العدد 855 صدر بتاريخ 15يناير2024
تمثل الكاتبة المسرحية السعودية ملحة عبد الله حالة خاصة في الكتابة المسرحية العربية، فهي أول كاتبة سعودية تبرز في هذا المجال، كما يتميز خطابها المسرحي بسمات فنية تمنحه مزيدا من الخصوصية، فهو مسرح كاشف وراصد للعلاقات الاجتماعية، في منطقة الجزيرة العربية، وكاشف لكثير من سمات تلك المنطقة من خلال مناقشة العادات والتقاليد، ومزج فضاء الكتابة بفضاء المقول الشفاهي، مع التأكيد على خصوصية المكان، والزمان والإنسان.
ومن خلال أعمالها المختلفة مثل “شبة النار” و”مواطن رغم أنفه” و”التميمة “و”السور “و”عالم يفط يفط”، نجد محاورة للواقع، بطريقة تعتمد على التشفير النصي، واستخدام بنية العلامات للوصول إلى فضاءات أرحب للتلقي.
في مسرحيتها” شبة النار “تلعب” ملحة عبد الله” على عنصري الزمان والمكان، وتحملهما بكثير من الدلالات، فالزمن المسرحي في هذا النص، هو العصر العثماني، حين كانت المنطقة تابعة للخلافة العثمانية، وكان لكل بلد والٍ يحكمها ومعين من قبل السلطان العثماني، ما كان يطلق عليه )الباب العالي.(
تؤكد المسرحية على خصوصية الطابع القبلي للمنطقة، بما لها من أعراف وتقاليد من الصعب تغييرها، كما تؤكد على خصوصية فنون الجزيرة العربية الفلكلورية.
ولو تصفحنا وتأملنا ما ذكره المؤرخون في الكتب الفنية القديمة التي تحكي عن سير الفن والفنون ورواده وأساطينه في العالم العربي لوجدنا الكثير عن فنون وألعاب ورقصات العرب في شبه الجزيرة العربية، أي سكان المملكة العربية السعودية، وما كانوا يمارسونه ويؤدونه من غناء وأهازيج فردية وجماعية، حيث يتضح أن عرب شبه الجزيرة العربية آنذاك كانوا سباقين إلى ابتكار الرقصات والألعاب والحركات مع الغناء والنشيد والأهازيج المختلفة.(1)
وإذا كانت بداية الغناء العربي بدأت بالحداء والنصب والهزج والرجز بمصاحبة الطبول والطيران والدفوف والمزامير والرقص والتصفيق ثم تطورت بتطور الآلات الموسيقية المستخدمة من المعازف التطريبية المختلفة كآلات النفخ والمزمار والنفير والناي والقصاب والبوق والقرون والصنوج والمزاهر والرباب والأعواد وغيرها، وكانت تؤدي بشكل جماعي على هيئة فرق ومجموعات متحدة كالجوقات متكاملة ومتكاتفة فيما بينها للتعبير عن بواعث الفرح والسرور في المناسبات والحفلات والأعياد يصاحبها الرقص والألعاب والاستعراض الحركي والجسماني يشترك فيه الكبير والصغير بالهتاف والتصفيق والغناء الجماعي الذي يعتبر في حد ذاته هو الأصل والنواة والأساس للفن الشعبي.(2)
وقد أوردت “ملحة عبد الله” عددا من الطقوس الشعبية التي تعتمد على مفردات وفنون فلكلورية مثل “طقس شبة النار”، وهو تجمع كل القبائل على النار ليلة رأس السنة الهجرية، وترقص أجمل البنات على النار وتكون عروس شبة النار هي خيرة بنات القبائل في كل شيء، ترقص هي داخل حلقة النار، وتراقص خيرة شباب القبائل، وتضربهم بسوطها ليخرجوا من الحلقة حتى يبقى خيرة شباب القبيلة تحملا وشرفا.
ومن خلال هذا الطقس تردد مجموعة من الأهازيخ والأغاني الشعبية والتي تغنى مع إيقاعات الطبول، وقد أوردت “ملحة عبد الله” عددا من هذه الأهازيج ووظفتها في بنية العمل الدرامي، ومنها هذه الأهزوجة:
“يا الله إني بطلبك شمس وصحو/ بين طيات السحاب الملتهب/ يوم يرجف رعد ويحمحم برد/ نحو غيمات يزاحمهم مطر”.
