الريحاني بلا مسرح وبلا زوجة!!

الريحاني بلا مسرح وبلا زوجة!!

العدد 845 صدر بتاريخ 6نوفمبر2023

لم يستمر الريحاني في فرقة أمين صدقي أكثر من ذلك، وفضل الخروج من الفرقة مع زوجته بديعة، وذلك لسببين الأول – من وجهة نظري – أن الريحاني لم يقبل – نفسياً - أن يكون ممثلاً في فرقة كوميدية، وهو في الأصل كان صاحب أشهر فرقة كوميدية تحمل اسمه! والسبب الآخر هو قُرب انتهاء عقد منيرة المهدية مع الحاج مصطفى حفني مدير مسرح برنتانيا، مما يعني أن المسرح سيكون جاهزاً لاستقبال الريحاني ابتداء من أول أبريل 1926، بناء على عقد إيجار رسمي تم بينه وبينه الحاج مصطفى، ولم يبق من الوقت إلا شهر تقريباً، لذلك استغل الريحاني هذا الشهر في تقديم بعض عروضه القديمة مع بواقي فرقته المسرحية في الإسكندرية.
هذه العروض أعلنت عنها جريدة «كوكب الشرق» قائلة: “في تياترو محمد على، بشارع رشيد بالإسكندرية، يمثل جوق كشكش بك، نجيب الريحاني شخصياً يوم السبت 13، والأحد 14 مارس روايتي «حلاق بغداد»، و«الأمير»، تمثيل نجيب الريحاني، بديعة مصابني. اطلبوا تذاكركم من السيد السبع بشارع المنقعي نمرة 1 ومن شباك التياترو تليفون نمرة 5106 ومن السيد منسي الساعاتي بالمنشية تليفون نمرة 4160”. ولعل القارئ يظن أن الريحاني قدم مسرحيتين جديتين، وهما «حلاق بغداد والأمير»!! والحقيقة أنهما قديمتان فالأولى هي «أيام العز»، والأخرى هي «البرنسيس»، وتغيير الأسماء عادة قديمة في تاريخ الفرق المسرحية المصرية بوصفها طريقة دعائية لإيهام الجمهور بأنه سيشاهد عروضاً مسرحية جديدة!!
انتهت العروض في الإسكندرية، وعاد الريحاني إلى القاهرة استعداداً لتجهيز مسرح برنتانيا تنفيذاً للعقد بينه وبين الحاج مصطفى حفني في أول أبريل حيث إنه موعد نهاية عروض فرقة منيرة المهدية على المسرح، وتسليمه إلى الريحاني .. ولكن منيرة لم تترك المسرح، وأصبح الريحاني بلا مسرح وتعاطف معه الجميع، فاضطر الحاج مصطفى حفني توضيح الأمر علناً عندما نشر الموضوع في مجلة «المسرح» قائلاً: 
“كان بيني وبين السيدة منيرة المهدية اتفاق على أن تعرض حفلات تمثيلية على مرسح برنتاينا لمدة سنة تنتهى في 31 مارس الماضي باتفاق عشرين في الماية للتياترو ستة شهور، وخمسة وعشرين في الماية للستة شهور الأخرى بعد خصم جميع مصاريف الإعلانات والجرائد وجميع الوسائل المتعلقة بالنشر. وكان عليّ أن أقدم لها التياترو بأنواره ومستخدميه مستوفياً من كل شيء. وربما كان هذا الاتفاق لا يوافق مصلحتي بالنسبة لكثرة مصاريف التياترو، فأنذرتها قبل مضي العقد بشهرين بعدم تجديده لمدة أخرى. وبعد ذلك سعى نجيب أفندي الريحاني واتفق معي على التياترو وبمقابل ثلاثين في الماية من الإيراد وعليه وحده مصاريف الإعلانات والجرائد، وإن لم تصل الماية ثلاثين إلى مايتين وخمسين جنيه في الشهر يدفع لي العجز حالاً ويدفع أيضاً كل شهر خمسة عشر جنيهاً نظير أجرة عمال المرسح. فلما وجدت أن هذا الاتفاق في مصلحة العمل اتفقت معه على أن أحجز له حفلات في التياترو لمدة سنة، وأخذت منه مبلغ مائتين جنيه بصفة تأمين واتفقنا في العقد أن من يخالف أي شرط من شروطه يدفع غرامة قدرها مايتين وخمسين جنيهاً. ووضعنا في العقد شرطاً بأنه إذا استمرت السيدة منيرة تعرض حفلاتها في التياترو فلا أكون مسئولاً أمام نجيب أفندي الريحاني بشيء ما. ومضت على المدة التي تعاقدنا فيها أنا ونجيب أفندي وهي من يوم 3 فبراير سنة 1926 لغاية يوم 15 مارس سنة 1926، شهر ونصف وحضرة نجيب أفندي لم يستعد بأي شيء لأجل افتتاح التياترو في أول أبريل. فلغاية هذا اليوم لم يؤلف رواية جديدة ليوم الافتتاح، ولم ينشر في الجرائد ولا كلمة واحدة تدل على