«الجريمة والعقاب».. كيف تتحقق العدالة؟

«الجريمة والعقاب»..   كيف تتحقق العدالة؟

العدد 846 صدر بتاريخ 13نوفمبر2023

  عن رواية الجريمة والعقاب التي تعتبر من أشهر وأهم الروايات التي كتبها الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821م – 1881م)، وهي رواية اجتماعية فلسفية ونفسية، وقد قدمت السينما المصرية عن الرواية فيلما يحمل نفس الاسم سنة 1957م، وفي سنة 1977م قدمت فيلما آخر بعنوان سونيا والمجنون، وعن الرواية أيضاً قُدم على مسرح نهاد صليحة التابع لأكاديمية الفنون باكورة إنتاجه العرض المسرحي الجريمة والعقاب من إعداد (مارلين كامبل وكيرت كولومبوس) وترجمة (طارق عمار) ومن إخراج عماد علواني، وقد قام المعدان بتكثيف شخصيات الرواية وجعل ثلاثة ممثلين فقط يؤدون جميع الشخصيات التي اختاراها في إعدادهما، فنجد الممثلة (نغم صالح) تؤدي أربع شخصيات وهم: (سونيا الأنثى التي تحترف البغاء، ليزافيتا فتاة إدراكها العقلي أقل من عمرها فهي تعاني من اضطراب عقلي وتلعثم في الكلام، أليونا مرابية مسنة وهي الشقيقة الكبرى لليزافيتا وتستغل حاجة البشر للمال وتقرضهم بالربا بضمان مقتنياتهم الخاصة، الأم وهي أم راسكولينكوف)، ويقوم (كريم أدريانو) بأداء أربع شخصيات وهم: (المحقق بورفيري، مارميلادوف والد سونيا، والشبح الذي يطارد راسكولينكوف، والسيدة المسنة نستاميا التي كانت تطرق باب منزل أليونا لترهن مقتنيات خاصة بها) ويؤدي (عبد الله سعد) شخصية (راسكولينكوف) الذي يعيش في ضائقة مالية ولديه أفكار معينة جعلته يقتل المرابية أليونا.
  حاول المعدان التأكيد على الأسئلة التي طرحتها الرواية التي لها علاقة بالوجود والإله بالتركيز على الجانب الديني، فقد كان دستويفسكي منحازاً لمواضيع دينية وخاصة تلك المواضيع الخاصة بالأرثوذكسية الروسية.
  جاءت فكرة العرض مطابقة لفكرة الرواية الرئيسية عن الأشخاص العاديين والأشخاص غير العاديين (الاستثنائيين) وظهر ذلك من خلال شخصية راسكولينكوف الذي قام بقتل أليونا السيدة المرابية حتى يختبر نظريته في تصنيف البشر إلى العاديين وغير العاديين (الاستثنائيين) وحق كل منهم، ولهذا نستطيع  تصنيفه على أنه شخص استثنائي ولديه فكرة ما، ولذلك يطرح سؤالا مباشرا على المتلقي (راسكولينكوف: أريد أن أطرح عليكم سؤالاً مهماً في جانب لدينا امرأة عجوز عديمة القيمة، عديمة الفائدة، حقيرة ومريضة ومريعة، وعلى الجانب الآخر حياة الشبان تتمزق لأنهم لا يجدون ما يكفي من الأكل، اقتلها وخذ مالها، وبمالها كرس نفسك لخدمة البشر، أليس موت واحد لا يساوي شيئاً في مقابل مئة حياة؟) وسأل أيضاً: هل تفهم معنى ألا يكون لك مكان تلجأ إليه؟ ولذلك قتل أليونا، لكنه اكتشف في النهاية أنه مخطئ في منطقه بتصنيفه للبشر، فالبشر مختلفون منهم من ليس له فكر وقاسي القلب ومنهم من هو عكس ذلك، وليس من حق أحد أن يصدر حكما على الآخر لمجرد أنه لا يتفق مع منطقه أو تصرفاته، فالقانون هو الحاكم للبشر ويوقع العقاب على المخطئ، ومن خلال أن المحقق قد قرأ مصادفة مقالاً في إحدى الصحف لرسكولينكوف الذي يحكي فيه عن نفسية المجرم قبل ارتكاب الجريمة وبعدها، وبذكاء المحقق وإجادته للحيل والألعاب النفسية على المتهمين جعله يعترف بجريمته، كما كان تأثير سونيا عليه بأن جعلته يشعر بالذنب، ويسلم نفسه ويعترف بجريمته ليتخلص من الذنب الذي ارتكبه وعذاب ضميره.
