السيرة الهلامية.. هزلية هاملت تهز عرش التراجيديا الكلاسيكية

السيرة الهلامية.. هزلية هاملت تهز عرش التراجيديا الكلاسيكية

العدد 545 صدر بتاريخ 1فبراير2018


تأتي مسرحية “السيرة الهلامية” التي يقدمها مسرح الطليعة الآن، كثورة جمالية عارمة يبعثها المخرج محمد الصغير والمؤلف حسن محمد، ليهديا المسرح المصري قطعة فنية شرسة مشاغبة، خرجت عن سياق التجارب المألوفة الناعمة، لتواجهنا بانقلاب جذري على المفاهيم الكلاسيكية، واختراق لهيمنة الوقار التراجيدي، وكسر لكل قواعد الرونق والبهاء، وصولا إلى تلك الحالة العقلية الباحثة عن الوعي والذات والكيان، في زمننا المشوه المسكون بالتناقضات.
تناول المؤلف مسرحية “هاملت” شكسبير، النص التراجيدي الأشهر في تاريخ المسرح العالمي، باعتباره من الأعمال المثيرة للجدل والتساؤلات، المسكونة بالصراع والمشاعر وعمق التناقضات، واتجه حسن محمد إلى مغامرته المثيرة المشاغبة، فدخل هذا العالم المأساوي المخيف، ليحول التراجيديا الدامية، عبر بصمات لغته الفريدة، إلى حالة هزلية صاخبة، تنتمي إلى البيرلسك والجروتسك، فهز عرش اللغة الكلاسيكية الأنيقة، وحطم أيقونات شكسبير المثيرة، ليكتب الشباب والصبايا رؤاهم الخاصة الساكنة في قلب واقعنا الشرس العنيد، ورغم ذلك كان شكسبير حاضرا بقوة في أحداث وشخصيات الحالة الفنية, التي جاءت كابنة شرعية لزمن الخلل والتشوه والقهر والاستلاب والضياع.
يفرض فعل إبداع هذه التجربة أن يكون المخرج على معرفة واسعة بفلسفة التراجيديا وطبيعتها الجمالية، وأن يكون مدركا أيضا لأسرار الكوميديا الهزلية ومفاهيم البيرلسك والجروتسك، من حيث التقنيات والأهداف والفلسفة المضادة، تلك الحالة التي تحققت بالفعل في “السيرة الهلامية”، التي أثارت إعجاب الجمهور، وبعثت ردود فعل مختلفة في الأوساط المسرحية، حيث تقدير المدركين لجماليات وفلسفة هذه التجربة، ورفض البعض الآخر لتيارات الضحك والهزل وتشويه الشخصيات التي عرفوها، ولا تزال تسكن وجدانهم. وفي هذا السياق تأتي تجربة محمد الصغير، كإرهاص بعبقرية مدهشة، تموج بالثورة والوعي وسحر الخيال، فالحياة كانت ترقص فرحا في مسرح الطليعة، مع المخرج الذي أبحر ضد التيار، بعد أن امتلك خصوصيته المتفردة، وبصماته اللافتة وضرباته الجريئة الساخنة، وإذا كان تناول الأعمال الكبرى من تراث المسرح العالمي، هو مواجهة للتحديات الفنية الحقيقية، فإن تجربة “السيرة الهلامية”، قد تجاوزت هذه الأزمة، ولم تقدم مأساة هاملت الأمير الشاب الأنيق الرومانسي المتردد، لكنها قدمت ملهاة ابن العمدة الصعيدي هراس، المتردد أيضا في الانتقام ممن خانوا أبيه.