رجوعه لمرسح برنتانيا. اللهم إلا بضع إعلانات لصقت على الجدران تنبئ فيها بعودته إلى التياترو، نشرها حضرات الذين استأجروا منه الحفلات ابتداء من أول أبريل لغاية انتهاء العيد، وإحيائه حفلات لروايات قديمة في الإسكندرية بجوقة ومعدات لا تصلح لافتتاح عمل كبير دائم لمدة سنة على الأقل. وبما أن حضرة السيدة منيرة المهدية قد مضى عليها في التياترو مدة سنة لم يحصل منها بيننا ولله الحمد أي شيء يكدر الخاطر. وبعد اجتماعات عديدة بيننا تداخل فيها بعض الأصدقاء والإخوان حصل الاتفاق بيني وبين حضرتها لمدة سنة أخرى، ولكنها بواقع «خمسة وعشرين في الماية» بعد خصم ثمن الإعلانات فقط. وقد اتفقنا أنا وحضرة السيدة منيرة المهدية على أن ندفع لحضرة نجيب أفندي الريحاني الغرامة المتفق عليها في العقد المحرر بيننا من الإيراد كل بحسب حصته التي تخصه في الماية. بعد ذلك أنذرت حضرة نجيب أفندي الريحاني يوم 18 مارس الماضي - أي قبل تنفيذ عقد الاتفاق بأربعة عشر يوماً - بفسخ العقد الذي بيننا، وبعدها اتفقت مع حضرته على أن ندفع له الغرامة المشترط عليها فيما بيننا، وهي مايتين وخمسين جنيهاً، لأنه لا يصح أن نتركه يلجأ للقضاء لأجل مسألة يمكننا تسويتها فيما بيننا خصوصاً وأن مسؤوليتها محدودة لأنه إذا لم ينفذ عقد الاتفاق الذي بيننا وامتنع عن إعطاء حفلاته في الميعاد المحدد بيننا كان لا يمكني أن أعمل معه شيئاً سوى الاستيلاء على التأمين المدفوع. وذلك حسب نص العقد الذي بيننا وقد قبل حضرته ذلك وقبض المبلغ وانتهت المسألة على سلام .. [توقيع] المخلص الحاج مصطفى حفني مدير تياترو برنتاينا”.
وبناءً على ذلك ضاعت آمال الريحاني في إيجاد مسرح يعمل عليه، ولم يكن أمامه سوى العمل بالقطعة تبعاً لفراغ أي مسرح!! ففي أواخر مارس 1926 سافرت فرقة أولاد عكاشة إلى بور سعيد للعرض هناك، فاستغل الريحاني ذلك وأعلن عن قيامه بعرض ثلاثة عروض لمسرحيتين قديمتين هما «أيام العز والبرنسيس» على مسرح حديقة الأزبكية خلال ثلاثة أيام في 29 و30 و31 مارس. وأغلب الصحف أعلنت عن هذه العروض كونها بطولة الريحاني وبديعة مصابني، مثل جريدة «البلاغ» وجريدة «الأهرام» التي اختتمت إعلانها عن العروض الثلاثة قائلة: “.. تجعل المتفرج ينسى نفسه أمام هذه المدهشات الجميلة، ولا تجد الوقت الكافي للراحة من كثرة الضحك والسرور. يقوم بالدور المهم ملك المضحكين نجيب الريحاني «كشكش بك» والكوميديا الرشيقة الحسناء بديعة مصابني”.
انتهت العروض الثلاثة والريحاني بلا مسرح، وموسم العيد بعد أيام، لذلك سارع الريحاني بإيجار «دار التمثيل العربي» لعرض مسرحياته القديمة أيام العيد، ونشرت الصحف الإعلانات ومنها جريدة «الأهرام» التي قالت في منتصف أبريل 1926: الجوق الكوميدي المدهش .. ثلاثة أيام فقط .. يظهر نابغة التمثيل ملك الكوميديا والفودفيل أستاذ المضحكين الفنان العجيب على مسرح تياترو دار التمثيل العربي، ويقدم لأول مرة باستعداد عظيم ثلاث روايات من خيرة رواياته، تجمع بين الفكاهة والضحك والطرب والرقص الشرقي البديع في ست حفلات أيام عيد الفطر المبارك، أعاده الله على الشعب الإسلامي والأمة المصرية بالسعادة والهناء. يمثل جوق الأستاذ نجيب الريحاني كشكش بك ونجمة الكوميديا بديعة مصابني ست حفلات نهارية وليلية في ثلاثة أيام العيد «ماتينيه وسواريه» ابتداء من يوم الأربعاء 14 أبريل، والخميس 15 أبريل، والجمعة 16 أبريل: روايات «الشاطر حسن، والليالي الملاح، وأيام العز» .. كل يوم من الأيام الثلاثة يبتدئ الماتينه من الساعة 6 مساء، ويبتدئ السواريه من الساعة 9 والنصف مساء. ويتخلل الروايات رقص شرقي بديع يقمن به أشهر الراقصات التركيات، ومغنى وطرب وموسيقى.
