المكان والزمان في المسرح بعد الدرامي(2-2)

المكان والزمان في المسرح بعد الدرامي(2-2)

العدد 757 صدر بتاريخ 28فبراير2022

 وعلي النقيض من استراتيجيات التباطؤ والجمود والتكرار، تحاول أشكال المسرح بعد الدرامي الأخرى أن تتبنى سرعة زمن الوسائط أو حتى تتجاوزها. ويمكننا أن نذكر هنا الإشارات إلى جماليات مقاطع الفيديو، الممزوجة باقتباسات الوسائط، ومزيج من الحضور الحي والتسجيلات أو تقطيع الزمن المسرحي كما في مسلسلات التليفزيون. وتتطور أعمال الممارسين الشبان في التسعينيات هذا الأسلوب خصوصا، ولم يتركوا أنفسهم لإحباط احتمال اقتراب أعمالهم من العروض متعددة الوسائط والاستعراضات بل تناولوا نماذج الوسائط كمادة استخدموها في بسخرية وبسرعة شديدة غالبا. وبفضل الإذاعة والتليفزيون والإنترنت يمكن أن يتكامل الواقع من كل أنحاء العالم في الأداء، ويضع المتفرجين في حالة اتصال مع الناس البعيدين عنهم في مواقع الأداء الفعلية. فما يمكن أن يظل تافها كمجرد إثبات للتواصل الوسائطي، إذ في سياق المسرح يظهر الصراع الكامن بين لحظة الحياة الفعلية وسطح الزمن الاليكتروني الافتراضي. وفي أعمال يورجن كروز تؤدي اقتباسات التكامل بين الفن الشعبي والوسائط إلى تفسيرات مثيرة في الدراما، وتدمج فرقة فون هايدوك الهولندية إيهام السينما، ومسرحيات المخرجين الشبان مثل رينيه بوليتش ووتيم ستافيل واستيفان بوشر أو تبني فرق مسرحية مثل فرقة جوب سكواد علي سرعة جماليات الفن الشعبي والوسائط. فالآنية التي صارت سائدة هنا هي أحد السمات الرئيسية في تشكيل الزمن بعد الدرامي. فهي تقدم السرعة وتقدم آنية أفعال الكلام المختلفة والفيديو تداخل مختلف إيقاعات الزمن، وتنقل زمن الجسم والزمن التكنولوجي إلى المنافسة مع بعضهم البعض (كما هو الحال في أعمال جون جوسيرن أو عرض « اكتشاف وهمي « لفرقة هاوس ستاشان) من خلال عدم اليقين بشأن ما إذا كان يتم إنتاج صوت أو صورة أو مقطع فيديو مباشر أو مسجل باستخدام تأخير الزمن، فيصبح من الواضح أن الزمن هنا من أصل مشترك ويقفز بين الفراغات الزمنية غير المتجانسة. 

وحدة الزمن: 
 في أكثر من مجال، كانت وحدة الزمن جوهرية في المسرح الدرامي الأرسطي. فربما أشار في البداية إلى وحدة المحاكمة وجلسة الاستماع – وقد وصف أدورنو التراجيديا القديمة ذات يوم بأنها جلسة استماع بدون حكم. وحتى عندما لا يتم السعي إلى وحدة خارجية للزمن (كما هو الحال في المسرح الاليزابيثي مثلا) كان المسرح يحكمه التقارب العضوي المثالي، والذي كان له نتائج علي تمثيل الزمن. ومما يميز ذلك عن الدراماتورجيا التي غيرت فهم المسرح في القرن العشرين. فلم يميز مفهوم بريخت للدراما اللاأرسطية والذي صيغ في الثلاثينيات المسرح الملحمي عن القواعد الكلاسيكية في المسرح الدرامي فقط، بل ميزته عن هدف إثارة عاطفة المتلقي من خلال التقمص. فجانب من إعداد المسرح الملحمي هو دراماتورجيا القفزات في الزمن التي تشير إلى الواقع الإنساني والسلوك باعتباره متقطع. 
