المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948 (3) سلامة حجازي لأول مرة في فلسطين

المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948 (3) سلامة حجازي لأول مرة في فلسطين

العدد 681 صدر بتاريخ 14سبتمبر2020

تُعدّ شهور الصيف في أوائل القرن العشرين، موسم الكساد المسرحي في مصر، لذلك كانت تجتهد كل فرقة في إيجاد الحل المناسب للتغلب على هذه الفترة من أجل بقاء الفرقة واستمرار الحياة. وفي صيف عام 1913، فكرت أغلب الفرق المسرحية في حل واحد، وهو السفر إلى بلاد الشام، تخلصاً من كساد الصيف وبعض المشاكل الأخرى. وهذه الفرق هي: «فرقة الشيخ سلامة حجازي» الذي اشتد المرض على صاحبها، وفرقة «جورج أبيض» التي كسدت بضاعتها، فبدأت تتخذ إجراءات لانضمامها إلى فرقة الشيخ سلامة حجازي. وأخيراً فرقة «أولاد عكاشة» التي انفصلت – أو في طريقها إلى الانفصال – عن فرقة الشيخ المريض سلامة حجازي!!
استعدت الفرق الثلاث بالفعل للسفر إلى فلسطين، وأعلنت عن قدومها جريدة «فلسطين» – التي تصدر في يافا – في يونية 1913، قائلة: « من كان يظن أن جورج أبيض الذي شُغلت جرائد مصر بوصف تمثيله، والشيخ سلامة حجازي الذي لم تبق قرية عربية دون أن تسمع به، وعبد الله عكاشة الذي أبدع ورقى هذا الفن في هذه الأيام الأخيرة «يكونون في يافا» هم وأجواقهم لتمثيل روايتين فقط في ليلتين متتابعتين في قهوة «نيو بار»».
وبعد أيام قليلة نشرت الجريدة نفسها إعلاناً، تحت عنوان «الأجواق الثلاثة»، قالت فيه: «إنها أجواق جورج أبيض والشيخ سلامة حجازي وعبد الله عكاشة، التي ستمثل لنا في يافا روايتين في ليلتين متتابعتين وهما ليلة الأحد القادم وليلة الاثنين في 12 و13 تموز الجاري. أما الرواية التي ستمثل ليلة الأحد مساء السبت فهي رواية «لويس الحادي عشر». والرواية التي ستمثل ليلة الاثنين مساء الأحد هي رواية «أوديب الملك». وكلتا الروايتين مشهورة في العالم الروائي شهرة ممثليها في عالم التمثيل. وأما أسعار الدخول فهي عشرة فرنكات في الدرجة الأولى، وخمسة فرنكات في الدرجة الثانية عن كل ليلة .. فلا تنس أن تغتنم هذه الفرصة التي لا يسمح بها الدهر أكثر من مرة».
هذه الأخبار نُشرت في فلسطين قبل وصول الفرق الثلاث. وبدأت الأقوال تتضارب، فنقلت لنا جريدة فلسطين بعضاً منها، مثل: أن الفرق الثلاث ستمثل في القدس بعض المسرحيات، بعد أن تنتهي من تمثيل مسرحيتين في يافا. كذلك نقلت الجريدة خبراً مفاده أن الفرق الثلاث لن تذهب إلى القدس، بل ستسافر إلى بيروت تنفيذاً لتعاقداتها مع المتعهد هناك. كل هذا حدث والفرق الثلاث لم تصل فلسطين بعد!!
أخيراً وصلت الفرق فلسطين في يوليو 1913، وكان عدد أفرادها في الباخرة الخديوية القادمة من مصر ثمانين ممثلاً وممثلة، نزل منهم خمسون فقط برفقة الشيخ سلامة حجازي، وجورج أبيض، وبقي ثلاثون ممثلاً وممثلة ظلوا في الباخرة برفقة الشيخ عبد الله عكاشة، وواصلوا الإبحار إلى بيروت .. هكذا أخبرتنا جريدة فلسطين! وهذا يعني أن من حضر إلى فلسطين للتمثيل فرقتين فقط – هما فرقة الشيخ سلامة وفرقة جورج أبيض – وليس ثلاث فرق كما نشرت الصحف الفلسطينية!! بل ونستطيع أن نقول إن فرقة واحدة فقط هي التي زارت فلسطين في هذه الرحلة، وهي «جوق أبيض وحجازي»!
ليلة العرض الأولى
كانت فلسطين كلها متشوقة لمشاهدة تمثيل وسماع أغاني بلبل الشرق الشيخ سلامة حجازي! فقد قرأوا عنه وسمعوا عنه، وسمعوا أغانيه في الأسطوانات، وشهرته كانت تعم جميع الممالك العربية. لذلك انتقل أغلب عشاق الشيخ سلامة حجازي من كل المدن الفلسطينية إلى يافا، لمشاهدته في أول زيارة له إلى فلسطين!! فالجميع لا يهمه جورج أبيض ولا تمثيله، ولا يهمه المسرحية ولا مغزاها بقدر ما يهمه رؤية تمثيل الشيخ سلامة وسماع أغانيه!
