الريحاني يعرض مسرحياته في المدن الجزائرية

الريحاني يعرض مسرحياته في المدن الجزائرية

العدد 823 صدر بتاريخ 5يونيو2023

وما زال الريحاني يروي في مذكراته المنشورة عام 1937 في مجلة «الاثنين والدنيا» عن رحلته إلى الجزائر، قائلاً: ويقضي برنامجنا أن نقصد بعد مدينة الجزائر مدينة «بليدة» وهذه كان قد سبقنا إليها الزميل بديع خيري الذي أثبت في مدينة سوكراس أنه خير متعهد أخرج للناس!! وقد ترسم في «بليدة» نفس الخطة التي سار عليها في سوكراس، فراح يهدي المؤمنين إلى الصراط المستقيم ويدعو إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة .. وله من تعاليمه الأزهرية ما أعانه على النجاح في هذه المأمورية، فقليلون من القراء يعرفون نشأة الأستاذ بديع حيث تلقى تعاليمه الأولى في الأزهر الشريف وكان أستاذه في الفقه وأصول الدين العالم العلامة المرحوم السيد «كمال الدين القاوقجي»، وكان رحمه الله من كبار علماء الدين الأزهريين.
أقول إن نشأة بديع الأزهرية جعلت منه في الجزائر واعظاً له قيمته وله مكانته وله علمه ودرايته .. لهذا نجحت حفلتانا في بليدة كما سبق أن نجحنا في سوكراس .. وشهد الجميع أن المتعهد «الواعظ» .. صحيح زي القرش الأبيض .. اللي ينفع في اليوم الأسود.
وتركنا «بليدة» إلى «مصطغانم» [أي مستغانم]، وفي هذه البلدة برز بشكل واضح تمرد إخواننا الممثلين وزاد عتوهم .. وكم حاولت أن أقف على سبب واحد يدعو لذلك .. ولكني لا أجد، فقد كانت الأموال متوفرة والحمد لله والراحة على الآخر والفنادق فيها «أوكورانت وسُوفاج سنترال» .. والأشيا رضا .. كما أنني كنت أمازح هذا وأدلل هذه .. وأسلي حضرته وأدادي حضرتها ... أمال إيه بس اللي مزعلكم يا أولاد ستين في سبعين؟ لا شيء .. اللهم إلا الغرور الذي يركب الرؤوس والعياذ بالله .. «اللهم أكفينا السوء .. يا الله». وفي بلدة مصطغانم وقعت حادثة أرى أن أرويها هنا من باب التفكهة. سبق أن ذكرت بأننا حرصاً منّا على الظهور بالمظهر القومي هناك غيرنا أسماء زملائنا غير المسلمين إلى أسماء إسلامية، وأننا اخترنا لمديرنا المالي الخواجة «جاكمو» اسم «حسن». وكنا في ذلك في شهر رمضان المبارك وقضى علينا واجبنا أن نكون صائمين طبعاً .. فبعد أن تناولت غدائي مع الخواجة «حسن» في غرفة النوم بالفندق نزلنا للمرور على الإعلانات في الشوارع .. ويعلم المدخنون أن «الكيف» يحكم ولازم السيجارة بعد الأكل فكيف أدخن في الشارع وأنا صائم .. وكذلك الخواجة «أبو علي»؟ ما كدنا نصل إلى التياترو حتى استلم كل منا «محلاً» في دورة المياه وأقفله على نفسه وهات يا تدخين .. فلما انتهينا من هذه المأمورية تسللنا من أماكننا وقصدنا إلى حجرة مدير التياترو فجلسنا معه وسرقنا الوقت كما يقولون .. ثم خرجنا إلى الفندق. وبينما نحن في الطريق شاهد زميلي حسن «جاكمو» شخصاً من أهل المدينة يجرع كوبة ماء .. فأخذه الحماس وهجم على هذا «الكافر» وهات يا ضرب .. لما عدمه العافية!! وإزاي يا راجل يا كافر تفطر في رمضان؟ وبعد الانتهاء من هذه العلقة الفينو .. اتضح أن مدفع الإفطار كان قد ضرب، وأن أوان الغروب قد حل، عندما كنا جلوساً مع مدير التياترو .. دون أن نعرف. وعملت على تخليص المسكين من بين براثن التقي الورع السيد حسن. وانتهت الحكاية بأن اجتمع في الشارع خلق كثير وكلهم مقدر لإيمان هذا الضيف «الضارب» شاكراً له ما فعل من أجل رمضان .. وكانت النتيجة أن حكموا على «المضروب» أن يقدم وافر الشكر «للضارب» وانتهى سوء التفاهم هذا على خير. وسرت مع صديقي السيد حسن جاكمو تبدو علينا مسحة التقى والورع ونحن ننفخ دخان سجائرنا متخذين طريقاً إلى الفندق لتناول طعام الإفطار مع زميلنا الأستاذ بديع خيري .. الذي كان صائماً بحق وحقيق.