لا يرغب المتفرج الحديث أن يكون مرعيا ومنتهكا (وتحديدا من خلال جميع أنواع الحالات العاطفية)،فهو يريد أن يكون حاضرا ببساطة أمام المواد الإنسانية من أجل ترتيبها بنفسه.
ولهذا السبب يحب أيضا أن يرى الإنسان في مواقف ليسـت لا تحتـاج إلى شـرح،  ولهـذا السـبب لا يحـتاج المــبررات المنطقية ولا دوافع المسرح القديم النفسية. 
وكذلك أيضا علاقات الناس في عصرنا ليست واضحة. وبالتالي يجـب علي المسرح أن يجد شكل تمثيل عـدم الوضوح هذا بشكل كلاسيكي بقدر الإمكان، أي في صفاء ملحمي. 
ففي حين يفضل بريخت القفزات والتقطيع علي كل المستويات، فان المنطقي والزمني، وهما عند أرسطو الأهمية الأساسية لوحدة الزمن، تعني ضمان وحدة الفعل ككل متماسك. فلا يجب أن تحدث قفزات أو استطرد يمكن أن تحجب أو تشوش علي الفهم. بل بالأحرى، بل يجب أن يسود منطق يمكن التعرف عليه بدون انقطاع. المهم في هذا السياق هي الملحوظة المقتبسة من الفصلين السادس والسابع من كتاب أرسطو « فن الشعر « والتي نادرا ما يتم تقويمها لأنها تستحق أن تكون تحديدا، أن الفعل الدرامي يجب أن تكون له جاذبية – بمعنى الامتداد الزمني. وهنا يستخدم أرسطو مقارنة غريبة للفعل مع الحيوان (المفهومة فقط في ضوء فكرة الوحدة العضوية وكلية الفعل). فهو يقول – وهذا المقطع يستحق الاقتباس مرة أخرى – لا يعتمد الجميل فقط علي الترتيب بل يعتمد أيضا علي الجاذبية الصحيحة: 
لهذا السبب لا يمكن أن يكون الكائن جميلا إذا كان شديد الصغر (لأن الملاحظة تصبح مشوشـة حيث يتعلق الأمـر بعـدم وجـود مدى زمني محسوس أو شديد الضخامة (لأن المشاهدة عندئـذ لن تكون متزامنة، وسـوف يجـد المشاهدون أن معنى الوحــدة والكلية مفقودان من رؤيتهم،أي أنه إذا كان هناك حيوان طوله ألف ميل). ما معني هذه المقارنة التي تبدو غريبة لحيوان يبلغ طوله ألف ميل، في أقصى حدود الإدراك. إن ما علي المحك هو تجنب الالتباس والفوري. فالشكل  - الجميل والتناغم العضوي – يجب أن يكون مفهوما للبديهة بدون تأخير الزمن، في لحظة واحدة، ومن نظرة واحدة. وإذا طبقنا ذلك علي الفعل الدرامي، فان هذا يعني أن منطقه المتناغم وكماله لا يجب أن يفلت من المتفرج. بالتالي تقول الحجة أن الفعل يجب أن يكون مكثفا بالطريقة التي تبقيه مختصرا – قابل للإحاطة – وسهل التذكر آنيا: يمكن حصره. 
