ماذا حدث للريحاني في مراكش

ماذا حدث للريحاني في مراكش

العدد 824 صدر بتاريخ 12يونيو2023

مازلنا في الجزائر .. وما زال الريحاني يروي تفاصيل رحلته إليها في مذكراته المنشورة عام 1937 في مجلة «الاثنين والدنيا»، وتوقفنا في مقالتنا السابقة عند قوله: «لم يشعر جمهور «معسكرة» بنقص في الفرقة بل ألحّ في أن نقدم له حفلتين فوق العادة .. ففعلنا». واليوم نستكمل الموضوع، وفيه قال الريحاني: 
لما كانت التجارب القاسية قد كشفت لنا عن النبوغ الكامن في الزميل بديع خيرى من حيث تعهد الحفلات والقدرة على امتلاك ناصية هذا الفن .. الذي زاغ منا دعاته .. فقد طلبت إليه أن يسبقنا إلى «تلمسان» - على حدود مراكش - ليتعهد بضع حفلات فيها وليؤشر لنا على جوازات السفر للدخول الى مراكش .. ولكن ولأول مرة شاهدت علائم التردد والنكوص ترتسم على محيا بديع وأحسست أنه يخفي بين جنبيه كثيراً مما ظهر في عينيه .. فكأني به يقول: “أنا روحي طلعت .. يا خويا ولحد هنا وبزيادة بقى .. ويا للا على مصر وكفاية ما حصل”.
وفكرت في الأمر ملياً فوجدت أن ما في أيدينا من أموال لا يكفي مصاريف العودة إذ يُصرف الإيراد أولاً فأولاً على مستلزمات الفرقة وممثليها .. كذلك أحسست داعي الكرامة يهمس في أذني أن أُكمل الرحلة ولا أعد إلى الوطن مقهوراً كسيراً خصوصاً بعد الفصل - السُخن وبلاش الكلمة الثانية اللي عملته فينا بديعة - وقمت خطيباً في المجتمعين .. وكانوا عبارة عن بديع خيري وحده، فأثرت كامن الهمم وضربت على وتر الكرامة والنخوة والواجب .. فما أتممت خطبتي الحماسية حتى شاهدت عيني بديع تلمعان ببريق الثقة بالنفس والحرص على أداء الواجب .. وبعد أن كان منكمشاً متشككاً أصبح كالليث الهصور والغضنفر الجسور .. والله زمان يا مجامع اللغة .. وكل غضنفر وأنتم طيبون!! وفي الحال نهض بديع فودعناه وقصد من فوره إلى تلمسان وهناك هداه حُسن حظه إلى التعرف بأحد كرام الأهلين فكان له الساعد الأيمن والعضد الأمين فسهل لنا أمورنا وعاوننا معاونة صادقة في موضوع دخول مراكش. وقضينا ليلتين  .. «كُلِشِن كان» في تلمسان، ومنها كان علينا أن نقصد إلى مراكش. 
عدنا إلى السيارات وقرف السيارات .. وغُلب السيارات!! وشُحنّا في واحدة من النوع الضخم حملتنا إلى صحراوات ورمال وأراض شاسعة وفضاء كأنه لا نهائي .. وكنت أنظر إلى هذه المشاهد وأنا - زي الدايخ - ومع ذلك كان من واجبي أن أُصبّر الممثلين على ما بلاهم! وأنا أبعث فيهم روح المرح لأخفف عنهم بعض ما هم فيه من ويل وهول، لا يقدم عليهما إلا أمثال أولئك الفدائيين اللي يبيعوا جتتهم .. أو المكتشفين الذين يجوبون المجاهل شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً للعثور على قطعة أرض .. أو حتة جزيرة تايهة في وسط البحر! وعلى أيه التشبيهات دي كلها .. ما تقول إن رصيفنا المحترم السيد خريستوف كولمبس .. لو كان تفضل وشرفنا في رحلتنا دي قبل أن يكتشف أمريكا .. لوضع صباعه في الشق .. وتركنا في منتصف الطريق وأنتم من هنا وأنا يا كلمبس من هنا وبلا أمريكا بلا يحزنون!! 