  كيف حقق المخرج رؤيته؟
بدأ العرض بظهور راسكولينكوف يجلس على ركبتيه في منتصف مقدمة المسرح وعن يمينه تقف سونيا وعن يساره يقف المحقق بورفيري وقد سلط عليهم بؤرة ضوئية وقام كلٌ من سونيا وبورفيري بتوجيه أسئلة لراسكولينكوف وانتهى العرض على نفس الصورة للتأكيد على لحظة المعاناة والعذاب النفسي لشخصية راسكولينكوف بجلد الذات في لحظة ما، ومن خلال هذه اللحظة سرد لنا المخرج جميع الأحداث ثم عاد لنفس اللحظة، والسؤال هل تلك الشخصيات هي شخوص درامية حقيقية، أم هي أسئلة وصور درامية تجسدت في رأس راسكنيلكوف، ويترك الرأي للمتلقي؛ ولكن من وجهة نظرنا أعتقد أنها كانت صورا لشخوص درامية تجسدت في رأس وعقل راسكولينكوف، حيث ظهر لنا ذلك من خلال عرض المخرج للأحداث ورسمه للحركة، فقد كان دائم العودة بالزمان إلى الماضي بواسطة تقنية الفلاش باك السينمائية، وقد استخدام صيغا مختلفة، منها صيغة حكي الأحداث بطريقة واعية تماماً، أو تذكرها بواسطة هلاوس تمر في عقله، وتذكر اللحظات المأساوية التي مرت في حياته، فالعرض متصل منفصل ولا يستطيع المتلقي أن يفصل بين الواقع والخيال، فطبيعة هذه الشخصية من نوعية شخصيات السيكودراما، وهي شخصية متشظية.   
  أما الديكور (هشام عادل) فكان عبارة عن منظر واحد ثابت مقسم إلى عدة أماكن، وهو عبارة عن (برتكبل) وُضع بطول عمق المسرح بارتفاع 80 سم تقريباً وفي المنتصف يوجد باب وأمامه أسفل (البرتكبل) وضع ثلاث درجات سلم وعن اليمين برواز من الخشب له سقف ووضع بداخله سريرا، وخلفه مكان يمثل منزل أليونا المرابية وعند النزول على درجات السلم يعبر المكان عن منزل راسكولنيكوف الذي يسكن في البدروم (راسكولينكوف: غرفتي تقع تحت سلم الطابق العلوي.. بها نافذة واحدة لا يدخلها الكثير من الضوء)، وعن اليسار وضع بروازا مشابها ووضع بداخلة كنبة ليعبر عن منزل أم راسكولنيكوف، وعن يسار مقدمة المسرح وضع مكتبا وكرسيين وخلفهم باب ليعبر عن مكان التحقيق، كما عبر عن جزء داخل منزل راسكولينكوف، أو المرابية أليونا، أو جزء من الحانة وعن يسار المكتب وضع (بوفاً) يمثل مقعدا بالحانة، وخلف باب المكتب يوجد ممر يعبر عن مكان ما بمبنى الشرطة. وقد حاول المخرج قدر المستطاع أن يعبر عن رؤيته بعدم اتباع منهج معين، بل كان هدفه الوحيد هو المحافظة على وحدة الأسلوب وعمل في أماكن ضيقة واستخدم بؤرة ضوئية مما انعكس على الصورة المرئية عندما أراد أن يخرج من هذه الأماكن الضيقة بحركة الممثلين وإضاءة المكان، فخلقت نوعا من التشتت والحيرة لدى المتلقي وخلق صورة متشظية، وعبّر بعض الأثاث داخل المنظر عن أكثر من مكان فنجد أن المكتب والكرسيين عبرا عن أثاث موجود في قسم الشرطة أو منزل راسكولينكوف أو منزل المرابية أليونا أو الخمارة، ومن وجهة نظرنا أعتقد أن وضع الديكور بهذا الشكل أثر على الصورة، وحمل الممثلين بحمل زائد، وعلى الرغم من ذلك وُفِق مصمم الديكور في جعل الباب الموجود في وسط عمق المسرح يعبر عن باب منزل راسكولينكوف، وعندما يحركه بزاوية 90 درجة ويظهر للمتلقي من منظور جانبي يعبر عن باب منزل المرابية أليونا.