 وبنظرة عامة واضحة، هناك حاجة الر غياب التشويش واللبس في تعزيز الوحدة المنطقية. وبدنهما، لن يتحقق شيء جميل. وباسم هذه الإحاطة المثالية، فان الطول السليم للفعل الدرامي يتحدد وفقا للزمن الذي يستغرقه الانعكاس لكي تحدث التغير المفاجئ. ارتفاع وسقوط، بمعنى آخر زمن التغير المنطقي. فالدراما تمنح الارتباك الوفير والفوضى منطق وبنية في الوجود، وبهذه الطريقة، فإنها بالنسبة لأرسطو، لها مكانة أرفع من التأريخ الذي ينقل الأحدث الفوضوية فقط. فهي جوهريا وحدة الزمن التي يجب أن تدعم وحدة هذا المنطق المعني بالنجاح بدون تشويش، واستطراد وتمزق. وأحد صور مفهوم وحدة الزمن  هذه، والتي ظلت كامنة عند أرسطو  هي: بنفس الدرجة التي يحقق فيها الزمن والفعل تماسكا واستمرارية متتابعة وكلية قابلة للإحاطة، ترسم هذه الوحدة نفسها خطا لتمييز الدراما عن العالم الخارجي. فهي تحمي بنية التراجيديا المغلقة: فالفراغات والقفزات في الاستمرارية الداخلية للزمن، يمكن أن توظف علي الفور، من الناحية الأخرى، كنقاط تداخل مع الواقع الخارجي. فالتماسك الداخلي والانغلاق أمام الواقع الخارجي هما صورتان مكملتان لهذا الزمن المسرحي الموحد. فلا يجب أن تكون المتعة الجمالية بلا ترتيب – فما يجب تجنبه علي سبيل المثال، هو طقوس النشوة الجماعية، أو السلوك التمثيلي المفرط الذي يؤدي إلى اندماج عاطفي. وبالتالي يسعي المفهوم الأرسطي لوحدة الزمن الدرامي إلى: 
تحديد مجال مغلق للجمالي بزمنه المغلق. 
فهم تجربة الجمال التي ينشئها كنظير للمنطقية. 
فحتميات الاستمرارية الداخلية والتناغم والتناسق العضوي والإحاطة الزمنية كلها أمور تستخدم لتنمية هذا التناظر. وبالمقارنة، يلاحظ أرسطو بوضوح التأثير العاطفي الكبير للمسرح – فالخوف والشفقة عاطفتان قويتان. والتطهير معني بترويضهما عن طريق نوع من التأطير من خلال العقل. 
 بغض النظر عن التضمينات الفلسفية لكتاب أرسطو «فن الشعر»، فانه نص عملي ووصفي. ورغم ذلك أعيد تفسير ملاحظاته في العصور الحديثة باعتبارها قواعد معيارية، قواعد كدعوات قوية، ودعوات قوية كقوانين – لقد تحول الوصف إلى دعوات قوية. وأثناء عصر النهضة كانت هناك منافسة بين المفهوم الأفلاطوني الجديد للفن الموجه نحو الضجة الشعرية والمفهوم الأرسطي للفن الموجه نحو العقلانية والقواعد. وتغلب المفهوم الأرسطي ووصل إلى تعريف أفكار المسرح في العصر الحديث، وفي بادئ الأمر المذهب الكلاسيكي. ويفسر كتاب بيير كورنيه «الحديث عن الوحدات الثلاثة Discours sur les trios unites” عام 1660 أن الكاتب المسرحي يجب أن يحاول إنجاز هوية بين الزمن الذي يجري تمثيله وزمن التمثيل المسرحي. ويفسر أن هذه القاعدة لم تمليها سلطة أرسطو فقط بل أنها وفقا للعقل الطبيعي. فالقصيدة الدرامية بالنسبة لكورنيه، دون أي سؤال، هي محاكاة أو بتعبير أدق صورة لأفعال الإنسان. وهذه المقارنة مثيرة. فكورنيه يجعلها تخدم الحجة الأساسية: إذ يقول «يقاس إتقان الصورة بتشابهها مع الأصل. ومادامت وظيفة وحدة الزمن هي المعنية، وتظهر الكلمة الأساسية المهمة التي يجادل فيها كورنيه لماذا لا يجب أن يكون الزمن الذي يجري تمثيله في النهاية أطول من زمن التمثيل، وأنه يجب أن تكون الصورة والأصل متشابهين قدر الإمكان في هذا الصدد أيضا. ويقدم كورنيه سببا واحدا خاصا للسبب الذي يجعلنا نطمح إلى هذه الهوية: وهو تحديدا، بسبب الخوف من السقوط في حالة بدون قواعد. فالهوية العملية للزمن الذي يجري تمثيله وزمن التمثيل ليسا هما التحفيز الحقيقي لوحدة الزمن بل بالأحرى الخوف من محو القواعد والتشويش. وسبب القاعدة هو – تأكيد القاعدة نفسها. فما علي المحك هو منع التشويش، ومنع تجول الخيال الحر غير المسيطر عليه من خلال العملية الدرامية، ومنع تفشي التلقي المتخيل في مجالات زمنية ومكانية لا يعلم الله مداها. 
