صمت.. سؤال المسرح خارج المسرح

صمت.. سؤال المسرح خارج المسرح

العدد 858 صدر بتاريخ 5فبراير2024

تصدير
أن يكتب مخرج عن عمل مخرج آخر تعدّ مسألة من قبيل خلط الأدوار أو اقتحام لمساحات غير ممكنة.  لكن حينما يثير فيك عرضا ما فيضا من الأسئلة حول الشكل والمضمون فتدفع إلى الكتابة حوله متجاوزا للتقسيمات والمهام. هذا ما حصل بعد مشاهدة مسرحية صمت للمخرج سليمان البسام بقاعة الفنّ الرابع بتونس العاصمة، فما سأكتبه هو مشاركة في توليد الحوار حول تلك الأسئلة المثارة في العرض وخلق مدار محايد للتفكّر في المسرح خارج عناصر التلقّي المعلومة. إنها عملية محفوفة بالمخاطر تتطلّب منّا قبل كلّ شيء تجاوز عتبة التفكير الإخراجي لدينا حتى لا يكون مقالنا إخراجا على الإخراج والاستعاضة بالتفكير الجدلي الذي ينطلق من المقترح المنجز كبذرة تكوّن كرة السؤال المتحرجة.

1- في البدء كان السؤال 
بداية الحوار حول مسرحية صمت نستهله من افتتاحية مخرج العرض ذات البعد التغريبي، فبعد ترحيبه بالجمهور وخلفه دندنة الممثلة حلا عمران يقول: في ظل تصاعد للعنف المنطقة والتضليل الإعلامي غير المسبوق يتساءل أو إحنا (نحن) نتساءل ما ممكن (ما يمكن أن) يكون معنى الفن الملتزم؟ ما ممكن (ما يمكن أن) يكون فعل المقاومة عبر الفن؟ هل في شيء اسمه مقاومة عبر الفن؟ في صمت هناك مخاطب. هذا المخاطب ليس ذكرا، ليس أنثى، ليس نحن، ليس هم الصمت هو الصمت.» نتبيّن بعد مشاهدة العرض أن ما ورد فيه هو محاولة لتبئير هذه الأسئلة وهو ما يجعلنا أمام مسرحية متشكّلة كأثر مفتوح أو هي مشروع في طور الإنجاز دوما و»يعدنا دائما بشيء آخر نراه» على حدّ تعبير ميرلو بونتي. 
يمكن أن نعتبر استهلال المخرج - باعتباره المسؤول الأول عن صياغة المعنى - المنطقة النظرية التي يتموقع فيها مشروع مسرحية صمت، حاملة لكلمات مفاتيح وهي العنف - المقاومة الفنية - الصمت. ندرك من خلال هذه الثلاثية أن العرض قد بني على التجريب في فرضية أن يكون الصمت نوعا من المقاومة الفنية أمام التغيرات الجذرية وتزايد العنف في منطقة الشرق الأوسط من خلال تحديد مكان الفاجعة القادح للنصّ وهي انفجار مرفأ بيروت- لبنان. 
طرح لأسئلة حول الآليات والايتيقيات الفنية الموظفة لتشكيل فكرة الصمت أمام سقوط السرديات السياسية الكبرى  وتصاعد وتيرة العنف وما يعيشه العالم العربي في دائرة صراع المحاور والحرب الباردة للسيطرة على المنطقة. ماذا سينتج التجريب في فرضية فنيّة تحمل في داخلها أيديولوجيا؟ وهي مسألة مجربة سلفا في المدونة المسرحية العالمية وعرفت نضجها في المقاربة الملحمية البريشتيّة لتمتدّ إلى ما بعدها وأنتجت العقلية الدراماتورجية كما يسميها برنار دورت مقاربة تربط بين الرؤية الأيديولوجية والشكل الفني عبر توظيف الاجتماعي والسياسي والفلسفي الأيديولوجي، وتهدف إلى خلق وعي قائم عند المتفرّج يقطع مع الرؤية الإيهاميّة. 