وقد تم استخدام هذا الطقس كخدعة من أجل تأكيد فكرة الحرية والاستقلالية، والوقوف ضد أطماع قبيلة في السيطرة على باقي القبائل، وضد أطماع الوالي العثماني في نشر الفرقة بين القبائل، حتى تتحقق له السيطرة من خلال تطبيق النظرية الاستعمارية “فرق تسد”.
تؤدي “مهرة” رقصة شبة النار، لتفدي القبائل من الصراع والدمار والحرب الأهلية المستعرة، وفي النهاية تلقي بخاتم الزعامة الذي ورثته عن أبيها “الشيخ سالم” وكان طامعا فيه عمها “الشيخ يوسف” وآذاها كثيرا بسببه، وقتلها في النهاية بسيفه لأنها رمت الخاتم في النار ليحترق، من أجل أن ينتهي الصراع.
تنتقد المسرحية وبشدة، فكرة الصراع القبلي، وفكرة اللجوء للمستعمر، والمعروف بأطماعه، ويريد التفرقة بين أهل المكان الواحد.
هذا النص يحمل رسالة مهمة وهي أن الوحدة هي السبيل الناجح لمواجهة أي خطر، لأن المستعمر لا يريد هذه الوحدة، وهذا ما تؤكده الكاتبة على لسان “الوالي” حين يقول:
“هذه القبائل حين تعلم بوجود خاتم السيادة في قبائل العوسج ستتحد جميعها وهذا الاتحاد يشكل خطرا يهددنا نحن.. كما أننا سنستفيد من قوة شوكة العوسج.. فهم عونا لنا على قبائلهم وإن كان سرا”(2)
وهذا الخيط الدرامي المهم المتصل بضرورة تطبيق القيم الإنسانية والتكامل الإنساني هو جزء أصيل من الخطاب المسرحي عند “ملحة عبد الله”، حتى في مسرحيتها “جوكاستا” والتي استلهمت فيها أسطورة” أويب” تلك الأسطورة التي شغلت كتاب المسرح منذ” سوفوكليس”، وفي العصر الحديث وجدنا استلهامات متعددة لها مثل” الملك أوديب “لتوفيق الحكيم، و”عودة الغائب” لفوزي فهمي، و”أوديب والقربان المقدس” لعصام عبد العزيز، وجاءت” جوكستا” لملحة عبد الله لتفتح قوسا جديدا برؤية مختلفة لهذه الأسطورة، التي دارت في”طيبة” أشهر الممالك اليونانية القديمة، تلك الأسطورة التي تربط عالم الإنسان بالكون كله بخيوط تشبه خيوط العنكبوت، رغم قوتها إلا أنها في منتهى القوة والمتانة والتشابك أيضا.
في مسرحية” ملحة عبد الله “نرى أن شخصية أوديب لم تكن وحدها التي عانت من المصير التعس، وإنما البلدة جميعها، وهناك قلب لبعض أحداث الأسطورة داخل نصها المسرحي، فأوديب في المسرحية ليس ابنا للملك “لايوس “بل هو ابن خطيئة مارستها” جوكوستا” مع العراف” ترزياس”، كما أنها لم تعط مجالا للكورس، كأحد أبطال مسرحية” أوديب ملكا” لسوفوكليس، بل جعلت من الحوار العنصر الأساسي لبنية النص المسرحي.
كما أن” ملحة عبدالله “لعبت على بنية السؤال، من أجل تفجير الأحداث، وضخ دماء جديدة في البنية الدرامية، كما أنها أعطت مساحة كبيرة لما يمكن أن أسميه “حوار الهامش”، فجعلت عددا من أفراد الشعب مؤثرين في تطور الأحداث، مثل” تميرا” خادمة” جوكاستا”، و”الخادمان مندرين وإكتافيوس”
وإذا كان” أوديب” في مسرحية “توفيق الحكيم” يظهر عاريا من البطولة، ومنغمسا في الأكاذيب، فهو عند” ملحة عبد الله” يبدو شخصا عاديا، حيث تجعل من الحدث هو البطل، وليس “أوديب”، كما أنها تترك النهاية مفتوحة، فلا يفقأ” أوديب” عينيه تكفيرا عن خطيئته، ولا تقتل “جوكوستا” نفسها، فالمشهد الأخير عندها، يخرج أوديب من غرفة الاعتراف، ويسمع كلام جوكوستا، وهو يصرخ قائلا: “آماه يالقسوة الحياة”(3).