انتهت عروض العيد وظل الريحاني يبحث عن مسرح خال يعرض عليه عروضه القديمة، فوجد مسرح «الكورسال» فعرض عليه خلال ثلاثة أيام فقط – في أواخر أبريل 1926 - مسرحيات «الليالي الملاح، الشاطر حسن، البرنسيس»! ولأن هذه المسرحيات هي نفسها المسرحيات التي يعرضها الريحاني منذ انفصاله عن أمين صدقي، والتي يعرضها في كل مسرح خال، حاولت الصحف – مثل الأهرام، والسياسة - أن تضفي إغراءً وتشويقاً للجمهور كي يحضر بنشرها – وسط الإعلانات - عبارات من عناوين ومضامين فصول المسرحيات تجذب بها القُراء، مثل: ليالي شهرزاد، حمام بنات الملك، المغارة المسحورة، زواج بدر البدور، جزائر واق الواق، بس بس نو، الشاطر حسن الصرماتي، مملكة السمندل، زواج الشاطر حسن، حسنين وعيوشة، البرنسيسة عيوشة، لقمة البصارة.
وهكذا ظل الريحاني ينتقل من مسرح إلى مسرح ليقدم مسرحياته القديمة في أيام معدودة، دون أن يقدم جديداً أو يقوم بأية محاولة لتطوير فرقته أو أسلوبه أو يجد مسرحاً خاصاً به، مما اضطره إلى قبول بعض العروض في الأقاليم وفي الصعيد لصالح بعض المتعهدين، كما أخبرتنا بذلك جريدة «كوكب الشرق» التي أعلنت أن حفلات الريحاني في المنيا تأجلت لأسباب طارئة، بناء على أقوال المتعهد المنياوي عبد المجيد عبد العزيز!! وهكذا أصبحت فرقة الريحاني مثلها مثل الفرق الجوالة، وكأن الريحاني عاد بتاريخه إلى الوراء عشرين سنة!!
وسط هذه الظروف ساءت العلاقة الزوجية بين نجيب وبديعة، وانتشرت الأقاويل والشائعات بقُرب انفصالهما، وقد قرأنا تفاصيل هذا الأمر في مذكرات الريحاني الحقيقية والمجهولة – التي نشرناها في السلسلة السابقة بجريدة مسرحنا – ولكنها تفاصيل من وجهة نظر الريحاني نفسه، ولكن ماذا قالت الصحف في توثيق هذا الأمر؟! الحقيقة أن أغلب الصحف تحدثت ولكن مجلة «روز الوسف» نشرت تفاصيل جديدة في نهاية سبتمبر 1926 تحت عنوان «السيدة بديعة مصابني لماذا انفصلت عن زوجها الأستاذ نجيب الريحاني؟»، قائلة:
للسيدة بديعة مصابني أهل وأصدقاء ومعارف في بيروت وغيرها من بلدان سوريا. والسيدة بديعة تحب دائماً أن تحافظ على صداقة الأصدقاء! كتب إليها بعض أصدقائها في بيروت يسألونها أن تسمح لهم بمكاتبتها من وقت لآخر للاستفسار عن حالها وعن صحتها ... إلخ ولم تر السيدة مانعاً من قبول هذا الرجاء. ولكن بديعة متزوجة الآن، ولا تريد أن تغضب أصدقاءها فما العمل؟ لبديعة صديقة قديمة اسمها «كلير» أتخذتها من دون الناس صاحبة ملازمة لها، تأكل عندها وتنام عندها وتصحبها في غدواتها وروحاتها، وتأتمنها على مالها وسرها وكل أمورها .. فكرت بديعة طويلاً في أمر أصدقائها في بيروت ثم انتهت إلى رأي: كتبت إليهم تقول إنها الآن متزوجة، وأنها تخشى إذا سمحت لهم بمكاتبتها علناً أن تثير غيرة زوجها وشكوكه، ولهذا فهي ترجوهم أن يبعثوا برسائلهم إليها عن طريق صديقتها «كلير» وكانت هذه أول غلطة ارتكبتها بديعة مصابني! وهكذا كانت تصل الرسائل إلى كلير فتسلم بعضها إلى بديعة، وتخفي بعضها عندها - لوقت الحاجة - لأن كلير، فيما يظهر، كانت تحيك خيوط مؤامرة واسعة النطاق! وكانت بديعة تقرأ الرسائل التي تصلها وتعيدها إلى كلير