إن السؤال عن التمظهرات الممكنة للفنّ المقاوم للمتغيّر السياسي يجعلنا نتعامل مع المنجز الفني داخل سياق الفنّ كظاهرة تاريخية اجتماعية استئناسا بما طرحه الناقد جورج لوكاش، حيث  يقرّ هذا الأخير بأن الآثار الأدبية والفنيّة هي انعكاس للواقع في بعديه الاجتماعي والاقتصادي وتجسّد في شكلها نقداً للأيديولوجيات السائدة. فكيف سيتجلّى الصمت عند صنّاع صمت كتعبير عن شكل مقاومة فنية ممكنة أمام المتغيّرات الجيوسياسية؟ 

2- لحظة الصمت الأولى 
تتجلّى لحظة الصمت الأولى كلحظة تفكير تتحول برقيا إلى ردّ فعل عن مأزق ما، حيث ينهمر في تلك البرهة الزمنيّة القصيرة سيل من التساؤلات. هي لحظة البحث عن تشكّل الرأي أو الموقف أو ترتيب لخطاب آخر. الصمت قد يحمل تلميحات للانتهاك وإعلان نهايات الأشياء للإيذان ببدايات جديدة كما يزعم الصوفيون عند جورج باتاي. في هذا السياق تأتي مغريات مسرحة الصمت وإخراجه عن إنزوائه ووحدته وجعله مكشوفا وسط الفضاء الجمعي. صمت تجاه مأزق إعادة السؤال حول المسرح في راهنيته كشكل المقاومة. المقاومة الخارجية على اعتبار أن للمسرح موقفا ورأيا حول محيطه السياسي والاجتماعي وكذلك المقاومة الداخلية للمسرح كفن آركاييكي مطالب بالتجدّد للصمود أمام الأشكال الفرجوية التي تظهر كل مرّة. لنعيد السؤال عن  كيف سنكتب؟ كيف سنمثل؟ كيف سنعيد إنتاج الدراما روح المسرح؟ 
أسئلة الما قبل والممتدّة في الما بعد والتي وجدت منذ سنوات غطاء الأدائية أو البرفورمونس كمفهوم للتجديد وصناعة طريق حديث للمأزق الجمالي في المسرح ومقولة أنه فن بائد مهدّد بالاندثار أمام تسارع تكنولوجيات الفرجة وما توفّره من حلول بديلة عند المتلقّي.
كل أطراف «مسرحية» صمت تتحرك داخل مأزق سؤال كيف نعيد تشكيل القطعة الدرامية بآليات أخرى؟ مأزق يعلن منذ بداية العرض ودخول أوّل متلقٍ ليجد ثلاث مصطبات مختلفة الارتفاع، العلويتان في الجهتين عليها آلات موسيقية والوسطى منخفظة أشبه بجسر عليها مجموعة من المصادح ومختصرة بكراسي المتفرجين، وساعة ذات عقارب معلقة في السقف تشير إلى الساعة 05:57. يجلس عازفان خلف الآلات الموسيقية فوق المصطبتين العاليتين في نقاش مع الممثلة (حالا عمران) يوحي بأنه زمن بروفة على أغنية كلماتها أقرب إلى اللهجة الخليجية. اللحظة الأولى للعلاقة القاعدية للتلقي مبنية على الحضور الواقعي لمكونات العرض الممكنة من ممثلين وديكور وإضاءة وموسيقى في الآن والهنا. وتطلع المتلقي على كواليس التمرين والتحضير.
هل هذه اللحظة هي لحظة بداية العرض شرارتها دخول أول متفرج؟ أم هي تسبق ذلك؟ هي مفردات تحيل إلى مأزق إعادة السؤال عن زمن التلقي وولادة الرابط الفرجوي. إن اشتغال ماكينة العلامات من منطلق التحليل السيميولوجي للعرض يستهل بعد جلوس آخر متفرج على مقعده وإعلان البداية في مختلف الطرق للمتعارف عليها وأشهرها حديثا تركيز الإضاءة على الركح. هل نسلّم هنا أن زمن دخول الجمهور هو زمن هامشي خارج حاجة المنجز المسرحي؟ أو يمكن أن يكون مجالا آخر لكسر البنية الزمكانية الدراما وتحقّق حالة جديدة كعنصر أساسي لهدم الاتفاقيات المتعارف عليها كما ضبطها هانس ثيس ليمان في مؤشرات مسرح ما بعد الدراما.  
