محمد النشمي.. رائد المسرح الارتجالي في الكويت

محمد النشمي..   رائد المسرح الارتجالي في الكويت

العدد 821 صدر بتاريخ 22مايو2023

يعد الفنان الكويتي محمد أحمد النشمي (1927- 1984) رائد المسرح الارتجالي في منطقة الخليج، من خلال أعماله المسرحية المتنوعة التي اتسمت بطابع تجريبي على مستوى الكتابة وعلى مستوى الأداء التمثيلي والإخراج، فقد قدم “النشمي» للمسرح أكثر من عشرين مسرحية تعتبر من المسرحيات المرتجلة هي: «مدير فاشل”، و”خبير اسكت”، و”من المسئول”، و”مطر صيف”، و”شرباكة” و”ضاع الأهل”، و”تايها”، و””بلاوي”، و”عجوز المشاكل”، و”ليلة عرسه نام على السيف”، و”حرامي متقلقص”، و”أمك طراز أول”، و”صاروخ شراكة”، و”على أمه ندر”، و”جني وعطية”، و”قرعة وصلبوخ”، و”من الماضي”، و”كل سنة عيدان والسنة العيد الثالث”، و”مدرسة ملا صقر».
بدأ النشمي تجربته المسرحية مبكرا، في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ولم يكن المسرح الكويتي وقتها يعرف التجارب المسرحية المكتملة، ولم تكن هناك مسرحيات مؤلفة بالشكل المتعارف عليه لتقدم على خشبة المسرح، يقول “النشمي” في مذكراته:
“إن التأليف في ذاك الوقت 1955م، لم يكن معروفا لدينا بمعناه ومفهومه الحالي، وإنما كان عبارة عن عدد من الجمل ننظمها للفنانين المشتركين في المسرحية حتى لا يخرج الممثل عن نطاق الموضوع وهو على خشبة المسرح”.
وينقل الدكتور محمد حسن عبدالله في كتابه “الحركة الأدبية والفكرية في الكويت” على لسان الممثل والمخرج والمؤلف عبد الرحمن الضويحي قوله: “كان النشمي يقود عملية التأليف ولكنه لم يكن يقوم به منفردا، كان يكتشف الفكرة أو يحددها، وأحيانا كنا نعاونه في ذلك أيضا، وعقب ذلك يتم تحديد الممثلين وأدوارهم، ثم يجري التدريب على التمثيل، وكان كل ممثل يؤلف دوره الخاص من خلال التمثيل ذاته، ونكرر التدريب حتى يعرف كل شخص حدود دوره، والمعاني والعبارات التي سيلقيها على وجه التقريب”.
وقد اعتمد “النشمي” في معظم مسرحياته على الكتابة باللهجة العامية، التي كان يراها أقرب إلى الجمهور، خاصة وأن هذه المسرحيات كانت تقدم رؤية اجتماعية في المقام الأول، وكان يؤكد على ذلك في كل كتابته النقدية ودراساته الفكرية، ومنها آخر هذه الدراسات التي كتبها قبل وفاته في 25 يناير 1984م، بأيام قليلة تحت عنوان “المسرح مقوماته ومعوقاته”، حيث يقول:
“لقد أصبح للمسرح دور مهم في الحياة الاجتماعية والسياسية للشعوب المختلفة باعتباره وسيلة من وسائل التعبير وقناة من قنوات الاتصال الشعبية، فلقد أصبحت لهإذن وظيفة اجتماعية يخدم من خلالها الجماهير من المشاهدين ويعبر عن طموحاتهم فهو بهذا يحمل دورا رائدا هادفا إلى التسلية والإمتاع التي تعني الترويح عن النفس عبر قضاء وقت قصير خارج حدود المنزل، وعبر الخروج من روتين اليوم، من خلال ذلك تتم مشاهدة عمل فني طابعه الهزل والاضحاك الذي يعتمد على وسائل تقليدية إلا أنها تكون غالبا شعبية”.
وإذا كان الارتجال في المسرح يعني غياب الكلمة/ النص، غياب الكتابة، وبالتالي غياب المؤلف/ المبدع، إنه في صيغته الغربية المعاصرة- ثورة ضد غيبيات الحفل المسرحي، والتي يمكن أن يمثلها النص.
