يا بديع فجزاك الله خير الجزاء، وإنّا لنثني الثناء الأوفر على ما بذله «بديع» من جهد في دقة التصوير وبراعة إيراد النكات والألفاظ التي تتفق والمواقف وتعبر عن المعنى ويكون لها الأثر القوي في النفس. ولقد كان الإخراج متقناً يشهد بسلامة ذوق نجيب الريحاني وبراعته، والفصل الثالث من أتقن الفصول من حيث المناظر نقشاً ورسماً، ولنا عليه ملاحظة بسيطة وهي أنه يمثل حديقته لمنزل يملكه كشكش بك ويشتغله عن طريق الإيجار لإناس مختلفين، ولم نعرف بعد أن هناك «عمارة» تؤجر ويكون لها مثل هذه الحديقة الغناء الفاخرة جداً؟!
ثم انتبهت المجلة بأنها تحدثت عن العرض دون أن تتحدث عن ملخصه!! لذلك أوردته قائلة: يُرفع الستار في الفصل الأول عن مكتب أحد المحامين وترى «كشكش» في رفقة «حواش» أفندي يلتمس عملاً في هذا المكتب لعله يصيب أجراً أعلى مما كان يتقاضاه في «طابونة» كان يشتغل فيها كمحصل. وترى موظفي المكتب يتآمرون عليه فيملأون دواته «ملوخية» بدلاً من الحبر! ويحضونه على إتقان عمله وتثبيت مركزه ورفع مرتبة بأن يقول للمحامي – صاحب العمل - «نكتة» مضحكة! ويأخذ بنصيحتهم ويفعل ذلك، فيعنفه المحامي ويخصم من أجره قبل أن يشرع في العمل! وتسير الحياة مع كشكش بهذه الصورة المعكوسة، حتى يأتي مندوب إحدى الشركات ليبشر الموظفين بأن سندات الشركة التي اشتراها «كشكش» ربحت عشرة آلاف جنيه! فيقومون بإخفاء الخبر عن كشكش، ويقبلون عليه مظهرين له احترامهم وإجلالهم، وهو لا يعلم سبب تغير الحال، ويحاول الهرب منهم ليأمن شرهم، ويعود إلى عمله الأصلي في «الطابونة» محصلاً. ثم يذهب إلى منزل الباشا ليحصل منه على ثمن خبز اشتراه بثمن آجل، ويقبل الباشا فيعنفه لثيابه الرثة البالية وهيئته «المبهدلة»، وأثناء الحديث يدخل المحامي ويُعلم الجميع بأن هذا الرجل – أي كشكش – من الأثرياء ويملك عشرة آلاف جنيه! هنا يشتد الفرح بكشكش ويكاد يفقد رشده! ومع بقية الأحداث نجده يتفقد مشاريعه وعماراته فيأتي إليه إناس لم يرهم من قبل مدعين قرابتهم له! فهذا ابن عمه وذلك ابن خاله .. إلخ، ولم يجد كشكش مفراً سوى ادعاء الموت، فيشاع خبر وفاته فيدب الخلاف بين مدعي الوراثة، وينتهي الأمر بأن يتفقوا على اقتسام الغنيمة، وفجأة يظهر لهم كشكش وينبئهم أنه وقف ثروته لجهات البر والجمعيات الخيرية، وتنتهي المسرحية.
وتحدثت المجلة عن التمثيل، وبدأت بالريحاني كونه روح القصة وكان بمفرده مثل فرقة كاملة تتحرك، لأن القصة كانت مجالاً فسيحاً صالحاً لإظهار مواهبه وكفايته، فقد كانت مُحكمة الوضع مُفعمة بالمواقف المضحكة المثيرة، ومن أروع مواقف نجيب في هذه القصة تمثيله الارتباك حين دخوله مكتب المحامي، ثم وجله عندما يشتد عليه المحامي باللائمة، وعندما يهم بضربه، ثم عندما يلقى نبأ غناه الفجائي، وبتمثيل الفتى الثري.. إلخ. ويأتي بعده في أهمية الدور «جبران نعوم» في دور المحامي الذي أجاد تمثيله، وكذا «محمد مصطفى» - فالنتينو الصعيد - في دور الباشا، فقد وفق فى إخراجه. ولنا ملاحظة على توزيع الدورين السابقين وهو أنه كان يجب أن يأخذ كل منهما دور الآخر حتى يعطي للشخص الدور الذي يلائمه فمظهر نعوم مع ضخامة جسمه و«كرشه» يتفق ومظهر الباشوية التي لم نر أحداً متحلياً بها في شكل محمد مصطفى وجسمه وسنه، ولم يفلح مكياجه في إخفاء كل ذلك. وقام «محمد كمال المصري» بدورين، أحدهما صاحب قضية في مكتب المحامي، والآخر دور والد الباشا في قصره وكان في الدور الثاني رائعاً، وأضحكنا طويلاً. وصفوة القول: أجاد الجميع بتمثيل أدوارهم مما يستحقون عليه الثناء.