إعلان المسرحية أن لحظة التلقي تبدأ بدخول المتفرّج الناظر إلى القاعة (الصالة) والممثل المنظور إليه في انتظاره. في هذا ضرب من الانقلاب على قاعدة تحقق المسرحة المتداولة. إذا نحن إزاء حركة هدم وإعادة بناء اتفاق مختلف ينبئ بأن المنجز هو تجربة مشتركة وأن ما يقدّم هو متأسس عضوياّ على تفاعلات صارت وتصير على الركح لا جاهزية، تامّة مسبقة فيه. 

3- إرباك التصنيف 
خضعت جميع الممارسات الفنيّة إلى تسميات وتصنيفات نظريّة، يتكفّل النشاط النقدي بتأصيلها وحفر دعائم بنيانها. هي عمليّة صنعت من الفن أرخبيلا يعيش تحت موجات التأثر والتأثير بين مختلف أنماطه ومذاهبه. ليخترق هذا الجهد التنظيري الصنف الواحد ويجزئه هو الآخر إلى مدارس وتوجّهات صغرى داخل التصنيف الأكبر. هذه الفكرة التي شكّك فيها وأصبحت محل السؤال في سياق الفرجة التي تستثمر فعل المثاقفة ووصفته بالقولبة القاتلة، وعليه تسعى فنون ما بعد الحداثية إلى كسر الحدود الفاصلة وخلق تقاطعات متعددة التخصصات مركزها فن الأداء عباءته مسرح ما بعد درامي. وإن لم يصل هذا المفهوم الى أن يصبح مذهبا أو نظرية، يعرفه ليمان بأنه شكل جمالي محدث نتاج للأزمات العالمية المتواترة من صعود القادة السياسيين اليمنيين في أروبا، سقوط جدار برلين، الأزمات المالية والمناخية ويضع حروب الشرق الأوسط في قلب هذه الأزمات المساعدة حتى نفهم التمظهرات المعاصرة للعروض المسرحية.  
نرى أن مسرحية صمت تنتمي إلى هذا الحراك الجمالي المنفلت، فكل مكوناتها تنقلب على قواعد الصنف. إذ أنها ليست بالمسرح التقليدي لغياب جزء من المكونات القاعدية ولا هي بالعرض الموسيقي المكتمل، هي حالة بديلة مبنية على التشظي والتجزئة يتحرك فيها الأداء الجسدي والصوتي مرافقا للتصوير الموسيقي من أجل  صياغة حس جمالي للمسرح الجديد والذي يقول فيه ليمان إنه مسرح لا يسعى إلى تحقيق شمولية التركيب الجمالي، وإنما يسعى بالأحرى إلى إضفاء طابع تشذري لهذا التركيب: الشيء الذي يخول له اكتشاف عالم جديد للفرجة، وحضوراً متجدداً للفنانين، وأفقا واسعاً لتطوير مُكونات مسرح ارتكز دوما على الدراما. كيف جاء النفس ما بعد درامي في صمت؟ 

4- انفجار الذاكرة الصامتة 
يقدّم الناقد الألماني بيتر زوندي بأن المسرح الجديد يعمل على إنهاء العمل على الاستهلال والجوقة والخاتمة، هو ضرب لقواعد بنى النص المسرحي الدرامي. وقد عمّق المسرح بعد الدرامي عمليات هدم النص الدرامي والشخصية واللغة أو استبعادهم تماما والاستعانة بالرموز. إذ نجد هذه الأفكار حاضرة بقوة في نص صمت والذي يقدّمه كاتبه/ مخرجه كقصيدة حب لبيروت. بيروت فضاء الحادثة الفاجعة والمتمثّلة في انفجار مرفأها في أوت / أغسطس 2020. هذه الفاجعة التي حرّكت السؤال في فراغ الصمت المولّد لشكل لغوي مختلف. إذ جاء النص في  اتصال صوتي بين محبّين متحدّث وصامتة، مقسّم إلى أربع حركات تكفلت المؤدية بإلقائها على جمهورها المتعدّد والذي يقاسمها فضاء الركح دون حواجز. نص يكسر قاعدة الفعل والقصّة والحوار في تقليدها الأرسطي ويعرض حالة فنية أيديولوجية من خلال تراكيب لغوية رمزية مبتورة لا يكمل نطقها لكنّها تؤدي المعنى. ينصهر في ذلك الشكل مع المضمون انصهارا مكثفا لصياغة دراما حديثة. هذا البتر الذي يصفه مقول النصّ كنوع من الاحتجاج والرفض داخل عملية جلد للذات المسرحية المعرفة ب» كنت عبقرية حين اشتغلت بالمسرح، تخلقين مشاهد مبدعة بخيال واستقاءات لا تنضب، تشرحين السلطة والسياسة.» 