ونزلنا في «فاس» وفيها أكملنا حفلاتنا عشراً كانت كلها فوق ما ننتظر من نجاح .. وبعد أن كان ما يبقى لنا في البلاد الأخرى بعد المصاريف والذي منه لا يزيد عن القروش التعريفة هالني أن أجد بعد ليالي فاس مبلغاً قدره مائة وخمسون جنيهاً مصرياً!! يا مهون على عبيدك يارب!! لست في حاجة بعد هذا الثراء الواسع إلا مائة جنيه كي أكمل مصاريف العودة إلى مصر للفرقة جميعاً ولي كذلك. وكان باقياً من بلاد الرحلة أمامنا مدن «رباط وكسابلانكا أو الدار البيضاء ومراكش». فقلت في نفسي إن هذه المدن الثلاث ستغطي مطالبنا وقد يتوفر لدينا بعد ذلك .. حق الدخان أو مصاريف الشبرقة في باريس قد كام أسبوع .. ويمكن كمان ننزل على مصر بكام أهيف نبظظ بهم عين الشيطان!! والذي زادني يقيناً في هذا الأمل أن كان بيننا شخص من أهالي الجزائر اسمه «سي عبد السلام» الله يمسيه بالخير ولا يورنيش فيه ردي!! صحبنا هذا الشخص من الجزائر وظل يتنقل معنا في كل جهة نزلنا بها .. وفي كل بلد تشيلنا وبلد تحطنا .. وكم أدى لنا من خدمات في الغربة .. وكم حمل معنا الأهوال والمصاعب .. الله يمسيه بالخير كمان مرة يا جدعان.
ظل الأخ «سي عبد السلام» يُمنينا بالخيرات التي تنتظرنا في مدينة «رباط» ويصف لنا غرام أهلها بالتمثيل وهيامهم بالفن، وكلما أحس في إحدى المدن أن الإيراد مهوي والشباك مخستك يهز رأسه بثقة ويقول: “ولا يهمكم أبداً .. انتظروا رباط .. غداً بتشوفم كيف بتكون رباط والفلوس اللي بتكسبوها من رباط”!! وملأ الاطمئنان قلوبنا وانتظرنا بفارغ الصبر موعد رباط وهي العاصمة ومقر السلطان .. وقد عولنا أن نبقى بها أسبوعاً كاملاً نحيي في كل يوم منه حفلة. 
ووصلنا «رباط» وفي مقدمتنا دليلنا العزيز وصديقنا الكريم «سي عبد السلام» وأعددنا العدة للعمل وهيأنا جيوبنا لقبول أكبر ما يمكن أن تسعه من الأموال التي تأخذ بيدنا إلى بر السلام. وأحيينا الليلة الأولى .. وما فيش لزوم للاستعانة بالخبراء والمحاسبين في حصر الإيراد الجارف، الذي أعددنا له العدة وانتظرناه من مدة! معلوم ما فيش لزوم لأنني أحصيت هذا الإيراد وحدي وفي دقيقة واحدة فإذا به سبعة جنيهات مصرية فقط لا غير .. اقرأ الرقم جيداً أرجوك .. سبعة جنيهات لا سبعين ولا سبعة وعشرين .. ولا سبعتاشر .. حتى. سبعة جنيهات يا عالم .. وفي الليلة الأولى .. وفي العاصمة ... وبعد أن بنينا أهرامات الآمال وأبو هولات الأماني والأحلام .. وبحثت عن السيد الأمجد «سي عبد السلام» لأطمئنه على صحة رباط العزيزة .. ولأعزيه على ما أصابنا فيها ولأسأل الله ألا يريه مكروها في رباط أخرى .. عزيزة لديه. ولكن الأخ عاد فأكد لي أن الإعلان لم يكن كافياً وأن الليلة القادمة فيها العوض وأن رقم الإيراد سيرتفع ارتفاعاً له العجب! وفعلاً يا أخي .. ارتفع رقم الإيراد في الليلة الثانية ارتفاعاً له العجب .. فبلغ .. بالك كام؟ ثمانية جنيهات .. أي بزيادة مائة بنط عن إقفال البورصة أمس .. وربنا ما يسيء حد في إيراده. وجاءت الليلة الثالثة والرابعة .. إلى السابعة .. فكان الإيراد في كل منها يتراوح بين الستة والثمانية جنيهات .. يعني ما فيش ليلة أخزت الشيطان ووصل فيها الإيراد إلى ثمانية جنيهات وريال!!