غادرت الفرقة مصطغانم إلى «عين تموشنت» فقضت فيها ليلتين لا بأس بهما ثم قصدت إلى «وهران» وهي أكبر ثغر في بلاد الجزائر وتكاد تكون بلدة أوروبية في مظهرها وفي فخامتها ونظامها وجمال تنسيقها. وقد قضينا بها يوم الوقفة وثلاثة أيام عيد الفطر وكان عملنا فيها والحمد لله ناجحا كل النجاح. فلما انتهت أيام وهران صح عزمنا على القيام إلى «معسكرة» وكنت قد أرسلت إليها قبل ذلك بأيام متعهدنا الجديد «الأستاذ بديع خيري» الذي دلت التجربة على أنه كان يفهم مهمته خير الفهم ويؤديها أحسن الأداء. وقد أكرمه آل معسكرة وأحسنوا وفادته، فلما أنــسـوا به تخاطفوا التذاكر منه بالجملة ليوزعوها بأنفسهم على أصدقائهم وأعضاء جمعياتهم كيلا يمكنوا أي أجنبي من مشاركتهم السرور والغبطة بحضور التمثيل. وفي اليوم الذي أزمعنا فيه مغادرة وهران إلى «معسكرة» صحوت في الصباح، وصباحي أنا لا يكون إلا في الحادية عشرة قبل الظهر، وأنا «حامل» همّ الممثلين ودلعهم .. وكنت أبذل جهوداً جبارة في انتقاء الألفاظ الخفيفة الملمس اللطيفة الوقع كي أخاطبهم بها!! أمال إيه .. مش أنا المستخدم بتاعهم؟!
وقبل أن أطلب فنجان القهوة .. بل قبل أن أغادر الفراش لمحت بجواري رقعة صغيرة .. تناولتها فإذا بها «كارت فيزيت» من بديعة مصابني. قرأت ما خطته مثنى وثلاث، وحاولت أن أفهم أكان ما فيه جداً أم هزلاً؟ وهل يقع في باب التهكم أو المهاترة. قالت حضرتها .. في بطاقتها: «عزيزي نجيب .. أتمنى لك رحلة سعيدة، وحين قراءته أكون قد وصلت الجزائر في طريقي إلى مصر .. تشجع لأني مضطرة لهذا العمل». قلت إنني قرأت البطاقة مثنى وثلاث وأنا حائر أو ذاهــل وكأن مطرقة دقت رأسي من الخلف. وشربت قهوتي فعاد إليّ طبعي الهادئ ونسيت الهم فنسيني وداخلني شيء غير قليل من السرور الذي لم أفهم له داعياً ولم أفقه له معنى .. ارتديت ملابسي وقصدت إلى كاتب حسابات الفندق وسألته: «هل أخذت السيدة جميع حقائبها؟» فأجاب بالإيجاب. وخرجت من فوري إلى الفندق الذي ينزل به الممثلون .. وأنا ضارب الدنيا ستين طبنجة، فوجدت «بسلامتهم» في مجلس معقود للتآمر ضدي برضه .. وقبل أن أبادرهم بأية تحية .. صحت فيهم .. من غير تحسيس ومن غير محاسبة .. قلت: «أبلغ حضراتكم جميعاً أن الجوق مفضوض .. وأن بديعة نزلت على مصر .. وأن من يريد منكم السفر إلى مصر فليتفضل حالا .. والمركب اللي تودى أحسن من ... إلخ».