حركة البداية تطرح مباشرة سؤال الالتزام في المسرح وتمظهراته الخارجية والداخليّة. هذا الالتزام الذي قد يكون مريبا ينتج شكلا فنيا مملا وقاتلا لا يتحمل وزر إنتاجه الممثل أو المخرج لوحده فقد يساعده الناقد الغريب في ذلك لصناعة صورة فخمة ذات مرجعيات غريبة عن الجمهور. صورة لفنان برجوازي صديق لدود للسلطة التي ينقدها وتستميله بالجوائز والأوسمة، وهو ما يذكرنا بسؤال إدوارد سعيد عن علاقة المثقف بالسلطان والسلطة: كيف يُخاطب المُثقف السلطة: هل يُخاطبها باعتباره محترفًا ضارعًا إليها، أم باعتباره ضميرَها الهاوي الذي لا يَتلقى مكافأةً عما يفعل؟». 
تحضر بشكل مكثّف في نص بداية العرض إشكال دور المسرحي كجزء من الانتليجنسيا تجاه جمهوره ومع السلطة، ويضعه في مأزق البحث عن الاستقلاليّة وما يعيشه في ذلك من ضغوط اجتماعية تحول دون التزامه المحض الذي يصنف كهراء مجنون مدنّس. تفسير شاعري لمدارات التفكير في الاشتغال على مفهوم الالتزام والمقاومة الفنية داخل مجتمع فصامي يهيب المختلف ويرفضه في ذات اللحظة. 
تنفتح الحركة الثانية في وصف دقيق لبلدة يحتمل من تكثيف الإشارات والتلميحات أنها بيروت، بلدة خارجة من حرب تقع على حوض بحر أشبه بواد الرؤر، لم يشملها التطور كما حال محيطها الجغرافي، يسكنها الفساد السياسي والمالي. في هذا إحالة رمزية على مناخ فضاء الفاجعة من خلال استحضار سجل قول أنقليزي مطبّع مع النطق العربي يشي بحالة نظام التفاهة الممنهج والتغييرات الجذرية على مستوى المجتمع لإعادة السؤال عن أهمية الالتزام وأن يكون الفنان ناقوس تنبيه في هذه المجتمعات المفكّكة. أي حدود للمقاومة الفنية عند فقدان الجمهور وتغيّر عقليته وانزياحها نحو المحافظة الدينيّة والأخلاقية المفبركة. 
تتوغّل ماكينة السؤال في الحركة الثالثة وهو أكثر الحركات طولا زمنيا لتلج فكرة إحساس اغتراب الفنان في وطنه وما اللجوء إلاّ حلّ وهمي لفكّ الرابط العضوي مع مشاكل الوطن وأوجاعه، فحتى لو كان جسد الفنان بعيدا فإن وطنه الذي قسى عليه حاضر في تفكيره إنها المازوشية بيعينها في ثنايا الالتزام والمقاومة. يقع توظيف في هذه الحركة أغنية سياسية أيقونية لصراع الشمال والجنوب ونواة بداية تشكل الوعي التحرّري في المنطقة. أغنية للجبهة الشعبيّة لتحرير عمان تخلّد أحداث ثورة ظفار جنوب عمان في السبعينيات، حيث حاولت هذه الجبهة التحررية وقتها بناء خطّ شعبي للمحافظة على الترابط العربي والمقاومة ضدّ التبعيّة كما عبرت عنه وقتها. هي إعادة تذكير بأحد صراعات المنطقة العربية فيما سمي بالحرب الباردة العربية.