 بالنسبة لكورنيه، يجب تنظيم مدى الزمن الأوسع في الدراما بالطريقة التي توضع فيها الثغرات الأكبر في الزمن بين الأفعال إذا لم يكن هناك مفر من ذلك. ويتم تجنب جعل الزمن الفعلي موضوعا من خلال عدم الإشارة إلى التواريخ الدقيقة والأزمنة في النص المنطوق. وبالثل يجب تقليل التقارير حول الأحداث قبل عرض الحدث علي خشبة المسرح حتى لا يزيد الحمل علي ذاكرة المتفرجين وقوتهم الفكرية. وباعتباره ضعفا مثاليا مفضلا للواقع، وفي نفس الوقت ككيان من العقلانية والتماسك الإيحائي، يحتاج المسرح إلى وحدة الزمن والتركيز علي الحاضر واستبعاد الفراغات الزمنية متعددة الطبقات. فالوحدة تخلق الاستمرارية المعنية بأن تجعل أي فصل بين الزمن الخيالي والزمن الحقيقي غير مرئي. لأن أي تمزق في بنية الزمن، نقرأه، من شأنه أن ينطوي علي خطر أن يصبح المشاهد واعيا بالفرق بين الأصل والصورة، والحقيقة والصورة، وأنه سوف يتجه حتما إلى زمنه، الزمن الواقعي. ثم بدون أي سيطرة، يمكنه أن يترك الخيال يعربد بغير ضابط، ويتأمل ويشغل نفسه بالتفكير أو بالحلم. البنيات الزمنية في التقاليد الأرسطية ليست خاطئة ببساطة ولا هي إطار عفا عليه الزمن بل هي بالأحرى جزء جوهري من التقاليد القوية ضد فعاليته المعيارية التي يجب علي المسرح أن يؤكد نفسه من خلالها باستمرار – حتى لو لم يتمسك أحد بمعيار وحدة الزمن بأي معنى شكلي. ويمكن تحديد المفاهيم الجمالية الدرامية الأساسية لهذه التقاليد كتعريف وشمول للتلقي كمحاولة لبناء نموذج التخيل والفكر والمشاعر في المسرح. فبداخله يكون لوحدة الزمن قيمة الملمح المهم بشكل حاسم. وقد ركزنا هنا علي أرسطو وكورنيه، مع أنه في القرن الثامن عشر وتحت راية ما يسمى العلامات الطبيعية، استمرت شاعرية المسرح عاملة في السيطرة علي الخيال وتكوينه، بما في ذلك العادات الجسدية. 
     لقد كانت جوانب وحدة الزمن المعاصر ومازالت – الاستمرارية في الداخل، الانعزال عن الخارج – هي القواعد الأساسية ليس فقط لأي مسرح، بل أيضا في أشكال السرد الأخرى، مثل النظرة الجانبية في أفلام هوليوود بقطعاتها الخفية المثالية التي يمكن أن تؤكدها بسرعة. ويمكننا أن نستنتج أن التقاليد الأرسطية في دراماتورجيا الزمن لم تتبع هذا الهدف فقط: كي تمنع ظهور الزمن كزمن. والوقت بما هو كذلك معنى بالاختفاء، والاختزال إلى شرط غير ملحوظ لوجود الفعل. وقد خدمت قواعد معالجته في النهاية غرض أنه ظل غير ملحوظ. فلم يكن هناك شيء يحرر المتفرج من سحر الفعل الدرامي. والمعنى الحقيقي لجماليات الزمن الأرسطية ليس جماليا. فوحدة الزمن في المسرح بالأحرى – باعتبارها استمرارية للزمن الخيالي في الدراما وزمن الأداء – تشير إلى صورة فنتازية عميقة، ووهم الاستمرارية. يهدف المسرح إلى عكس وتكثيف الاستمرارية الاجتماعية للتفاعل والاتصال، واستمرارية السياق الاجتماعي الرمزي للمثاليات والقيم والتقاليد. وبشكل عكسي: إذا فترض المسرح تمزيق هذه الاستمرارية العميقة، سوف تتوقف وحدة الزمن أيضا – ليس فقط في الدراما بل أيضا في حقيقة نص الأداء. 