وكعادة الناقد «جمال الدين حافظ عوض» - صاحب مجلة «الستار» - مدح العرض متأثراً بموقفه الدائم الداعم للريحاني مؤلفاً وممثلاً، فكتب كلمة قال فيها: كان التأليف بديعاً، وقد دل مرة أخرى على النظرية التي طالما نادينا بها، وهي أن الروايات التي يؤلفها الأستاذ بديع خيري بالاشتراك مع الأستاذ نجيب الريحاني تلاقي نجاحاً أكثر من الروايات التي يؤلفها الأستاذ بديع بمفرده! فأنت تحس بروح نجيب الخفيفة، وفكاهته الحلوة تتخلل جميع الفصول. على أن هناك ظاهرة غريبة، أحسسنا بها في جميع روايات مسرح الريحاني هذا الموسم وهي أن الفصل الأول والثاني أكثر قوة، وأمتن تأليفاً من الفصل الثالث - وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن المؤلفين إذا انتهيا من الفصل الأول والثاني، وجدا أن الفكرة التي بنيا عليها أساس الرواية قد تم إخراجها، فيضطرهما الحال إلى حشر الفصل الثالث حشراً! وحبذا لو بدءا وضع هيكل للرواية قبل البدء في تأليفها، ثم نسجا عليها الفصول الثلاثة! وبالنسبة للإخراج فقد زاده حلاوة المنظران في الفصل الثاني والثالث، وهما من صنع مصور أسباني هو «لجيرا»، جاء إلى مصر في رفقة الراقصات الأسبانيات! كما تحدث الناقد عن الملابس وذوق مدموازيل «كلير» في تصميمها. أما التمثيل فأطنب في مدح الريحاني وتمثيله، وتناول الجميع بالمدح والثناء وهم: محمد مصطفى، جبران نعوم، حسين إبراهيم، التوني، محمد كمال المصري، عبد الفتاح القصري، السيد سليمان، أمينة محمد، المسيو دراجور، الاختان بتروفتا، ميمي، إيمي كراوسي.
لم يكتف الناقد «أحمد جلال» بما كتبه عن الريحاني في عرضه السابق، فاستكمل كتاباته بمقالة عن عرض «إبقى إغمزني» نشرها في مجلة «الناقد»، قال فيها: عزيز علينا أن يهجر كشكش بك عمدة كفر البلاص الخالد جبته الأثرية وعمامته الخالدة، ويظهر في روايته الجديدة من أولها حتى آخرها في طربوش وبدلة أفرنجية!! فأنت ترى في هذه الرواية رجلاً فقيراً متواضعاً هو كشكش المُحصل في فُرن الرمالي – أي طابونة الرمالي - وقد أراد به صهره خيراً فأدخله كاتباً في مكتب محام. وهناك بدأت مصائبه فإنه رأى نفسه أمام عملاء المكتب من باشا وعمدة وعالم ومعلمين فكان نصيبه السب والشتائم والإهانات والضرب! ورأى نفسه بين كتبة المحامي وهم من الطراز المعهود الذي لا يعيش إلا بدس الدسائس والنصب والاحتيال فما زالوا يوقعونه في ورطة ويتخذونه ملهاة وتسلية حتى ذاق الأمرين فخرج هائماً على وجهه. ولكن الحظ السعيد يدرك المرء حيثما فرّ وهرب وهكذا قضى كشكش أن يربح سنداً من سندات «بناما» فيصبح في ليلة وضحاها صاحب آلاف الجنيهات. وهنا نرى المحامي العبوس القاسي يتملقه، والباشا المتكبر المغرور يتقرب إليه، والعالم المتعجرف يتواضع أمامه والكل يرون سيئاته حسنات وقذراته نظافة وسخافته علماً وأدباً، وتلك هي الحياة!!
وعن التمثيل قال الكاتب: أما نجيب فهو دائماً كشكش الخفيف الظل سواء لبس عمامته أو طربوشه وهو روح المسرح يملأه بهجة وطرباً وفكاهة. وإن أنسى فلا أنسى ما تجلى من مقدرته الفنية العظيمة عندما علم أنه ربح آلاف الجنيهات، ذلك النظر الزائغ والدهشة والذهول، ثم تلك الضحكة الطويلة العصبية، ثم ذلك التراخي والإغماء، ثم جنون الفرح واضطراب الأعصاب وثورة الحواس! تصوير دقيق بلغ به نجيب أقصى ما يبلغه ممثل قادر متمكن من فنه خبير بطبائع الإنسان. وقد تاب الله عن «محمد كمال المصري» فخلع بدلة الشاويش بعد أن كاد يستحق معاشاً كاملاً في البوليس لكثرة ما ارتداها، وبدا في ثوب بك عجوز مُحال على المعاش لا هم له إلا «المنافرة» مع زوجته نظيمة هانم «حسين إبراهيم»! ففي كل دقيقة نقار يعقبه عتاب وصلح ثم شقاق جديد، فكان الاثنان صورة فكهة من زوجين عجوزين في سن التخريف! وأعطى كل ممثل دوره حقه من الإتقان وتصوير الشخصية. فالتوني والسيد كاتبا محام طبق الأصل. وعبد النبي محضر كامل الأوصاف! وجبران محام عبوس عصبي فظ غليظ، ومحمد مصطفى باشا أرستقراطي نفخ الغرور في ردائه فجعله نكبة على كشكش.