يقول أرسطو: “لقد نشأت المأساة في الأصل ارتجالا، ثم نمت شيئا فشيئا، بإنماء العناصر الخاصة بها، وبعد أن مرت بعدة أطوار ثبتت واستقرت إلى أن بلغت كمال طبيعتها الخاصة”(1)
والارتجال- من وجهة نظري- في المسرح لم يأت من فراغ، بل هو فعل حتمي خاصة في مرحلة البدايات المسرحية، ليس على مستوى الوطن العربي فحسب بل على مستوى العالم، وإن كان هذا الارتجال هشا في البداية إلا أنه يمكن البناء عليه، والاستفادةى من عناصره البدائية، لبناء مسرح شعبي، فعلى سبيل المثال نجد أن الاتجال في البغرب لا يمثل التراجع إلى الخلف –كما قد يظهر- لأنه فعل يستقيم مع الثورات الأوروبية الحديثة “فالمسرح ولد ولادة دينية وثنية، ثم انتقل إلى مرحلة أخرى دينية كتابية، وهو في العصر الحديث يحاول أن يحقق إنسانيته الكاملة”(2)
وإذا كان الارتجال في المسرح الغربي لا يعطي مساحة للكلمة المكتوبة بالشكل الكافي مع التركيز على أنماط الأداء الحركي/الجسدي، والإيماء، في حين نجد أن الارتجال في المسرح العربي، يعد ضرورة في وقت من الأوقات، نظرا لطبيعة الحضارة العربية، التي يقوم الأساس الأول فيها على عنصر الكلمة، الكلمة في إطارها المسموع أولا، من خلال الإنشاد ورواية الشعر والكلمة المغناة، والترتيل، فالإذن العربية، هي الأداة الأساسية في مسألة الإدراك الجمالي.
من هنا تأتي أهمية المسرح الارتجالي الذي بدأ خطواته الأولى في الكويت الكاتب والفنان المسرحي “محمد النشمي”، الذي يصف تجربته- هو ورفاقه من رواد المسرح الارتجالي - الأديب خالد سعود الزيد قائلا: “استطاعوا من خلال العامية أن ينفسوا عما يجيش في نفوسهم من آمال وآلام في ظل المسرح المرتجل بلغة الفكاهة وأسلوب خلق المواقف المتناقضة والشخصيات ذات الأنماط الكاريكاتيرية المضحكة، وساعد على انتشار اللهجة والاستمرار في هذا المسرح العفوي العبارة، المرتجل الحوار”(3)
ومن هنا تأتي أهمية تجربة “النشمي” المسرحية لعدة أسباب، أنه في تلك الفترة كان يغلب على الثقافة العربية فكرة محورية وقضية أساسية هي “تأكيد الهوية”، خاصة مع انتشار نبرة القومية العربية التي بدأت تتجذر منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، وأخذت في التمحور والتشكل والتبلور بعد قيام ثورة يةليو 1952م في مصر، وإن سبقتها بوادر مع إنشاء جامعة الدول العربية عام 1947م.
وكان “النشمي” مدركا لأبعاد هذه المرحلة، وزاد من تمسكه بمنهجه إدراكه لأهمية اللهجة المحلية الكويتية والخليجية، باعتبارها أحد المكونات الأساسية لفكرة “الهوية”.
ولذلك نجده في كل كتابته النقدية يرسخ لتلك الفكرة، حيث كان يرى أن المسرح الحقيقي هو الذي يتعامل مع الحياة اليومية ويعبر عنها أصدق تعبير، ذلك المسرح الذي يتبنى قضايا الناس وآمالهم، يقول “النشمي” في إحدجى شهاداته: “إننا نرفض مسرح الطلاسم ومسرح الخاصة، إننا نرفض الكتاب الذين يعيشون في أبراجهم العاجية ولا يكتبون إلا من خلال هذه الأبراج.. نريد الكاتب الذي يعيش في المسرح مع المخرج والممثل والفنيين الآخرين لكي يستفيد من كتالبة النصوص ويقترب عمله من الفن المسرحي أكثر”.
لقد ولد المسرح في الكويت في ظل النص المكتوب ولم يبدأ ارتجاليا، ولد في ظل الفصحى، حتى آواخر الأربعينيات حتى جاء “النشمي” ورفاقه فانحدروا بلغة المسرح واتخذوا من العامية لهم مدرجا.