  كانت أزياء (رحمة عمر) ملائمة لزمن كتابة الرواية التي تم إعداد النص المسرحي عنها، وكانت سهلة الارتداء لتساعد الممثل على الظهور بشخصية أخرى على المسرح بتوقيت زمني محسوب بدقة.
  أما خطة الإضاءة (وليد درويش) فاعتمدت على البؤر الضوئية، فقد بدأ العرض بتركيز بؤرة ضوئية على الممثلين في منتصف المسرح، وأيضاً تركيز بؤر أخرى على الممثلين بتواجدهم أثناء العرض يمين المسرح أو يساره، وأحيانا يتم استخدام الإضاءة للإنارة أو لتحقيق رؤية درامية، فقد استخدم اللون الأصفر الذي يعبر عن ضوء الشمس أثناء التحقيق، ولكنه يتحول إلى اللون الأبيض عندما وجه المحقق سؤالا لراسكولينكوف (المحقق: ماذا تعمل الآن) للمصارحة والمكاشفة، وأحيانا استخدم الدخان للتعبير عن الحالة الضبابية.
  عن الموسيقى نقول إنها كانت من إعداد (رامي عكاشة) وقد سيطر الإيقاع معظم الأوقات مثل الكابوس في مشهد الحلم، وكانت الطرقات على الأبواب تدور داخل رأس راسكولينكوف، ومن وجهة نظرنا كان يجب إعادة النظر أحياناً في توظيفها، وقد قامت نغم صالح بالغناء من أشعار (محمود البنا) وتلحين (محمد علام) وتوزيع (أمير وحيد) وتقول الكلمات (الاحتياج أذلني إن الشفاء أهمني.. من أحيا لعازر بعد موته إني هنا فلتحيني – أعطيتهم أهديتهم سقفاً ودوراً عامرة.. أما أنا أعطيتني جسداً ليطعم عاهرة) فهنا تضع سونيا نفسها في مقابلة مع لعازر، ولعازر أقامه المسيح من الأموات (قصته في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل يوحنا) وسونيا تشبه راسكولينكوف في بعض الحالات منها الفقر والبؤس والواقع المرير الذي يعيشه، وترى أنها ماتت وتحتاج للحياة مثل لعازر. فالأغنية بها تضاد بين الفقر الذي يمثل الشقاء، ورأس المال الذي يمثل السعادة، سونيا تأكل من بيع جسدها، والرأسماليون لديهم دُور عالية، وقد استخدمت الآلات الوترية كالكمان والتشيلو وبعض آلات الإيقاع.
  إن هذا العرض يتماس إلى حد ما مع واقع الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعاني منها شعوب الأرض بسبب انتشار الحروب سواء أكانت بالمعدات الحربية أو الحروب الإلكترونية أو البيولوجية بانتشار الفيروسات، فقد أصبح نظام العدالة مختلا على كوكب الأرض، وأصبح عدد قليل من البشر يتمتعون بالمليارات، والجموع يعيشون على الفتات، كما يطرح العرض سؤالاً غير مباشر: هل يأتي اليوم الذي تتحقق فيه العدالة ويجد فيه الإنسان الثروات موزعة بشكل عادل.
  كل التحية للدكتورة غادة جبارة رئيسة أكاديمية الفنون، والدكتور محمود فؤاد صديقي المشرف على مسرح نهاد صليحة وكل من ساهم في خروج هذا العرض للنور. 


جمال الفيشاوي