يهتز عرش اللغة الشعرية الأنيقة، ونصبح أمام لغة عامية صعيدية بسيطة، كتبها محمد حسن، الذي قرر الانحياز لإيقاعات زمننا المخيف، ومن المؤكد أن مبررات انقلاب المؤلف والمخرج على التراجيديا وإيقاعات المأساة هي الإدراك الحاد لطبيعة وجودنا الثقافي والسياسي والاجتماعي، الذي تحول إلى نوع من الكاريكاتير الإنساني المثقل بالخلل والتناقضات، فالعالم من حولنا أصبح ساحة تتفجر بالانهيارات، لذلك اتجه شباب السيرة الهلامية إلى الهزل بمفهومه العلمي، أعلنوا العصيان على هيمنة الرضوخ، واندفعوا إلى التفاعل الحركي والخطوط اللاهثة، تجاوزوا مفاهيم الإيهام والتوحد، وخرجوا من أسر الجدية والحس المأساوي، بحثا عن الرؤى المضادة المشحونة بلغة المفارقة الساخنة والسخرية اللاذعة، والجروتسك الشرس، والبيرلسك المشاغب. وفي هذا السياق، نجد أن الجروتسك يسكن قلب عالم المأساة، ولكن تبقى رؤية العالم التراجيدية هي تأكيد للثابت والمطلق، بينما الرؤية الجروتسكية هي نقد وانتهاك واختراق للثابت والكائن، ورغم أن الجروتسك يتبنى تيمات المأساة، ويطرح نفس تساؤلاتها، فإن الإجابات تأتي دائما مختلفة.
هكذا كان المخرج مختلفا في طرح تساؤلاته، بارعا في الأسلوب الذي وضع به الشخصيات في مواجهة الحياة، فالقيم الإنسانية هشة وضعيفة، والوجود أقوى من البشر، والسياسة هي فن القبض على السلطة، والاحتفاظ بها، والحياة مسرحية، والمسرح ممارسة علنية لفعل الحرية. وفي هذا الإطار، تمتد المحاكاة الساخرة للتراجيديا الساخنة الشهيرة، عبر استدعاء آخر شديد السخرية للسيرة الهلالية، التي تعد نموذجا مثاليا للبطولة والقوة والفروسية، تلك الحالة التي تفجر المفارقات الدالة المتوترة، حيث أبو زيد الهلالي، الشخصية المهيبة الثرية القوية المفزعة، التي نراها أمامنا في صورتها النقيضة، المسكونة بالضعف والانكسار والعجز والخلل.
تتبلور وقائع البيرلسك، وتتصاعد إيقاعات الجروتسك، وتتردد ضحكات الجمهور، الذي يتابع حكاية هاملت الصعيدي، التي يلقيها الراوي وترددها الجوقة، حيث تتخذ الأحداث مسارها في إطار تشكيل سينوغرافي شديد البساطة والدلالة، يستدعي كل إيحاءات البراءة والبكارة والجمال، الإطار الأمامي لمقدمة القاعة يرتكز على جماليات تكرار الوحدات الهندسية للمثلثات الصغيرة البراقة، التي تحيل بشكل مباشر إلى أجواء صعيد مصر، بينما يشهد العمق حضورا قويا للمنصة، التي تشغلها الجوقة المدهشة، ويقف أمامها الراوي يغني بأسلوب السيرة الشعبية، فيتقاطع الضوء مع الموسيقى، وتنطلق موجات الحياة عبر الحركة والاستعراض والغناء، وتقاطعات الأداء التمثيلي المتميز، لنتعرف على الصراع الأساسي والشخصيات، التي كتبها شكسبير ولونها محمد الصغير بألوان واقعنا الحالي، فيعلم المتلقي حادثة قتل الملك على يد شقيقه، التي هي حادثة قتل العمدة على يد أخيه، ثم زواجه المثير للشكوك من أرملة شقيقه.