يقول خالد سعود الزيد: “كان مسرح النشمي مسرحا ارتجاليا لا يعتمد على النص المكتوب وقد أعانه على المضي في خطه هذا نخبة من الممثلين القديرين  ذوي المواهب المعطاء الخصبة وكانوا جميعا يحسنون أداء النكتة ويحسنون تصوير خلجات النفوس بعباراته العامية المرحة وهيأتهم المستظرفة”.(4)
لقد آمن “النشمي” بفكرة “المسرح الجماعي” القائم على رؤية تكاملية بين المؤلف والممثل والمخرج والجمهور، ولذلك كان يبحث عن أشكال مسرحية مختلفة فنراه قبل أن يبدأ تجربته في الكويت يسشافر إلى القاهرة، ليشاهد مسارحها في منتصف أربعينيات القرن العشرين، ونراه يفتن بمسرح الريحاني، وفي تلك الأثناء راودته فكرة إنشاء فرقة مسرحية شعبية على غرار الفرق المسرحية التي شاهد عروضها في القاهرة.
من هنا جاءت مشاركته في تكوين أول فرقة مسرحية في الكويت عام 1954م، وهي فرقة (الكشاف الوطني) والتي تعتبر أول تجمع مسرحي لهواة المسرح في الكويت، والتي كانت أول عروضها مسرحية “المدير الفاشل” عام 1954م، من تأليف محمد النشمي، وكانت هذه المسرحية أول مسرحية في التأليف تنتمي للمسرح المرجل، فلم تكن مكتوبة كلها للعرض، بل كانت عبارة عن فكرة وبعض الجمل الحوارية المبعثرة لأحداث ومواقف، أختارها المؤلف للمثلين، حتى يعرف كل واحد منهم دوره في العرض، ثم يتشكل الحوار من خلال إجراء مجموعة من التدريبات، فيتم حذف أو إضافة بعض المشاهد والمواقف الدرامية، حتى إذا اكتملت الفكرة والفصول يتم عرضها على الجمهور.
من هنا بدأت فلسفة “المسرح المرتجل” تتبلور عند “النشمي” ورفاقه/ من خلال إلقاء الضوء على أنماط وشخصيات واقعية، وتقديم النقد لها وتقويمها من خلال رؤية فنية حتى تقوم بدورها المنوطة به في الواقع الفعلي.
يقول “النشمي” عن هذا العرض في مذكراته”: “إن هذه الشخصية الضعيفة (المدير الفاشل) شخصية كويتية أردنا أن نحاربتصرفاتها عن طريق التمثيل وتصحيح الأوضاع (في إدارة الدولة) من أجل تقويم أعمال الآخرين وحتى تكون هذه الشخصية الضعيفة عبرها لغيرها”. 
وقد لاقى العرض الأول للفرقة نجاحا  جماهيريا ملحوظا، بل إن الجمهور من كثرة تفاعله مع العرض، طالب الممثلين بإعادة بعض المشاهد.
بعد ذلك قدمت الفرقة عرض “عجوز المشاكل”، وقد أطلق النشمي -بعد هذا العرض- الفرقة على نفسها اسم “فرقة المسرح الشعبي”، وتدور أحداث المسرحية في إطار واقعي مستقى من أجواء المسرحية الأولى فأحداثها مستمدة من مشكلة سببتها المسرحية الأولى، نظرا لأن أحد الممثلين اعتذر عن استكمال دوره، بعد أن حدثت مشكلة له حيث تشاجرت والدته مع زوجته وطردتها من المنزل لأن زوجها اعتاد السهر في المسرح ولا يأتي إلا في ساعات متأخرة إلى البيت، ووالدة الزوج ترفض أن تستمر مع زوجة ابنها في غيابه، وقد وظف النشمي هذه المشكلة في إطار درامي كوميدي في عرضه الثاني.
ونظرا لنجاح الفرقة فقد سعت (الهيئة الإدارية للمسرح)عام 1956م، لضم الفرقة إليها، وبالعل انضمت نهائيا لها عام 1957م.
وكان هذا الضم دعما إضافيا للفرقة التي كانت تعاني ماديا، نظرا لاعتمادها على التمويل الذاتي من أعضاءها المؤسسين لها.
هوامش
1-أرسطو: فن الشعر-دار الثقافة- بيروت- ص14.
2-عبدالكريم برشيد:شكل المسرح العربي- محاولات البحث عن هوية متميزة لشكل المسرح العربي- مجلة البيان- الكويت- إبريل- 1984م- ص174.
3-خالد سعود الزيد: أدباء الكويت في قرنين- الجزء الثالث- ص126.
4-  خالد سعود الزيد: من محاضرة ألقاها بتاريخ 24/11/ 1982م في جامعة مانشستر على طلبة الدراسات العليا هناك.


عيد عبد الحليم