ظهور شخصية كشكش بك

ظهور شخصية كشكش بك

العدد 832 صدر بتاريخ 7أغسطس2023

قرأنا كثيراً عن شخصية كشكش بك لدرجة أن أي كلام عنها يُعدّ مللاً لا طائل منه!! ورغم ذلك سأدعي أنني سأكتب لك جديداً عنها، لأنك قرأت عن هذه الشخصية من خلال المذكرات المعروفة للريحاني، وقرأت عنها جديداً بعض الشيء في المذكرات الحقيقية المكتشفة التي نشرتها لك في سلسلتي السابقة!! ولكنك الآن – عزيزي قارئ مسرحنا – تقرأ تاريخ مسرح الريحاني، ولا تقرأ مذكراته!! والفرق شاسع بينهما كما قلت لك من قبل!! لذلك اقرأ في هذه المقالة التاريخ الحقيقي الموثق لظهور شخصية «كشكش بك» كما جاء في الدوريات المصرية وقت ظهورها .. وهو الأمر الذي لم يقم به أحد من قبل!!
هذه الشخصية ظهرت مباشرة بعد انفصال الريحاني عن فرقة عزيز عيد بعد الضجة النقدية التي صاحبت عروض الفودفيل، كما تحدثنا من قبل! وهذا يعني أن الريحاني أصبحت له فرقة، وعزيز عيد استمر بفرقته وعروضه الغريبة في عناوينها – كما وصفتها الصحف وقتها – وقد أشارت جريدة «الأخبار» إلى ذلك في سبتمبر 1916، قائلة تحت عنوان «الأساتذة والممثلون»: كادت جدران المنازل وأعمدة البواكي الواقعة في الشوارع والميادين تغطى بإعلانات التياترات! فلا تقع العين يميناً وشمالاً إلا على إعلان لجوق الممثلة المصرية منيرة المهدية ..... وآخر لجوقة الريحاني عن رواية «بكرة في المشمش» و«خليك تقيل»، وثالث لجوق عزيز عيد عن رواية «علي كاكا» و«سكرة بنت دين كلب» ..... وإجمالي القول إن إعلانات المراسح وإن دلت على تفنن ومقدرة على ترويج البضائع، فإنها تنم من جهة أخرى على خلائق نحب أن يتبرأ منها من يتصدون لترقية العقول وتثقيفها بالعلوم والآداب».
صديق كشكش بك
الملاحظ أن إشارة الجريدة لم توضح إن إعلانات الريحاني كانت تتعلق بظهور شخصية كشكش بك!! وهذا الأمر فطن إليه «صديق كشكش بك» الذي وقع بهذه الصفة على كلمة نشرها في أكتوبر بجريدة «الأخبار» تحت عنوان «رواج الأنسب»! بدأها بقوله: «حضرت بالأمس الريحاني وجوقه يمثلون روايات كشكش بك فتارة «بلاش أونطة» وطوراً «خليك تقيل» وآناً «هزّ يا وزّ» وآونة «إديله جامد»، فرأيت من الإجادة في التمثيل ومن إقبال الناس ما ردد إلى خاطري النتائج الآتية».
وهذه النتائج للأسف الشديد كانت عبارة عن مقارنة بين الشيخ سلامة حجازي، وعروضه الكلاسيكية، وبين عروض كشكش بك الهزلية!! وحاول الكاتب إقناع القُراء بأن الريحاني كان أذكى من الشيخ سلامة، لأن الشيخ مكث ثلاثين سنة يمثل ويغني وتساعده الحكومة، ومع ذلك لم تجد عروضه رواجاً لأنه يمثل مسرحيات شكسبير وراسين بعد أن يأتي بفتاة أميّة لا تقرأ ولم تقف على التاريخ، ويقول لها مثلي دور «ماري أنطوانيت» ابنة أمبراطور النمسا وزوجة ملك فرنسا، أو دور ملكة أسكوتلاندا، أو دور غانية فنانة باريسية. والفتاة المسكينة لا تعلم شيئاً عن عيشة الملوك وسلوك الملكات ومعيشة القصور وآداب السلوك! وعندما تفشل عاب عليها تمثيلها! ولكن عندما تمثل هذه الفتاة نفسها دور خادمة أو زوجة في مسرحية بلدية مكتوبة بالعامية، نجدها تنجح لأنها مثلت دوراً تدرك أسراره وكلماته وترى كل حوادثه كل يوم في الوسط الذي عاشت فيه!! وبناء على ذلك يصل كاتب المقالة إلى غرضه والانتصار لكشكش بك على الشيخ سلامة، قائلاً:
«رأى كل هذه العيوب والأسباب شاب اسمه نجيب الريحاني فعالجها علاجاً كان نافعاً. ألف جوقة فرنساوية عربية ذات حوادث قريبة إلى الأذهان، سهلة الإدراك على الجمهور. وجعل لغتها عامية وجعلها ذات أقسام موسيقية محلية، فأوجد روايات «بلاش أونطة» ومثيلاتها، ومثلها في «الأبيه دي روز». فما مضت أيام حتى راجت واشتهرت وأصبح الناس يقصدونها كل ليلة، بل هو يمثلها في حفلات نهارية، تارة للحريم وتارة للعائلات بأسعار تافهة. فهو لا يرسل تذاكره إلى أحد، ولا يتوسل إلى أحد، ولا يرجو ولا يسترحم، بل يأتيه الناس عفواً، ويقبلون على رواياته إقبال الصغار على الحلاوة. وكل ذلك لأنه تاجر مجيد يعرف ميول الجمهور فأعطاه ما يوافق مزاجه» [توقيع] صديق كشكش بك.

