جولة في شارع المسرح الألماني

جولة في شارع المسرح الألماني

العدد 822 صدر بتاريخ 29مايو2023

لا يكاد كثيرون في عالمنا العربي يعرفون شيئا عن المسرح الألماني رغم أن ألمانيا بها حركة مسرحية نشطة تستحق أن نتعرف عليها.
وأفضل مناسبة للتعرف على الحياة المسرحية في ألمانيا هي المسرحية الغنائية الكوميدية “الخط الأول” التي تم افتتاح عرض جديد لها على مسرح “جريبس” في برلين، وهو نفس المسرح الذي تعرض عليه بين الحين والآخر منذ عام 1986 في رقم قياسي يتحقق لأول مرة في عالم المسرح الألماني. 
وكانت المسرحية واجهت قبل ذلك رفضا لعرضها من مسارح مختلفة منذ كتابتها ووضع ألحانها وأغانيها للتشكيك في احتمالات الإقبال الجماهيري عليها عام 1982. وانتهت المشكلة حين وافق مسرح شتوتجارت على عرضها وحققت نجاحا كبيرا.
 هنا قرر مسرح “جريبس” عرضها حيث إنه من المسارح المتميزة ومن المعالم البارزة فى الحياة الثقافية والفنية في ألمانيا ويدقق كثيرا فيما يعرضه من مسرحيات. 
 وهذا المسرح (360 مقعدا) تم إنشاؤه عام 1966 كمسرح للأطفال والشباب على أيدي مجموعة من الطلبة الهواة لكن سرعان ما تطور وأصبح وجهة الألمان من كل الأعمار. 
 عرضت المسرحية حتى الآن على هذا المسرح 1750 ليلة فقط، تغير خلالها الممثلون والمخرجون والرؤية، لكن الجوهر ظل ثابتا.. مسرحية غنائية كوميدية و10 أغانٍ لا تتغير غالبا. وقد يرى البعض هذا الرقم متواضعا بالقياس إلى تلك المدة، لكن يمكن تفهمه في ضوء ارتفاع تكاليف العرض وسعر التذاكر الذي لا يحقق ربحا كبيرا. ولولا الدعم الذي كانت الدولة تقدمه لعروض هذا المسرح، وتلك المسرحية لقل العدد كثرا. وفي كل عروض مسرح جريبس نجد مشاهدين من كل الأعمار يتفاعلون مع العرض بدءا من مشهده الرئيسي الذي يظهر فيه أربعة رجال يرتدون ملابس نسائية سوداء باعتبارهم أرامل ضباط شاركوا مع النازي في الحرب العالمية الثانية.  

شعبية
ويرى ناقد الأوبزرفر البريطانية أن هذا العرض ما كان ليستمر طيلة هذه الفترة حتى إن كل تذاكره مباعة إلى نهاية الصيف، لولا الشعبية الجارفة التي حققها. وهذه الشعبية يفسرها بعبارة تقول إنه كان عملا موسيقيا وضد الموسيقى في وقت واحد musical and an anti-musical نجح في تحقيق المعادلة الصعبة بين عمل يقبل عليه الأطفال وبين المسرح الجاد على نحو نادرا ما يتمكن المسرح الألماني من تحقيقه.
ويمكن إرجاع شعبية هذا العمل أيضا إلى نجاحه في تقديم مزيج النغمات السهلة الجذابة والآراء السياسية على نحو غير مألوف في عالم الأدب الأنجلوفوني.  والمسرحية نصا وأغاني من تأليف فولكر لودفيج (85 سنة حاليا) وألحان الموسيقار الألماني بيرجر هيمان (1943 -2012).
كما زادت من شعبية العرض الأغنية التي هاجمت الاتجاهات العنصرية التي تتنامى في ألمانيا ضد الأتراك التي تقول مقدمتها: “برلين تغرق بالأتراك.. وهناك إجابة واحدة لهذه المشكلة وهي أن نضربهم كما ندق الطبول وأن يظهر رجل قوي يخلص البلاد منهم لتعود شوارعنا نظيفة من جديد وتمتلئ بالأشجار”. وهذه الأغنية بالذات تستحوذ على قدر كبير من التصفيق بشكل يفوق الأغاني التسع الأخرى.
وتحول العمل المسرحي إلى فيلم سنيمائي بعدها بثلاث سنوات وحقق نجاحا كبيرا أيضا، لكن ذلك لم يوقف تقديم العمل المسرحي نفسه باعتباره الأساس.
ويعود ناقد الأوبزرفر: إن من أسرار نجاح العمل أيضا أنه يسعى إلى تتبع المشاكل التي يعانيها جمهوره والتعبير عنها على المسرح. فهو إذن يحقق مزيدا من الواقعية التي لا تهتم بها كثيرا عادة العروض المسرحية الغنائية.