لكي تحفظها هذه عندها! ثم جاءت دعوة إلى بديعة من بعض أصدقائها يدعونها لزيارة بيروت. وترددت بديعة في قبول الدعوة ولكن كلير أخذت تغريها بالسفر وتزين لها «الطفشان» من غطرسة زوجها واستبداده وغيرته و ... و ... مما لا نستطيع أن ننشره الآن حتى أقنعتها. وهكذا صممت بديعة على السفر دون أن تطلع زوجها على حقيقة الأمر، وكانت هذه ثاني غلطة ارتكبتها بديعة. وسافرت بديعة إلى بيروت. وفي نفس اليوم ذهبت كلير وقابلت نجيب وقصت عليه الحكاية من الألف إلى الياء وأطلعته على الخطابات التي أودعتها بديعة عندها، وما زالت به تذكي نار غيرته وغضبه حتى فقد الرجل صوابه وأطلق لسانه وسمح لكل تلك الإشاعات والأراجيف أن تروج وتنتشر وذهب إلى البطركخانة يقص عليهم الأمر ويعرض الخطابات التي أتته بها كلير ويطلب الطلاق، وأحست بديعة وهي في بيروت أن هناك حركة، وأن زوجها علم أكثر مما كان يعلم وأكثر مما ينبغي أن يعلم. ولكنها لتلك اللحظة لم ترد أن تسيئ الظن بصديقتها الحميمة كلير. وكانت بديعة تشكو مرضاً وتريد السفر إلى فرنسا للاستشفاء. فقامت من بيروت ومرت بالقاهرة وقابلت كلير وأخبرتها أنها تريد مقابلة زوجها ولكن كلير أقنعتها بأن الأفضل عدم مقابلته الآن، وإخفاء حضورها إلى القاهرة عنه. وهكذا باتت بديعة ليلة واحدة في القاهرة وسافرت بعدها إلى فرنسا. وفي يوم سفرها ذهبت كلير إلى نجيب وأخبرته أن بديعة جاءت إلى مصر وأنها سافرت إلى باريس! ولكنها لم تخبره بأنها سافرت لتعالج نفسها بل اختلقت سبباً آخر من عندها! وعادت بديعة من باريس ورأت الجو المكفهر وسمعت الإشاعات التي راجت عنها وعرفت الدور الذي لعبته كلير. فأمسكت بها، وكانت في مسكنها، وضربتها ضرباً موجعاً. ولولا وجود شخص ثالث حال بين بديعة وبين ما تريد، لألقت بديعة بكلير من نافذة مسكنها في الدور الرابع من عمارة الخديوي في شارع عماد الدين!! وعرفت بديعة أنها أخطأت وأنها أذنبت في حق زوجها وأنها أسلمت سرها إلى من لا ترعى العهد. وأراد بعض أصدقائها وأصدقاء الأستاذ نجيب أن يسعوا بالصلح بينها وبينه، ولكن نجيب أعرض ورفض رفضاً باتاً وذهبت بديعة إلى البطركخانة تسأل هل الخطابات التي وقعت في يدي نجيب تعطيه حق طلب الطلاق؟ فأجابوها بالنفي لأن هذه الخطابات كتبت إليها ولم تكتبها هي، والفرق واضح بين الحالتين.
وفي أوائل أكتوبر 1926 نشرت أغلب الصحف خبر انفصال الزوجين!! فقالت مجلة «روز اليوسف»: في يوم الأربعاء الماضي حرر أحد محامي القاهرة «مخالصة» بين الأستاذ نجيب الريحاني والسيدة بديعة مصابني، نال بها الأول ما كان له من حقوق مالية من قبل زوجته، واعترف الطرفان بأن ليس لأحدهما حق قبل الآخر. واتفقا كذلك على الانفصال، علماً أن شريعتهما لا تبيح الطلاق وإنما تبيح الانفصال سبع سنوات متوالية، يصبح لكل منهما بعد انفصالهما الحرية في أن يتزوج ممن يشاء! أما مجلة «الفنون» فقالت: علمنا أن السيدة بديعة مصابني قد انفصلت عن زوجها نجيب الريحاني وأنه قد تنازل عن حقوقه زوجيته مقابل 250 جنيهاً دفعتها السيدة بديعة له وبذلك أصبحت حرة طليقة، وأنها ستؤلف فرقة تغني فيها طقاطيق ومنولوجات.


سيد علي إسماعيل