لست في حاجة إلى القول بأن الكنز الذي استولينا عليه في فاس قد نفد في رباط وأن المائة والخمسين جنيهاً .. بَرَمَت عن آخرها، وبقيت في ذمتنا ديون أخرى لأصحاب الفنادق وغيرهم وعدنا بسدادها بعد وصولنا إلى الدار البيضاء. وودعنا رباط ومعنا أيضاً صديقنا الواعي «سي عبد السلام» ونزلنا في الدار البيضاء .. وقد كفت لياليها همها .. وفوقها ديون رباط التي سددناها في التو واللحظة وبقى معي بعد ذلك كله حسبة عشرة 12 جنيهاً . يا دوب يسفروا نفر واحد لمصر في الدرجة الزيرو. بقى أن نقوم إلى مراكش «المدينة» .. وعنها وجيء لنا بسيارة كبيرة لنُشحن فيها جميعاً .. وقد فاتني أن أقول بأن التكليف أرتفع تماماً بيني وبين أقل الممثلين .. وبقينا كلنا «سبور» مافيش حد أحسن من حد .. حتى أن «حميدو» الميكانست كان يروح ضارب كتفي بيده «الخشابي» .. أو يقبض على طرف جاكتتي ويجذبني إليه قائلاً: “أهلا أبو النُجب .. إتفضل أشرب قهوه يا أُنس!!” وكثيراً ما كنت أتفضل وأشرب القهوة معه .. لا للمؤانسة والتمتع بلذيذ مجالسته .. ولكن لأدفع ثمن مشروبه هو، ورجلي على رقبتي كمان. 
أقول إن التكليف كان مرفوعاً بيننا إلى حد بعيد - فلما جاءت السيارة لشحننا استذوقت وانتظرت إلى أن ركب زملائي جميعاً .. ولم يبق أحد غيري وقد جلس كل منهم مستريحاً غير عابئ بي .. فلما لم أجد من ساحة كرمهم متسعاً بسيطاً أجلس فيه .. تقدمت بالرجاء والتوسل إليهم أن يتزحزحوا قليلاً ليأخذوني بينهم .. ومع ذلك يا أخي رفضوا .. بإباء وشمم أن يسعوني وكان رد صديقي المحترم «حميدو الميكانست» حين توسلت إليه أن يأخذني بجانبه أن قال: “ياعم بلا عيا أنت كمان سيبنا مستريحين. وشوف لك حكاية تانية”. وقد استمعت لنصيحة السيد السند حميدو .. وشفت لنفسي حكاية تانية .. فاستأجرت سيارة صغيرة «تاكسي» ركبتها وحدى وكأن العلي الجبار شاء أن ينتقم لي فما كادت سيارة الإخوان تتوغل في الصحراء حتى تعطلت عن المسير فقضى جميعهم الليل في مكان قفر وهم يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء .. وبقي الإخوان بسلامتهم في ورطتهم هذه إلى أن بلغ أمرهم مسامع الباشا - وهو في مركز المحافظ عندنا - فأرسل إليهم نجدة أنقذتهم مما كانوا فيه”.