الجسم: صور الجسم بعد الدرامية 
 المفاهيم الثقافية لماهية الجسم عرضة للتغيرات الدرامية، والمسرح يصوغ هذه الأفكار ويعكسها. فهو يمثل الأجسام وفي نفس الوقت يستخدمها باعتبارها مادته الدلالية الرئيسية. ولكن الجسم المسرحي لا يستهلك نفسه في هذه الوظيفة: ففي المسرح الجسم قيمة فريدة. ومع ذلك، ظلت حقيقة الجسم المادية، قبل الحداثة، ذات أهمية عرضية بالأساس. فقد كان الجسم معطى مقبولا بامتنان. وأصبح تجليا لهيمنة الطبيعة المطبقة علي الإنسان. فقد كان منضبطا ومدربا ومكونا لكي يعمل كدال، ولكنه لم يكن مشكلة مستقلة وموضوعا في المسرح الدرامي، حيث بقي بالأحرى كنوع ضمني. وهذا ليس مستغربا بالنظر إلى أن الدراما جاءت أساسا كتجريد من كثافة العالم المادي من خلال التركيز الدرامي علي الصراعات الروحية – علي النقيض من غرام الملحمي بالتفاصيل. فيما قبل الحداثة، كانت الجسدية موضوعا صريحا فقط في حالات استثنائية تؤكد قاعدة تهميشها الخطابي: القضيب في الكوميديا القديمة، وألم فيلوكتيتيس، والتعذيب والألم في المسرح المسيحي، وحدبة جلوسستر، ومرض فوتسيك. ورغم ذلك، في الحداثة، أصبحت النزعة الجنسية والألم والمرض والاختلاف البدني والشباب والشيخوخة ولون البشرة موضوعات حاضرة لأول مرة. وبدأ زواج الإنسان والآلة (عند هاينر موللر) مع الطليعة التاريخية بالمزاوجة بين العضوي والآلي. واستمر تحت راية التقنيات الجديدة ورسخت الجسم البشري بأسلوب شامل: المرسل عبر الأسلاك إلى نظم المعلومات، ويولد الجسم أوهاما جديدة في المسرح بعد الدرامي أيضا. بينما يشير التنظيم المكاني في عرض شليمر «البالية الثلاثي Triadic Ballet “ أو ترتيب السطح في لوحات موندريان إلى المنظور اليوتوبي للتنظيم الاجتماعي العقلاني، فان آلات الرغبة والارهاب التي يتم توسيطها تقنيا في المسرح المعاصر تفتقر إلى هذه السمة اليوتوبية (الدرامية). بدلا من ذلك نجد اختلافات في الجسم المخترق تقنيا: صورة قاسية للأجسام بين الكائن الحي والآلات. 
 يكتسب المسرح الحداثي والمسرح بعد الدرامي إمكانيات جديدة من تجاوز الجسم الدلالي. فأصبح الجسم أحد العوامل المميزة للمسرح الآن، إذ تطبق عليه الصيغة التالية: الحسية تقوض الفهم. فقد تطلب الأمر تحرير المسرح كجانب ملائم من جوانب الفن لكي يفهم أن الجسم لا يجب أن يكتفي بنفسه كدال بل يمكنه أن يكون وسيطا مؤثرا في التجربة بدون المعنى، وهي تجربة لم تهدف إلى إدراك الواقع والمعنى، بل تهدف إلى تجربة الاحتمالات. وعلي هذا النحو، يفتح الجسم متعة النظر والخوف منه في فراغ الاحتمال المتناقض من خلال وجوده في إشارة ذاتية. مسرح الجسد هو مسرح الاحتمالية المتحولة مابين الجسد غير المعد وتسليط الضوء علي الإمكانات باعتبارها تهديدا للسلب (كما في ينظر له ليوتار في مفهوم المتسامي) وفي الوقت نفسه كوعد. 