إن استعارة كلمات الأغنية نعتبره شهادة توثيقيّة عن أشكال حضور الفن في دوائر الصراعات السياسية الكبرى واستدعاء لتاريخية الدور الذي لعبته الفنون ومنها الموسيقى في أدبيات الحركات اليسارية في المنطقة. هذه الأغنية التي لعبت نقطة الربط بين الزمن الماضي والزمن الحاضر، حيث كان للفنّ دور تاريخي، أمّا وقد «استقلت» هذه المنطقة وتغيرت هوياتها السياسية وأعلنت سلطاتها الحاكمة شعار الوطنية في الحكم، تعمل على نشر طفرتها الاقتصادية بفضل خيراتها الباطنية، فأي فنّ ملتزم يمكن أن يقدّم بعد سقوط المقولات السياسية يسارها ويمينها؟ كيف يكون للفن دور تأريخي ليس من الجانب الكرونولوجي بل كحافظ للذاكرة الحيّة للشعوب في تغيراتها الاجتماعية والفكرية؟ هل يمكن اعتبار أن كلّ موقف خارج سياقات التزيين والتطبيل لشعارات التطوّر والتقدّم العربي المستقل هو خيانة وزرع للفتنة يصل عقابها حدّ الموت انتحارا أو اغتيالا؟  وعليه هل يكون الصمت مقاومة أو استسلاما أو هو عنف ضدّ العنف؟  
تنتهي الحركة الرابعة بشهادة توثيقية ثانية من خلال استدعاء أبيات من شعر نساء البشتون الأفغانيات مترجمة إلى العربية، والتي يحفظنها ويقلنها سرّا. فهو استحضار للتمرّد من خلال الشعر. إذ عبّر شعر نساء البشتون عن أزمة المرأة في المجتمع الذكوري، والخاضع للتقاليد والأعراف المحرّمة للحب والحرية. فنساء البشتون، شاعرات متمردات بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأشعارهُن تعبير صادق عن الحب والشغف الذي حُرمن منه، فكان الشعر سببا في التمرد على قانون الرجال للإفصاح عن الحب. 
الحركة الرابعة هي لحظة الذروة والتقاء مساري حركات النص انفجار المرفأ وانفجار الصامتة تمرّدا وكشفا للمسكوت.

5- ثمة نافذة مطلّة على البريشتيّة
إن ادعاءنا السابق بانتماء مسرحية صمت إلى سياق مسرح ما بعد الدراما المستند شكلا ومضمونا إلى الأدائية كمنهج جمالي، فإننا لا ننفي حضور الرؤية البريشتيّة في جميع مفاصل العرض. فالتمظهرات ما بعد درامية تستمد جذورها من الملحمية البريشتيّة حتى أن ليمان في حديثه عن المسألة يطرحها كمرحلة ما بعد بريشتية ليس بمنطق القطع الزمني ونسيان الماضي التقليدي كما فسرته الناقدة المقدمة للترجمة الإنقليزية لكتاب ليمان كارين يوريس-مونبي. 
نجد في عرض صمت تسرّب آليات المسرحية البريشتيّة، إذ يتّخذ البسام المسرح كأداة لتفسير البنيات الفكرية للبيئة الاجتماعية وفضح الوعي الزائف فيها من خلال منهج جدلي قائم على الأطروحة ونقيضها ثم الاستنتاج، ملخص في جملة الأسئلة الواردة في حركات النصّ. فماهي الآليات الإخراجية البريشتيّة المعتمدة لهيكلة البناء العام؟ 
كما أسلفنا الذكر ينطلق العرض بدخول الجمهور على فضاء بروفة ندركها من خلال السينوغرافيا المقترحة في الآلات الموسيقية الموضوعة وترسانة من المصادح (ميكروفونات) تبعث السؤال عن دواعي وكيفية استعمالها. تؤكد فكرة البروفة حوارات التعديل بين الممثلة والعازفين، في ذلك نفي لدلالات فضاء درامي متوقّع. كما يحيط بالمصطبات في جهتي الركح كراسي لجلوس الجمهور. وهي آلية بريشتية لكسر الحاجز الوهمي وحضور المتلقي كمراقب  لتركيبية أحداث المسرحية. هي مواجهة مباشرة بين المؤدين ومشاهديهم لخلق حالة الوعي واليقظة إحدى أهم مقولات المسرح الملحمي التي يذكرها والتر بنيامين بقوله «فالمسرح الملحمي يضع في اعتباره حالة تمّ إهمالها كثيرا وتتمثّل في ملء خندق الأوركسترا. هذه الهوة التي تفرق بين الممثلين والجمهور.» 