الحلقة المفقودة
للأسف الشديد لم أنجح – حتى الآن – في الحصول على حلقة المذكرات التالية لأعرف ماذا حدث بعد ذلك!! ولكن من حُسن الحظ أن بعض الحلقات تبدأ بملخص للحلقة السابقة - كما أوضحنا من قبل – لذلك وجدت الحلقة التالية وبها ملخص للحلقة السابقة المفقودة، وهذا ما ذكره محرر المجلة في هذا الملخص: «تحدث الأستاذ الريحاني في العدد الماضي عن ضروب الحفاوة التي لقيتها فرقته في قصر «الباشا» بمراكش وعن الهدايا التي نفح بها الممثلين والممثلات في الليلة الختامية لرحلة الفرقة في بلاد المغرب الأقصى، وشرح لك كيف سافروا إلى مرسيليا ومن هناك قصد أعضاء الفرقة إلى مصر، بينما سافر هو إلى باريس، وهناك استطاع أن يسترد من جمعية المؤلفين مبلغ ضريبة الستة في المائة التي كانت تحجزها مسارح البلديات من إيراد رواياته في بلاد المغرب الأقصى، وقد بلغ ما استرده نجيب من الجمعية مائة وعشرين جنيهاً - بقي لديه منها - بعد تنزهه في باريس خمسون جنيهاً مصرياً عاد بها إلي مصر».
والجدير بالذكر أن الحلقة المفقودة يوجد لها مضمون مُلخص منشور في مذكرات الريحاني الصادرة من دار الجيب عام 1949، والباشا المقصود هو الحاج «تهامي الجيلاني» محافظ مراكش الملقب بالباشا. وأغلب ما ذكرناه من كتابات الريحاني في مذكراته عام 1937 وبالأخص عن رحلته إلى بلاد المغرب العربي موجود بصورة ملخصة في مذكرات دار الجيب عام 1949، ولكنها خالية من التفاصيل والتشويق والأحداث التي جاءت في مذكراتنا المكتشفة والمنشورة في مجلة «الاثنين والدنيا» عام 1937.
وإذا تركنا الحلقة المفقودة، ونظرنا إلى الحلقة الجديدة، سنجد أنفسنا تحدثنا عما بها من قبل في مقالتنا السابعة، لأنها تتحدث عن ظروف تمثيل وعرض فيلم «ياقوت». وبناءً عليه سأنتقل بكم إلى بقية المذكرات كما نشرها الريحاني عام 1937 بكافة تفاصيلها الدقيقة والمشوقة، والمنشورة في مذكرات دار الجيب عام1949 بصورة ملخصة ومقتضبة وغير كاملة – كما أوضحنا - والبون شاسع بين التفاصيل الكاملة، وبين الملخصات!!
يقول الريحاني: «وعدت إلى مصر، ولكي أوفق بين محبتي للتمثيل وكراهيتي لمعاملة الممثلين، اتفقت مع الحاج «مصطفى حفني» على أن يتكفل هو بالفرقة مما جميعه بما في ذلك الممثلات والممثلون على أن أتقاضى أنا حصة معلومة. وهنا بدأت في تنظيم حياتي ووهبت نفسي مرة أخرى للفن الذي عشقته بعد أن رفعت عن كاهلي عبء التفكير فيما عداه. وأعددت مع الزميل العزيز بديع رواية «الدنيا لما تضحك»، وما كدت أظهر على المسرح في الليلة الأولى من التمثيل حتى قابلني الجمهور المحبوب بعاصفة من التصفيق عقدت لساني فطفر الدمع من عيني لحظات غمرني فيها شعور لا أستطيع وصفه .. فقد حدثتني نفسي إذ ذاك قائلة: «أهذا المظهر الفائق من الشعور المتبادل بينك وبين الجمهور العزيز كان عُرضة للضياع في ساعة ساعات يأسك وغضبك؟ أهذا الجمهور الذي يحبك وتحبه يهون عليك تركه؟ أبداً والله وأنك لو فعلت لكنت من الجاحدين»!
نعم لقد غبت حوالى ثمانية عشر شهراً عن المسرح، وها أنا بعد تلك المدة التي طالت أعود إليه فأزداد إيماناً بأنني ما خُلقت إلا له وما أحسست السعادة الحقة إلا في ظلاله. وفي صيف ذلك العام انتقلت بالفرقة إلى الإسكندرية فعملنا على مسرح لونابارك بالإبراهيمية بنفس الشروط المتفق عليها مع الحاج مصطفى، فنجحنا نجاحاً طائلاً.


سيد علي إسماعيل