وبالنسبة للمناظر قال عنها: أما المناظر فهي تحفة بديعة وآية من آيات النقوش. وقد كان الفصل الثاني وهو يمثل قصر الباشا تطل إحدى شرفاته على مساجد القاهرة ومآذنها وقببها، وقد بدت في ضوء القمر عظيمة رائعة معجزة من معجزات الرسم، وإننا نهنئ الفنان الأسباني «دي لاجيرا» على فنه البديع، كما نهنئ الآنسة «كيكي» التي ألهمته صنع هذا المنظر البديع، ولا شك أنه كان ينقش نقوشه وخيال كيكي أمام عينيه بما يصحبه من خيالات الشرق وأسراره وفتنته، ولذلك دعا هذا المنظر «وحي كيكي»! وكان المنظر الثالث من أدق النقوش وأبدعها تزينه طواحين ماء تنساب فوقها المياه في تدفق وخرير لا يكاد يفرق عن الحقيقة. وعن «الألحان» قال: تجردت الرواية من الألحان بتاتاً ويا حبذا لو عني نجيب بتلافي هذا النقص فإن الموسيقى والغناء من أكبر أسباب نجاح الروايات الاستعراضية. وعن «الرقص» قال: أهم راقصي هذه الرواية «ديليا ودراجو» والاثنان يرقصان رقصاً بهلوانياً يبدعان فيه ما شاء لهما الإبداع. ثم الاختان «بتروفنا» الراقصتان الرومانيتان، ولهما في الرواية رقصتان رقصة «بلاك بوتوم» من وضع المسيو «إيزاك» الراقص المعروف، ورقصة رومانية قروية تفيض بالحياة والجمال والرشاقة. وكذلك لا يفوتنا أن نذكر الراقص الأسباني «برفكتو بيريز» وزميلته «جوزفين جوار ديولا» في رقصهما الأسباني الرشيق والآنسة «ميمي» في رقصها الشرقي البديع. ويختتم الناقد مقالته بكلمة خاصة عن فستان «أمينة محمد»، قال فيها: ظهر في هذه الرواية عنصر جديد وهو عشيقة الأمراء وحبيبة زعماء الشام وسوريا وفلسطين ولبنان وجبل الدروز إلخ «أمينة محمد»! ولست أدري ولا المنجم يدري معنى هذا الفستان «التُلّي» الذي تلبسه الآنسة والذي ترجو أن تصل به إلى «الفولي برجير والمولان روج» في باريس كما يوهمنا بعض أصدقائهما. ولعل هذا الثوب البراق يحلو في عيون البارسيين أما هنا في مصر، فإن كل من يراه يتساءل عن معناه فلا يدرك له معنى!!
وعندما أعيد تمثيل المسرحية بعد فترة طويلة كتب «سوفوكليس» ناقد مجلة «الجديد» كلمة عنها – لا تختلف عن المقالات السابقة – قال فيها بعد ذكر ملخصها: في هذه الرواية يعود كشكش إلى الخصائص القديمة المعروفة عن رواياته، ونعني بها دراسة الحالة الاجتماعية والأخلاقية وتقديمها في أسلوب فكه طريف. وتلك هي الميزة الكبرى لمسرح الريحاني فنحن نكره الخطب المنبرية الطويلة ولكننا على استعداد لتقبل الموعظة إذا جاءت في هذا الثوب الظريف. ولكم كان يؤلمنا أن نرى الريحاني يعدل عن هذه الخطة أحياناً إلى روايات ألف ليلة وليلة، فإذا ما يجري فوق المسرح بعيد عن أذواقنا وعن عاداتنا، على حين أن الجو المحلي الذي يسود مسرح الريحاني هو الذي يقربه إلى قلوبنا ويحسبه إلى نفوسنا. ففي هذه الرواية من النقد المحلي أو الاجتماعي غير قليل من الموضوعات، نذكر منها على سبيل المثال: طريقة الاستغلال التي يتبعها بعض المحامين واسعي الذمة مسألة الشوربة أم حبهان، والشوربة اللي من غير حبهان!! أي المناقشات الحماسية على أمور تافهة».
انتهى الموسم الشتوي، وبدأ الموسم الصيفي - من مايو إلى يوليو 1928 - فأعاد الريحاني عرض مسرحياته السابقة في محافظة المنيا ومنها «علشان بوسة، وآه من النسوان»، كما عرض الكم الأكبر من مسرحياته على مسرح حديقة «كازينو الفانتازيو» بالجيزة، رغم العراقيل التي صادفته، حيث إن صاحب الكازينو لا يملك ترخيصاً بتحويل الكازينو أو حديقته إلى مسرح!! ورغم ذلك أكمل الريحاني موسمه الصيفي في الفانتازيو!!


سيد علي إسماعيل