3 ساعات
تدور أحداث المسرحية قبل توحيد شطري ألمانيا عام 1990 وتلتزم كل عروضها بهذه النقطة. على مدى 3 ساعات مقسمة على فصلين فقط رغم حذف بعض الأغاني والشخصيات في العرض الجديد في عربة مترو تعمل في محطة قريبة من سور برلين قبل هدمه. وهذه المحطة تقع بالفعل إلى جوار المسرح.
في قطار في الصباح الباكر، تصل الفتاة الصغيرة ناتالي (هيلينا سيجل) إلى العاصمة هاربة من بلدتها غرب ألمانيا للبحث عن صديقها نجم موسيقى الروك في الثمانينيات، وهي تحمل طفلها الذي أنجبته منه بغير زواج. وعند وصولها تواجه  مجموعة من الشخصيات غير السوية مثل المتشردين والقوادين وتجار المخدرات  والمتسربين من المدارس واللصوص والأشرار والعنصريين. ويجسد هؤلاء فريق من 11 ممثلا. ويكتشف نجم الروك في نهاية العرض أن صديقته وأم ابنه فقدت جاذبيتها وسحرها، فيتفق معها على الافتراق لمدة عام أو عامين تكون خلالها قد استعادت جاذبيتها مع التزامه بالإنفاق على ابنه. وطلب منها التخلي عن لهجة برلين التي لا تعجبه.
وخلال المسرحية يدخل عدد من الركاب إلى العربة التي يجلس فيها البطلان ويرددون الأغاني التي يحفل بها العرض ويعبر بعضها عن سلوكيات غير سوية أو عن مشاكل في حياتهم.

ملاحظات
ومع إشادة ناقد الأوبزرفر بالعرض الجديد للمسرحية نجد له بعض الملاحظات عليها مثل اختيار ممثل أسود وهو “إيكي أوميانبو” الكيني الألماني للقيام بدور تاجر المخدرات، مما يفتح الباب لاتهام العرض بالعنصرية. وكان صوت الموسيقى في معظم فترات العرض مرتفعا بحيث يغطي على أصوات الممثلين ويشتت انتباه المشاهدين. هذا مع اعترافه بأن الموسيقى كانت حية والأغانى كانت جيدة، لكن خفض الصوت كان مطلوبا. 
وهناك بعض الانتقادات التي أشارت إلى أن اختيار عربة سكك حديدية موقعا للأحداث، لم يكن موفقا، والأفضل اختيار حديقة عامة مثلا. لكن ناقد الأوبزرفر لم يرَ بأسا في ذلك.
ويعود الناقد ليذكر سببا آخر لنجاح المسرحية وهو أن طاقمها فهم أهمية إقناع  المشاهدين من صغار السن والترفيه عنهم، وهو أمر لا غنى عنه لمن يريد تقديم دراما سياسية حتى لا يملها الجمهور ويغادر مقاعده قبل نهاية العرض. وكل ذلك جعلها عن جدارة واستحقاق ثاني أنجح مسرحية غنائية في تاريخ المسرح الألماني بعد مسرحية “البنسات الثلاثة” لبرتولد بريخت (1898 -1956).
ويقول ناقد الأوبزرفر عن العرض أيضا إنه عمل درامي موسيقي يتناول تجارب إنسانية عديدة مثل الحياة والأمل والتعايش مع الوسط الذي يعيش فيه الإنسان والضحك والبكاء والشجاعة وخداع النفس وحتى الضحك والبكاء والتفكير. ويمكن مشاهدتها على عدة مستويات مثل اعتبارها مسرحية تناقش سلبيات المجتمع الألماني. 

خارج جريبس
ولا تزال المسرحية تحقق انتشارا كبيرا خارج مسرح جريبس حيث تم تقديمها على أكثر من 150 مسرحا باللغة الألمانية مع بعض التعديلات بالطبع. وتم تقديمها في 15 دولة على الأقل منها البرازيل وكندا الدنمارك وفنلندا واليونان وإيطاليا والهند وليتوانيا وناميبيا وهولندا وروسيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا والسويد واليمن. وفي بعض الأحيان كانت تقدم برؤية محلية مثل أن تكون الشخصية الرئيسية كورية في كوريا الجنوبية التي شهدت تقديم المسرحية بنجاح لأكثر من أربعة آلاف ليلة عرض في 13 عاما فقط حتى الآن. وتم تقديمها في لندن في نفس العام (1985) باللغة الإنجليزية بممثلين ألمان. وأشرف مسرح جريبس على تقديم بعض عروضها باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة وأستراليا ودول أخرى.
وفي الرؤية الناميبية تصل البطلة إلى ويندهوك عاصمة ناميبيا بحثا عن عازف جيتار ناميبي تعرفت عليه في ألمانيا وتسعى للوصول إليه.


ترجمة هشام عبد الرءوف