....
وتهتم” ملحة عبد الله” كذلك بالتجريب المسرحي، وما بين الحين والآخر تقدم لنا نصا، تجريبيا كما في مسرحية “التميمة”، فهي نص ينتمي إلى “مسرح العبث”، حيث يعتمد على كثافة اللغة، لتوليد دلالة وفضاءات مسرحية موازية لهذه اللغة شديدة التقطير، شديدة الغموض، لكنها تحمل شفراتها الجمالية، لتفعيل ما يسمى “الدوال الغائبة” والتي تنتمي إلى النموذج المعرفي الإبدالي، والذي يحمل في ثناياه “شفرات تميل إلى الاحتفاء بالتضمين، والإيحاء، وتنوع التفسيرات”.
كما تستخدم ما يسميه “دريدا” “الإحالة إلى معنى خارج النص”، فالمسرحية تدور في مكان غرائبي وفي إطار ميتافيزيقي، خارج الزمن، فالحدث الدرامي -الذي يكتنفه الغموض والتشظي- يدور حول شخصية الأب الغائب والمفتقد، منذ سنين طويلة، تاركا الأم وابنتها في غرفة مغلقة، قد صدأ بابها، بينما العقارب والثعابين تنتظر في الخارج من يفتح هذا الباب، الذي يقف عليه “حارس القطار” والذي يتضح بعد انهيار جدران الغرفة أنه الأب المنتظر.
هذه البنية العجائبية/ العبثية، لا تبوح بسرها للوهلة الأولى بل تحتاج إلى قارئ مختلف، وبالتالي - حين تحويلها إلى عرض مسرحي - تحتاج إلى مشاهد من نوع مختلف، مدرك لطبيعة مثل هذه النصوص المركبة.
وينتمي هذا النص المسرحي إلى ما يطلق عليه “النصوص المعرفية”، والتي تحمل في طياتها تمثيلات معرفية، على نحو لا مناص منه، وكل من هذه التمثيلات المعرفية يكون له دافعه المحرك له الذي يستند إليه، كما أنه يكون متماسا تاريخيا مع تمثيلات أخرى.
وهذه الفكرة التي استخدمتها” ملحة عبد الله” في هذا النص، هي فكرة حداثية، حيث نجد النص المسرحي يستنهض خيال القارئ، بل ويلمس أعماق اللاوعي التي لا تصل إليها الكلمات.
وذلك من أجل توصيل رسالة معينة وفكرة أصيلة مفادها، أن التعلق بالماضي قد لا يفيد في معظم الأحيان، وأن الخوف من المجهول قد يؤدي إلى النهاية الحتمية، وأن التوجس والحذر قد يقتل المعاني الجميلة في النفس الإنسانية، وأن البحث عن دور في الحياة ينبع من تأكيد الذات لا من التعلق بأذيال الآخرين.
كل هذه المعاني يمكن استخلاصها من هذا النص المكثف متعدد الدلالات، والقابل لتأويلات كثيرة.
الهوامش:
-1طارق عبد الحكيم، إساعيل عيسى حسناوي :موسوعة الفلكلورات والأهازيج الشعبية وإيقاعاتها المختلفة في المملكة العربية السعودية - جدة- 1434هـ- ص 29
-2 طارق عبد الحكيم، إساعيل عيسى حسناوي: موسوعة الفلكلورات والأهازيج الشعبية وإيقاعاتها المختلفة في المملكة العربية السعودية - جدة- 1434هـ - ص29
-3د. ملحة عبد الله: مؤلفات سيدة المسرح السعودي ملحة عبد الله - المجلد الثاني - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2002م- مسرحية شبة النار - ص259.
-4مؤلفات ملحة عبد الله :مصدر سابق- ص92.