يستعمل الإخراج إلى أداة المصدح (المايكروفون) في جميع مفاصل فضائه السمعي وهو أداة مجربة سابقا (اروين بيسكاتور، بيتر فايس) تسند الروح التغريبية للعرض لتنبيه المتفرج بأن ما يشاهده ليس دراما بالمعنى التقليدي هو استعراض مباشر لعملية مونتاج لشذرات الحكاية، لتساعد التأثيرات التكنولوجية المتوفرة في أجهزة التحكم في الصوت المستعملة من نجاعة المنحى التغريبي من خلال التفخيم والصدى الاصطناعي وغيرها. هذا المصدح الذي استعمله المخرج في افتتاحيته والإعلان بشكل مكشوف عن مكونات عرضه من سؤال الأطروحة وصولا إلى أسماء المؤدين الحقيقية. فهو عرض يتناول فكرة بعينها ويقدمها شخوص الفنانين علي حوت وعبد القبيسي وحلا عمران، لا يتلبسون شخصيات درامية وهميّة وحمل كل ما سيقع بعد ذلك على السردية الملحميّة. 
تربط عملية المونتاج المشتغل عليها بين الجانب الأدائي الحيّ وقرينه الوثائقي من خلال شهادات مسجلة للعقيد اللبناني المتقاعد إلياس فرحات وخبير المتفجرات الأمريكي اللّذين تكفّلا بمهمة السرد حول وقائع انفجار مرفأ بيروت والتحاليل العلمية المحيطة بالموضوع. وثائق مثّلت قوة دفع لحركات النص والخيط الناظم للدراماتورجيا البريشتيّة. كما حضرت كمسار زمني تاريخي للحكاية -مرتبطة كرونولوجيا بدوران عقارب الساعة المعلقة فوق الركح- يصطدم بالزمن الحقيقي الذي يعيشه المتلقي مع المؤدين وكأن للحكاية الموثقة زمنها الخاصّ المتشظّي يقابله زمن حقيقي متّصل. 
بالعودة إلى مقترح الأدائية (البرفورمونس) الموظف في مسرحية صمت نراه هو الآخر ينهل من الملحميّة البريشتيّة، حيث تحضر الموسيقى بصفة أساسية عبر الجمل اللحنية أو التجريد الصوتي وتستحوذ على الجسم الأكبر داخل العرض. إذ جاءت الموسيقى كآلة حرب دمرت كل ما هو سويّ ومكتمل هي النصّ المعارض المتستر الذي طبع هويّة العرض وتحكم في كل مفاصله. 
ثنائية النغميّة والتجريد هي مركز الرحلة الأدائية التي خاضتها حلا عمران صحبة علي حوت وعبد القبيسي، تكفلت الأولى بتمزيق كلام النص وإعادة بناء إيقاعية إنشائية تلملم شظايا الدراما عبر توظيف إمكانياتها الصوتية الطبيعيّة، في حين اشتغل الاثنان على الصياغة الآلاتية الإلكترونيّة تقطع مع التبعية التصويرية وتتخذ مكانها الناجع داخل دراماتورجيا العرض. 
إن الكتابة الركحية هي مسؤولية كما يحددها بريشت، فهي مسؤولة عن كل ما يلتزم به الإخراج لينضبط إلى أسلوبية موحّدة، وهو ما نراه ونسمعه في مسرحية صمت، فكل ردهات العرض تقف على ناصية الجدل وتوليد السؤال من السؤال. سؤال الجدوى حتى يقوم المسرح بدوره التثويري وإعادة صياغة الوعي تجاه القضايا الكبرى. 

الإحالات المرجعية 
- Hans-Thies Lehmann, Le Théâtre postdramatique (1999), texte français par Philippe- Henri Ledru, L’Arche, 2002.
- Peter Szondi, Théorie du drame moderne 1880-1950, Lausanne, L’ âge d’homme, 1983.
- إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006. 
- جورج لوكاتش، تاريخ تطور الدراما الحديثة، ج 1، ترجمة كمال الدين عياد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016.
- تأملات في مسرح ما بعد الدراما، باتريس بافيس، ترجمة المبارك غروسي، دراسات الفرجة، 2020
- ما هو المسرح الملحمي؟ والتر بنيامين، ترجمة عبد الحليم المسعودي، الحياة الثقافية، العدد 155، 2004.
- مسرح ما بعد الدراما، وشعراء الخشبة، محمد سيف، (نسخة خاصة)
- هل المسرح بعد الدرامي بعد بريختي؟ مايكل فيرناندو، ترجمة أحمد عبد الفتاح، مسرحنا، العدد 808، 2023. 


لنزار السعيدي