تمتد إيقاعات الوهج المجنون، وتتصاعد الرؤى الساخرة عبر تمثيل الأحداث أمام الجمهور، بدلا من روايتها بالغناء، ورغم ذلك يظل الراوي حاضرا بقوة في قلب المشاهد اللاهثة، ليقدم الأحداث أو يعلق عليها، وإذا كان البيرلسك يعتمد بشكل أساسي على التصوير الكاريكاتوري للنص الذي يحاكيه، ويقدم الحبكة الأصلية والأحداث الرئيسية بصورة ساخرة، فإن هذا بالتحديد هو ما فعلته السيرة الهلامية، التي لا تختلف مع حبكة هاملت شكسبير. وفي هذا السياق، اتجه منظور الإخراج إلى المبالغة الشرسة قي كل مفردات العرض, فرأينا كل ممثل يقدم الشخصية التي سيلعبها، بصورة واضحة، مشيرا إلى الصفة التي تميزها، وكيف سيتم تضخيمها بأسلوب مبالغ فيه، تلك الحالة التي امتدت بالطبع إلى الأداء والانفعالات والمشاعر والملابس والمكياج والألوان. وفي هذا السياق، كان هاملت هو هراس ابن العمدة الصعيدي، الشاب البدين جدا، صاحب الصوت الحاد الرفيع المضحك، يفتقد القدرة تماما على الفعل، ويعجز عن التفكير في أي اتجاه، يكاد يقترب من البلاهة والغباء، ذلك التكوين الذي فجر موجات الضحك الهستيري، الذي لامسناه بقوة في حواره مع شبح أبيه الباحث عن الثأر، بينما هراس الابن يؤكد أن زواج أمه من عمه هو ستر لها.
كانت المبالغات الجسدية في تكوين الشخصيات، باعثة لحالة من الجروتسك الشرس، فرأينا الأم جرترود، التي لعب دورها في السيرة الهلامية، ذلك الشاب القوي، حيث الصدر الضخم والأرداف الكبيرة، والمرأة المفزعة، المسكونة بالشهوة الفجة والرغبات العارمة، التي تكاد تحولها إلى عاهرة، أما كلوديوس العم فهو رجل ضعيف قصير ونحيف، يكرس لمبدأ التضاد الشكلي المثير لنوبات الضحك والإدراك، ويذكر أن أوفيليا الرقيقة الجميلة العاشقة، قد تحولت إلى سنية، التي تفتقد كل ملامح الرقة والجمال، أما أخوها لايرتس فقد عرفناه في السيرة باسم لؤي، مغني الراب المشاغب الجميل، وعبر هذه الشخصيات يأخذنا العرض إلى تلك اللحظة الفارقة، التي تحدث في أعماق هراس، والتي تتجسد جماليا عبر ظهور ممثل آخر هو النسخة المغايرة من هراس الضعيف، نراه مختلفا نفسيا وجسمانيا، فهو رشيق طويل متوتر، حاد الملامح والمشاعر، وحين نلتقي بتلك الشخصية الجديدة الثالثة لهراس، نصبح أمام بعد آخر للصراع العنيد، الذي يجسد السؤال الوجودي القاسي، أكون أو لا أكون، تلك هي المشكلة.
تقترب التجربة الشابة من نهايتها، وتمتزج إيقاعات الراب العصرية، بالدقات والإيقاعات والموسيقى والعلامات الميتاثياترية الدالة، ويظل المتلقي في حالة دهشة وتساؤل وضحك وانفعال، بتلك التجربة الثرية الجديدة المبهرة، التي طرحت نفس تساؤلات شكسبير، لتأتي الإجابات المغايرة عبر شراسة وجماليات البيرلسك والجروتسك.
شارك في المسرحية مجموعة من الفنانين المتميزين، مثل محمد إبراهيم، رأفت سعيد، محمود المصري، رامي عبد المقصود، حسن عبد الله، بلال علي، مصطفى السعيد، مها حمدي، ومحمود سليمان.
كان الديكور لمصطفى حامد، والتعبير الحركي لسمير وجوليا، والملابس لهبة مجدي.
 

 


وفاء كمالو