 تحدث العملية الدرامية بين الأجسام، وتحدث العملية بعد الدرامية مع/علي/نحو الجسم. وتستبدل المبارزة الذهنية، التي يترجمها القتل الجسدي على خشبة المسرح والمبارزة المجازية فقط علي خشبة المسرح، بالفعالية الحركية البدنية، أو إعاقتها، أو تشكيلها أو عدم تشكيلها، أو إكمالها أو تفتيتها. فبينما كان الجسم الدرامي هو حامل الألم، يقدم الجسم بعد الدرامي صورة لألمه. وهذا يمنع كل التمثيل والتصوير والتفسير بمساعدة الجسم كمجرد وسيط. إذ يجب علي الممثل أن يهب نفسه. ويلاحظ فاليري نوفارينا Valere Novarina : « الممثل ليس مفسرا لأن الجسم ليس أداة «. ويرفض فكرة تكوين الشخص الدرامي من خلال الممثل، ويعارضها بصيغة أن ما يحدث علي خشبة المسرح هو تفكك الإنسان. ويتغير مفهوم الاتصال باعتباره اتصالا جسديا بشكل جذري. ويمكننا القول إن الدينامية التي تحافظ علي الدراما كشكل من أشكال التطوير قد انتقلت إلى الجسم، والى وجوده العادي. فتحدث النزعة الدرامية البدنية الذاتية. ولعل باعث المسرح بعد الدرامي في تحقيق الحضور المكثف (التجليات) للجسم الإنساني هو السعي إلى تأكيد الجسم. ومن هذا الوضع الأساسي، تأ سلسلة من الصور تشير كلها إلى  واقع يوجد فقط في المسرح، وهو تحديدا الواقع المسرحي (das TheatReale). 
 ليس من قبيل المصادفة أن صور الجسم الجديدة في الرقص هي المرئية بوضوح. ففي الرقص نجد أن المعبر عنه بشكل متطرف هو الحقيقي بالنسبة للمسرح بعد الدرامي عموما: فهو لا يصوغ المعنى ولكن الطاقة، ولا يمثل التوضيح ولكن الأحداث. فكل شيء هنا إيماءة. إذ يبدو أن الطاقات المجهولة أو الخفية تنطلق من الجسم. وتصبح رسالته وتٌعرض في نفس الوقت أغرب عمق في الذات: ما يتعلق بالأرض المجهولة. وهذا واضح في قسوة الطقس الذي يستكشف حدود ما يمكن تحمله أو عندما تظهر الظواهر الغريبة والخارقة علي السطح (الجلد) والإيماءات الاندفاعية والاضطراب والإثارة والتشنجات الهيستيرية وتفكك التوحد وفقدان الاتزان والسقوط والتشوه. ومثلما يفضل الرقص الحديث الانقطاع، تأخذ مختلف أعضاء الجسم الأسبقية علي مجملها باعتبارها كل. والتخلي عن الجسد المثالي في أعمال ويليام فورسيث أو ميج ستيوارت أو فيم فانديكيبوس أمر شديد الوضوح. ولا توجد أزياء تنكرية إلا إذا تم استخدامها بطريقة ساخرة. ولا تستبعد الأوضاع الجديدة السقوط والدحرجة والاستلقاء أو الجلوس، أو الالتواء والإيماءات مثل هز الكتفين، وتكامل الصوت واللغة، وكثافة جديدة للاتصال البدني (ميج ستيوارت). 