ورأيت الفرصة سانحة «للفضفضة» فقلت لهم: «ومن الآن إلى ما شاء الله تستطيعون أن تتآمروا .. وتاخدوا حريتكم في المؤامرة على كيفكم .. في مصر وعليكم خير!!» واتصلت بالأستاذ بديع خيري في معسكرة - تليفونياً - وأبلغته ما كان من سفر بديعة المفاجئ. وأفهمته ما اتخذت من إجراءات حيال حل الفرقة بعد أن طغى ممثلوها وازدادوا عتواً واستكباراً، ثم رجوت بديعاً أن يعيد ما حصله من أثمان التذاكر إلى أصحابه ويعلن إلغاء الحفلات السابق تقريرها في معسكرة، ثم يوافيني في وهران كي نعود سوياً إلى مصر. المسافة بين وهران ومعسكرة لا تقل عن ساعتين وكان التليفون واسطة الحديث بيني وبين بديع ومع ذلك فقد شعرت أن وجهه يزداد إصفراراً وأحسست الدم يتصلب في عروقه وسمعت صوته المرتعش يتحشرج بين فكيه قائلا: «لأ .. أعمل معروف ياسي نجيب خليها تختم بخير أحسن الجماعة هنا منتظرين بفارغ الصبر، وإذا لا سمح الله ما جتش الفرقة فاللقا يوم اللقا بقى والمقابلة بين يدي الله .. وما فيش هنا لا قرافة مجاورين ولا باب الوزير». قلت: «وكيف نحيي حفلات معسكرة في غياب بديعة وهي صاحبة الدور الأول في جميع رواياتنا؟». فقال بديع: «اختر أي واحدة غيرها فالقوم هنا لا يعرفون عنها شيئاً. بس المهم أن تحضر الفرقة إذا كانت لحياتي قيمة عندكم».
من هذا الكلام وأمثاله عرفت حرج مركز الصديق بديع فعولت على القيام إلى معسكرة مهما كلفني الأمر. وعدت إلى الممثلين فوجدتهم يتحرقون كمداً وغيظاً ويعضون بنان الندم على ما فرط منهم، وقد راح كل منهم يلقي اللوم على زميل له ويأسف على الرحلة العزيزة التي انتهت بغم!! ورأيت الفرصة سانحة لشفاء الغليل وبهدلة صحة سلامتهم زي ما وروني الويل وسواد الليل!! فقلت لهم: «هل أعددتم متاعكم للسفر إلى مصر؟». فقال قائلهم: «وعلى إيه بس يا سي نجيب نسافر مصر دلوقت ما تخزي عين الشيطان ونكمل رحلتنا» .. وقطبت جبيني ورفعت حاجبي في حركة عصبية ثم قلت محتداً: «أكمل الرحلة!! أنا أكمل الرحلة مع ناس همج غجر زيكم!؟ آل أكمل الرحلة آل!! دا إذا كانت حياتي متوقفة على تكملة هذه الرحلة تغور حياتي لأجل خاطركم!!». وبدأت التماسات الممثلين .. وعائلاتهم لاسترضائي وإقناعي بوجهة نظرهم .. ولكنى طلعت فيها .. ونزلت فيهم تهزيء وقلة حيا لحد ما أخذت بحقي حلفا من اللي خلفوهم .. مش منهم بس!. وأخيراً .. رضيت أن أنزل على رغبتهم وأوافق على «إلحاحهم» وأكمل الرحلة بشروط قاسية ظالمة أمليتها عليهم .. فقبلوها دون أن يشذ منهم واحد .. ودون أن أجد بينهم متذمراً واحداً!!
نحن الآن في مدينة وهران وقد دقت الساعة الرابعة مساء وموعد التمثيل في معسكرة الثامنة والنصف، والمسافة بين المدينتين ساعتان كما تقدم. أسرعنا باعتلاء السيارة وانتهزت فرصة الطريق ونزلت حتتك بتتك في عمل بروفات لأدوار بديعة بعد أن أسندتها إلى كل من «فتحية شريف وبهية أمير» واستمر ذلك إلى أن وصلنا معسكرة وكانت الساعة قد بلغت حوالي الثامنة. استقبلنا بديع بظيطة وزمبليطة. ولكنا لم نجد وقتاً لتحيته فأخذت أفراد الفرقة وانتحينا جانباً من المسرح لإتمام البروفات إلى أن يتم تركيب المناظر. وكانت الساعة التاسعة والنصف حين رفع الستار بين دقات قلبي الذي يكاد يقفز من بين جنبي، وفزعي من النتيجة المجهولة التي نسير اليها.