فرقة كشكش بك
أعمال الريحاني السابقة الخاصة بشخصية كشكش بك، لم تكن لحسابه الخاص أو لفرقته الخاصة، بل كانت فقرات يقدمها ضمن برنامج كازينو الأبيه دي روز لحساب صاحبه الخواجة «أنطوان روزاتي»! وعندما نجحت شخصية كشكش بك أراد الريحاني استغلالها في عروض خاصة لحسابه بعيداً عن برنامج الكازينو وعن حسابات صاحبه روزاتي!! ونشرت جريدة «الأهرام» إعلاناً – في ديسمبر 1916 - عن أول عمل له وهو مسرحية «أبقى قابلني»، قائلة تحت عنوان «يوم سيتذكره الجمهور»: «قد آن هذا اليوم - الاثنين 18 ديسمبر سنة 1916 ففي منتصف الساعة العاشرة مساء سيمثل لأول مرة «كشكش بك»، وهو الممثل البارع الطائر الصيت «نجيب ريحاني» مع جوقه المشهور رواية «أبقى قابلني» في تياترو الرينسانس - سينما باتيه سابقاً - بشارع بولاق، حيث سيتسابق الجميع إلى مشاهدة هذا اللعب اللطيف، مع التأكد أنهم سيحضرون فيه ليلة من أجمل لياليهم. ويمكنا من الآن أن نؤكد أن هذه الرواية هي في جميع أطوارها قابلة لحضور العائلات والسيدات. ولا يفوتنا أن نشكر إدارة تياترو الرينسانس لتقديمها هذه الليلة إلى جمهور سكان القاهرة الذين سيحضرونها جميعهم».
هذا الإعلان وغيره استفز الخواجة روزاتي، واستفزه أكثر خروج الريحاني بشخصية كشكش بك من بين يديه، مما جعله يرفع قضية على الريحاني .. والريحاني رفع قضية عليه أيضاً!! وهذا أمر ربما مرّ علينا في مذكرات الريحاني من وجهة نظره، ولكنها هنا لها شكل آخر كونها قصة موثقة ومنشورة في الصحف!! فقد قالت جريدة «البصير» في ديسمبر 1916 تحت عنوان «في ساحة القضاء حق المؤلف وحنجرة الممثل والمسرح قضية ذات شأن»:
نروي لقُراء البصير اليوم قضية هي الأولى من نوعها، وسيكون لها اهتمام خاص لدى كل مشتغل بالأدب العربي أو الغربي. رفع الخواجة روزاتي صاحب ملعب الأبيه دي روز دعوتين مدنيتين أمام محكمة مصر المختلطة على نجيب الريحاني وأمين صدقي، على أثر خروجهما من عنده. يطالبهما بتقديم رواية تمثيلية مضحكة جديدة في كل خمسة عشر يوماً، وإلا فهو يلتمس من المحكمة الحكم على كل منهما بغرامة مالية قدرها خمسون قرشاً صاغاً عن كل يوم من أيام الـتأخير عن إجابة طلبه. ثم طلب في دعوتيه من المحكمة منعهما من التمثيل على مسرح آخر خلاف مسرحه، والامتناع عن تمثيل الروايات التي كتباها له مدة أقامتهما عنده، وإلا يلزم نجيب الريحاني بغرامة مادية قدرها عشرين جنيهاً في اليوم الواحد، وأمين صدقي بغرامة قدرها عشرة جنيهات يومياً. وطلب عدا هذا تعويضات أخرى لامتناعهما عن التمثيل في مسرحه المعروف بالأبيه دي روز. وقد حددت محكمة مصر المختلطة للنظر في هاتين الدعوتين يوم 8 يناير الآتي. وعلى أثر ذلك أنبأ أمين أفندي صدقي المسيو روزاتي رسمياً أنه إنما كان يؤلف رواياته ليقوم نجيب الريحاني بتمثيلها؟ ولما كان هو الممثل الوحيد الذي في إمكانيته إظهارها على ما يرفع من شأنها ويظهرها بشكل راق للمشاهدين، فليس في استطاعته أن يسمح بتمثيلها لسواه بعد خروجه من الأبيه دي روز، ولا أن يؤلف غيرها لغيره لاعتقاده أن الممثل غير القدير إذا تولى تمثيل رواية شوهها وجعل حسناتها سوآت. ثم رفع المحامي الشهير جورج منسى دعوى مستعجلة باسم نجيب الريحاني أمام حضرة قاضي الأمور المستعجلة تُعدّ غريبة في بابها، لأنها الأولى من نوعها، فقد تمكن من استصدار الأمر القاضي بإعلان المسيو أنطونيو روزاتي صاحب الأبيه دي روز، واستدعائه بعد إعلانه بساعة واحدة لسماع الدفاع في القضية صباح الأربعاء الماضي. وقد طلب الأفوكاتو جورج منسى من قاضي الأمور المستعجلة تعيين خبير من الأطباء لفحص حنجرة موكله نجيب الريحاني لأنها أصيبت بمرض أثّر على أوتار الصوت تأثيراً كاد يذهب به، وهو رأس ماله بسبب أن هندسة بناء ملعب الأبيه دي روز سيئة غير نظامية، فهي تؤثر على حناجر الممثلين وترميها بشتى الأمراض. وغرض المحامي من ذلك إثبات أن موكله الريحاني خرج من كازينو المسيو روزاتي بقوة قاهرة لا تدع مجالاً لمطالبته بتعويض مادي عن خروجه. فعارضه المسيو روزاتي في هذا الطلب الفرعي قائلاً: إنه لا يخلي نجيب الريحاني من المسئولية. ولكن قاضي الأمور المستعجلة أصدر اليوم حكمه بقبول الطلب وتعيين أحد الأطباء لفحص حنجرة نجيب الريحاني، وتقديم تقرير واف عن نتيجة مهمته التي يقصد منها العلم بما إذا كانت حنجرة هذا الممثل قد تأثرت فعلاً من سوء نظام بناء الأبيه دي روز الهندسي أو لا؟! وهل كان هناك خطر على أوتار صوته أم لا؟! وسنفيد القُراء الكرام بكل ما يجد في هذه القضية الغريبة لأنها ستظهر لنا لأول مرة حقوق الممثلين على أصحاب المسارح وتفصل أيضاً في حقوق المؤلفين الروائيين».
لم أجد نتيجة هذه القضية في الصحف وقتذاك، ولكن الثابت تاريخياً أنها لم تُحسم إلا بعد بضعة أيام، حيث استمر الريحاني يعمل في كازينو «الأبيه دي روز» ويعرض شخصية كشكش بك كما نشرت جريدة «الأهرام» في يناير 1917 عندما أعلنت عن مسرحية «كُل بعضك» بما فيها من شخصيات: أبو درش، وأم شُولح، وكشكش بك. بعد ذلك وجدنا الريحاني ينفصل عن روزاتي ويعمل في الرينسانس – مما يعني أنه كسب القضية – وبدأت الإعلانات تنتشر، ومن أهمها إعلانات جريدة «الأهرام»، وفيها قالت تحت عنوان «كشكش بك في الإسكندرية»: «بناء على طلب وإلحاح الكثيرين من أهالي الإسكندرية عزم حضرة نجيب الريحاني، مبتدع نوع الكوميدي الأوبريت الأفرنكي العربي على أن يحيي ليلتين هناك في مساء يومي الاثنين 8 والثلاثاء 9 يناير سنة 1917، وعليه ستقفل إدارة تياترو الرينسانس محلها في هذين اليومين لحين عودة الجوق لمصر في يوم الأربعاء 10 الجاري. وقد قررت إحياء حفلاتها النهارية في يومي الخميس والأحد من كل أسبوع، وخصصت أيام الثلاثاء للسيدات الشرقيات، حتى لا يحرم من مشاهدة هذه الروايات التي أصبحت موضع إعجاب الخاص والعام».