 من بين سلسلة الصور التي يمكن أن تعد عرضية بالنسبة للمسرح بعد الدرامي تقنية الحركة البطيئة، المنتشرة أعقاب أعمال ويلسون. إذ لا يمكن اختزالها كمجرد تأثير بصري خارجي. فعندما تعرض الحركة البدنية إلى درجة أن زمن التطور يبدو ممتدا وكأنه عدسة مكبرة، والجسم نفسه يُعرض في ماديته بشكل لا مفر منه. ويتم تكبيرها كعدسة ومنفصلة عن استمرارية الزمن-المكان كموضوع فني. وفي نفس الوقت، يتم تغريب الجهاز الحركي: يظل كل فعل معروفا (مثل المشي والنهوض والوقوف والجلوس) لكنه يتغير وكأنه لم يُرى. ويتحلل فعل المشي، فيصبح رفع القدم، ومد الساق وانزلاق الوزن والنزول بعناية عن النعل. ويتخذ الفعل في المشهد جمال إيماءة نقية بغير هدف. 
 ولكن ما الذي نعنيه بالإيماءة ؟. قبل كل شيء، تخلينا عن مجال الوسائل الهادفة،، ولكن ليس كغاية في حد ذاتها (كشكل جمالي). فالرقص مثلا إيماءة، وفقا لجورجيو أجامبين، لأنه يتألف من شخصية الوسائط وعرضها  كلية من دعمها للحركة البدنية. فالإيماءة تتألف من عرض الوسائطية في الجسم ويصاغ جوهره الإيمائي باعتباره البعد الذي تبقى فيه كل الإمكانات في الفعل وفي التشويق وفي بيئة خالصة (وفقا لملارميه). الإيماءة هي التي تظل متخلفة في أي عمل هادف: فائض من الإمكانية وظاهراتية الرؤية التي تعمي، أن جاز التعبير، أي تجاوز للنظرة المنظمة فحسب – فأصبحت ممكنة لأنه لا يوجد هدف ولا ميل لتوضيح الضعف الحقيقي للمكان والزمن والجسم. والجسم بعد الدرامي هو جسم الإيماءة، ويفهم كالتالي: الإيماءة هي الإمكانية التي لا تفسح المجال للفعل لكي يستهلك نفسه فيها لبل بالأحرى يبقي كامكانية في الفعل وويرقص فيه. 
     وفي أعمال فرقة سوسيتاس رافايللو زانسيو نجد النحت الجمالي ملحوظا. وهذه الفرقة المدهشة، هي أحد أهم الفرق المسرحية الايطالية التجريبية، وقد بدأت عام 1981. في كل مشروع يتم تجميع فرقة جديدة حول قلب المجموعة كلوديا كاستيلوتشي. وغالبا ما يدمجون الناس في بدنية شاذة أو بدنية معدلة بالمرض. فكل جسم له حكايته، يفسره روميو كاستيلوتشي. إنها مسألة عودة الجسم باعتباره حقيقة غير مفهومة وغير محتملة آنيا. وعروضها المهمة هي «سانتا صوفيا Santa Sofia” – « مسرح الخمير Teatro Khmer” (1985)، و“ جلجامش (1990)، “ هاملت “ – « المظهر الخارجي العنيف لموت الرخويات The Vehement Exteriority of the Death of a Mollusk” (1992)، “ قناع Masoch” (1993)، الأورستية (1995)، “ يوليوس قيصر “ (1997). ففي الأورستية، هناك وفرة في الاقتباس من الفنون البصرية: فمثلا يتم اختيار ممثل لأنه طويل ويشبه شخصيات جياكوميتي. وآخر يرتدي ثياب بيضاء ومكياج أبيض لكي يذكرنا بنحت جورج سيجال وأحيانا يقوم بأوضاع واتجاهات رسوم كافكا. وتلعب دور كلوتمنسترا الممثلة التي تبدو صراحة وكأنها جبل من اللحم الملون بالأحمر، وكأنها مستلقية في جمود في حكاية خرافية. وكإشارة جسدية ينقل ثقلها قوتها، ولكن الانطباع الحسي الفوري الخالي من تفسير يظل سائدا. وكاسندرا محبوسة في إطار أشبه بصندوق، وتتشوه ملامحها من خلال زجاج متجمد، بحيث يبدو وكأننا نشاهد لوحة لفرانسيس بيكون. هنا يوجد المسرح في أقرب ما يكون إلى الفنون البصرية. 