«الليالي الملاح» تلك هي رواية الافتتاح .. انتهى الفصل الأول على خير وتبعه الثاني فتنفست الصعداء، وأعقبه الثالث فإذا التصفيق يدوي وإذا هتاف المتفرجين يملأ أذني معلناً ما وصلنا إليه من نجاح!! سبحانك ربي ما أبلغ حكمتك! لقد كنت أتمنى وجود بديعة في تلك الساعة، لا لتشترك معنا في التمثيل، بل لترى بعيني رأسها ما وصلنا إليه بدونها! وجاءت الليلة الثانية فلم يكن حظها من النجاح أقل من سابقتها، وكذلك نجحت الليلة الثالثة فتوافد علينا الأهلون يتمنون إحياء ليلتين أخريين ويتمسكون بتلبية هذه الرغبة ولم يسعنا بالطبع إلا الموافقة على البقاء يومين آخرين شاکرين حامدين. وفي يومنا الثالث دق جرس التليفون وكانت المتكلمة «بديعة مصابني» في الجزائر، قالت بأنها طلبت وهران فعلمت أننا في معسكرة، ثم سألت عن الحال: فقلنا عال. ولعلها كانت تظن أن الخراب في ركابنا ما دامت قد رحلت عنا. ما علينا، أفاضت بديعة في الاعتذار عما بدر منها فالتمسنا لها العذر وتمنينا لها سلامة الوصول إلى مصر .. إلا أن بادرة من النخوة تملكتها فصاحت في بوق التليفون قائلة: «يا نجيب أنا بُكره الفجر حاكون عندكم في معسكرة». قلت: ليه يا ستي كفى الله الشر؟ اتفضلي أنت سافري محروسة بعناية الله وإحنا أدحنا بنهكع بحمارتنا العرجا اليومين اللي فاضلين. قالت: لا والنبي يا نجيب، أنا ضميري بيوبخني وما أقدرش أبداً أسيبكم في الحالة دي وأنزل مصر. هو أنا ما عنديش دم والا إيه؟ قلت: يا ستي أستغفر الله. مافيش لزوم للتعب. ودستورك معاك. قالت: لا دستور ولا حاسدور .. أعمل إعلان دلوقت حالاً وقول فيه إن بديعة حاتمثل الليلة. وانتظرني على المحطة في القطار الذي يصل معسكرة في السادسة من صباح الغد.
وأعددنا الإعلان وهللنا فيه باسم بديعة ووزعناه في أنحاء المدينة وعلى المتفرجين في المسرح: انتظروا غداً .. غداً ملكة المسرح .. غداً سلطانة الفن .. غداً .. مش عارف إيه وإيه. وانتهى التمثيل فقصدت من فوري إلى المحطة .. لأن ما فيش عندي وقت للنوم .. إذا نمت يمكن تروح عليّ نومة وتيجي «الست» ماتلقانيش ع المحطة تاخد على خاطرها والا حاجة!! كان البرد فظيعاً .. وكان الثلج يتساقط .. ومع ذلك سهرت بقية الليل على الرصيف إلى أن حانت ساعة وصول القطار. نزل الركاب وأنا أفرزهم واحداً واحداً دون أن أجد بينهم الضالة التي لحسني البرد طول الليل انتظاراً لها .. فكرت في أن تكون نائمة في إحدى العربات، فصعدت وأيقظت النائمين جميعاً كلاً بدوره .. وكم تلقيت من شتائم بعضهم وزمجرة البعض الآخر .. ونرفزة هذا وسباب ذاك: فهذا يلعن بالفرنسية وذاك يرطن بالإيطالية وهذه تسب بالعربية وتلك «تسبخ» بالأسبانيولية، وهكذا خرجت من القطار بمجموعة شائقة من لعنة أبي خاشي بالسبع تلسن .. فعدت أدراجي وأنا أبتسم ساخراً لا للشتائم التي صبتها على نافوخي عصبة الأمم التي احتواها القطار .. ولكن لأنني أتعبت نفسي في غير طائل وقضيت الليل وحيداً .. وسرت على قدمي قاصداً الفندق .. وأعترف بصراحة أنني في تلك اللحظة فتشت في الطريق عن خف واحد من خفي حنين أرقع به أصداغي وأكسر به مخي الوسخ الذي لم يفهم لأول وهلة أن بديعة لم يكن يهمها في الأمر إلا الخراب!! وبالرغم من ذلك لم يشعر جمهور معسكرة بنقص في الفرقة بل ألح في أن نقدم له حفلتين .. فوق العادة!! ففعلنا.


سيد علي إسماعيل