وطوال أربعة أشهر - فبراير ومارس وأبريل ومايو - واصلت جريدة الأهرام إعلاناتها لفرقة الريحاني وشخصيته الفنية «كشكش بك» على مسرح الرينسانس، ومن العروض المُعلن عنها، وأغلبها بقلم أمين صدقي بالاشتراك مع الريحاني: مسرحية «كشكش بك في باريس» تأليف الأستاذ جوقي والريحاني، ومسرحية «أيوه والله لأ آه»، ومسرحية «هزّ يا وزّ»، ومسرحية «الحدق يفهم أو أحلام كشكش بك»، ومسرحية «أبقى قابلني»، ومسرحية «إحم إحم»، ومسرحية «بلاش أونطة»، ومسرحية «إديلو جامد»، ومسرحية «كده وكده»، ومسرحية «وصايا كشكش بك».
هذه المسرحيات القصيرة أو الإسكتشات مُثلت كثيرا إلا مسرحية «إحم إحم»!! وأكاد أزعم أن الريحاني لم يمثلها على الإطلاق، وهذا راجع إلى تهديد كتبه كيرلس خليل كونها مسروقة من آخر لم يذكر اسمه!! وهذا الأمر نشرته جريدة «الوطن» عام 1917 تحت عنوان «الأمر المهم في رواية أحم أحم»، قائلة: «أعلن الريحاني عزمه على تمثيل رواية عنوانها «إحم إحم» ويظهر لنا أن الرجل يعتقد أنه مبتدع هذه الرواية وموضوعها، وهو معذور في اعتقاده هذا. فنحن إشفاقاً منا على هذا الأديب من أن يُتهم بسرقة مال غيره. وأن يُقاضى مدنياً لتمثيله رواية سواه، أتطوع بتحذيره من الإقدام على تمثيل رواية «إحم إحم» قبل الاتفاق مع صاحبها وممثلها الذي نجح فيها، ولبث يمثلها منذ خمسة وعشرين عاماً إلى الآن على منابر الكنائس والجمعيات والمدارس وسيمثلها حتماً في حفلة جامعة المحبة في مايو المقبل. فإذا أصرّ الريحاني بعد الذي بسطناه هنا عن رواية «إحم إحم» على تمثيلها بغير إذن صاحبها ومؤلفها وممثلها، الذي لا يزال حياً يرزق إلى الآن، وصمم على إدعائها لنفسه مع أننا قد أبنا له أنه مسبوق فيها - كان ذنبه على جنبه والجاني على نفسه».
والحق يُقال إنني لم أجد إعلاناً واحداً – أو دليلاً – يثبت أن الريحاني مثل هذه المسرحية، مما يعني أنه استجاب إلى التهديد ولم يمثلها!! وفي الوقت نفسه يجب أن أقول: إن مسرحية «إحم إحم» القصيرة مُثلت بالفعل ولكن في ثلاثينيات القرن الماضي، ضمن فقرات وبرنامج صالة بديعة مصابني، وكانت المسرحية بقلم أمين صدقي!!
ومما سبق يتأكد لنا أن الريحاني وضع بصمة فنية كبيرة في تاريخ المسرح، كونه نبذ فودفيلات عزيز عيد وابتكر لنفسه لوناً مسرحياً جديداً، لفت نظر النُقاد ومنهم «حمدان»، الذي كتب كلمة في جريدة «المنبر» في منتصف 1917، قال فيها: «إن دولة الفودفيل قد زالت، لأن إقبال الجمهور على هذا النوع من التمثيل قد انقلب إلى نفور. وذلك راجع ولا ريب إلى حملة الصحف العربية عليه. ونحن يسرنا موت هذا النوع من التمثيل لأنه مصاب بالغ على اللغة العربية وضربة أليمة عليها. فإننا بينما نرى الغيورين يجهدون أنفسهم لترقية أحاديثنا العامة وتنقية اللغة من شوائب العامية كنا نرى كُتّاب الفودفيل يطلعون علينا بالجمل الركيكة والقول السخيف. وقد رأى حضرة البارع «نجيب الريحاني» مبتكر «الفرانكوآراب» أي الفودفيل الجامع بين العربية والفرنسية، أن لإرجاعه في إعادة الإقبال عليه يعتمد على إدخال نوع جديد على التمثيل العربي، وهو الأوبريت كوميك أي الروايات الغنائية المضحكة. وكل الذي نرجوه أن يعتمد نجيب في هذا النوع الجديد على كُتّاب يجيدون اللغة العربية ويستطيعون إدخال السرور على القلوب بنكات أدبية بحته».


سيد علي إسماعيل