 يؤدي النحت الإنساني الحي، وحركة النحت بين السبات والحيوية، إلى كشف نظرة المتفرج المتلصص علي المؤدي. وعندما يعود عنصر النحت في مسرح الثمانينيات والتسعينيات فانه يكون تحت منطلق مختلف تماما عما كان موجودا في الحداثة الكلاسيكية. فالمثالي يتحول إلى عنصر من القلق. ولا يُعرض الجسم من أجل اقترابه من المثال الكلاسيكي ولكن من أجل مواجهة مؤلمة مع الخلل. وتتكون جاذبية النحت الكلاسيكي للجسم وجدليته الجمالية  من كل معنى بأن الكائن البشري الحي لا يستطيع أن ينافسهم. ففي تبادل النظرات “ هنا والآن” بين المشاهدين وخشبة المسرح، بالمقارنة، يتعرض الجسم العجوز المتداعي إلى امتداد قاسي. ويتوازن المؤدي علي نصل سكين بين التحول إلى قطعة معرض ميتة وتأكيد ذاته كشخص. وبطريقة معينة، يقدم المؤدي نفسه كضحية: بدون حماية من الدور الذي يلعبه، وتحصين صفاء المثالي، ويتم تسليم الجسد في هشاشته وبؤسه إلى محكمة تحكم علي النظرات كعرض للتحفيز والاستفزاز الجنسي. ورغم ذلك من موقف الضحية هذا، مكن أن تتحول صورة الجسم النحتي بعد الدرامي إلى فعل عدواني وتحدي للجمهور. وبينما يواجهه المؤدي كفرد، كشخص قابل للكسر، يصبح المتفرج واعيا بحقيقة أنه يرتدي قناع في المسرح التقليدي، ورغم أنه يخضع بشكل لا مفر منه إلى علاقة النظرة بالمشهد: علاقته بفعل الرؤية الذي يتم تطبيقه بشكل تلصصي علي المؤدي كما لو كان قطعة نحت. 
 يمكن للمسرح الذي يرفض النموذج الدرامي أن يستعيد إمكانية إعادة الأشياء إلى قيمتها وإعادة تجربة الشيئية  للممثلين البشر وهي التجربة التي أصبحت غريبة عليهم. وفي نفس الوقت تكتسب مجال لعب جديد في مجال الآلات، التي تربط الناس والآليات والتكنولوجيا – من ألآت تادوش كانتور الغريبة في الحب والموت وصولا إلى المسرح عالي التقنية. وقد لاحظ هاينر موللر في مسرح ويلسون حكمة الحكايات الخرافية التي لم يستطع تاريخ البشر أن يفصلها عن تاريخ الحيوانات (والنبات والأحجار والآلات). لقد بدا أنه يتوقع وحدة الإنسان والآلة، وهي الخطوة التالية في التطور. ويبدو أن التسارع التقني ومع ميله لتحويل كثافة الجسم إلى جهاز يمكن التحكم فيه واختياره – جسم تقني مبرمج – يعلن عن طفرة أنثروبولوجية سُجلت أول هزاتها بشكل أدق في الفنون بشكل أكبر منه في الخطاب السياسي والقضائي الذي عفا عليه الزمن. 
....................................................
• هذا المقال الجزء الثاني من الفصل الرابع في كتاب « المسرح بعد الدرامي» تأليف هانز سيز ليمان والذي صدر عن روتليدج عام 2006 . وقد سبق أن قدمت مسرحنا عدة مقالات لهذا المؤلف ...   


ترجمة أحمد عبد الفتاح