هذا الشغف جعل كراسي قاعة التمثيل – ذات الأرقام – في «النيو بار» كاملة العدد! لكن الغريب أن عدد الواقفين على جانبي القاعة وخلف كراسيها أكثر من الجالسين على الكراسي ذات الأرقام! والأغرب أن المئات يقفون خارج القاعة على أمل الدخول ومشاهدة تمثيل الشيخ وسماع أغانيه! وهذه المعلومات ذكرها «يوسف العيسى» – في جريدته «فلسطين» – وهي معلومات ليست من باب المبالغة أو الدعاية، بل هي معلومات حقيقية، تدل على جشع المسئولين المنوط بهم حفظ النظام في قاعة التمثيل؛ لأنهم كان يتلقون «إكراميات» من البعض من أجل إدخالهم دون أن يكون معهم تذاكر للدخول! ومن هنا كان الازدحام الشديد داخل القاعة وخارجها!
بدأ التمثيل فهدأ الجميع، ومرّ الفصل الأول دون أن يظهر الشيخ سلامة حجازي، وبدأ الفصل الثاني والجميع في شوق لرؤية الشيخ وسماعه؛ ولكن الفصل انتهى دون أن يظهر الشيخ! فصبر الجميع لعله يظهر في الفصل الثالث؛ لأن المسرحية من خمسة فصول! وبدأ الفصل الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس دون ظهور للشيخ سلامة .. وهنا ثار الجمهور فتوقف التمثيل وسأل الجمهور أين الشيخ سلامة حجازي، فكان الرد: إن الشيخ سلامة حجازي ليس له دور في هذه المسرحية، حيث إن مسرحية «لويس الحادي عشر»، بطلها جورج أبيض!!
وسأنقل لكم نصاً ما حدث بعد أن عرف الجمهور أن الشيخ سلامة لن يظهر في هذا العرض، من مقال صاحب جريدة «فلسطين»، الذي قال: «.. فقامت قائمتهم [أي الجمهور] واستولت الضجة على القاعة، وفُقد النظام، وصمّ الهُتاف الآذان، فاعتذر الجوق بمرض الشيخ تلك الليلة، وأنه سيرضي الجميع ويمثل في الليلة القادمة. فلم يقنعهم هذا بل آل فريق من الحاضرين على أنفسهم مقاطعة كل ممثل وكل خطيب يريد إقناعهم. واتصلت القحة بهذا الفريق أنه عندما رُفع الستار عن الفصل الخامس، أقاموا القاعة وأقعدوها، وأنزلوا الستار، ومنعوا التمثيل، فخرجت السيدات وأكثر الحضور، وساد اللغط. وبقي الناس في انتظار بلا جدوى مدة ساعتين، فتكدر الجوق وقلع ملابسه».
معنى أن الفرقة قامت بتبديل ملابس التمثيل، فهذا يعني استحالة العودة إلى العرض مرة أخرى، لا سيما وأن الساعة وصلت إلى الثانية بعد منتصف الليل!! الغريب أن كماً كبيراً من الجمهور ظل موجوداً في القاعة، على أمل حضور الشيخ سلامة وسماع أغانيه بعد الثانية صباحاً!! فلم يجد كبار رجال الفرقة حلاً سوى تنفيذ رغبة الجمهور! فذهبوا إلى الشيخ المريض في اللوكاندة، وأنزلوه متكأً على أكتافهم بسبب شلله، وذهبوا به إلى القاعة ليغني للجمهور بعض أغانيه وقصائده! وبالفعل غنى الشيخ للجمهور المنتظر، ملتمساً له كل عذر عما فعلوه .. لأنهم يريدون مشاهدته وسماع أغانيه في أول ظهور له في فلسطين .. في ليلة لن ينساها التاريخ!
هذه الأحداث في هذه الليلة، علّق عليها صاحب جريدة «فلسطين» بكلمة قال فيها: « إن الحادث المكدر الذي جرى في أول ليلة لهو حادث يشترك بمسئوليته الجمهور أولاً. ومقاولو الجوق ثانياً. والجوق بدرجة خفيفة أخيراً. أما الجمهور فلأنه مع أحقية طلبه سماع صوت الشيخ سلامة تهور أفراد من بينه بضجيجهم حتى جرحوا إحساسات ممثل أقرّ له الشيخ نفسه أنه نابغة الشرق في هذا الفن ومنعوه من إتمام فصل الرواية الخامس [يقصد جورج أبيض]. وهو عمل مهما تلطفنا في تسميته لا نجسر أن نجرده من معنى الفظاعة. وأما الأدباء المقاولون فلأن الإقبال بهرهم. فأغراهم شيطان الطمع وتساهلوا في آخر ساعة بإدخال من يريد. غير مراعين صغر القاعة ووجود السيدات بكثرة. فضاعت الكراسي المرقمة على أصحابها وضاعت معها الأقدار. واختلط الحابل بالنابل وجلس رجال ووقفت سيدات. وتقدم في قعوده من دفع بضع بشالك [عملة نقدية] في آخر ساعة، وتأخر من بذل الذهب سلفاً في مشترى تذاكر منمرة له ولعائلته. وخاب أمل من ظن إنه ذاهب إلى حفلة منظمة لا إلى قاعة شركة تجارية يهمها الربح ولا يهمها الترتيب والنظام. فهذا التساهل والطمع هما اللذان سببا في اعتقادنا هذا الحادث إذ دخل من جرائهما من كان لا يجب إدخاله إلى هذه القاعة. لأننا نتأكد بأن الأفاضل الغرباء مع كل ما تكبدوه من الخسائر والأتعاب في سفرهم، وفي انتظارهم، وفي تعطيل أشغالهم قبلوا عذر الشيخ عن أول ليلة بداعي مرضه وامتنعوا عن كل حركة مشينة. فما جرى والحالة هذه صدر عن الذين تساهل معهم بائعو التذاكر في آخر ساعة فضايقوا الناس. وشوهوا الحفلة. وسببوا الحادث المكدر. أما مسئولية الجوق فهي كما قلنا في درجة خفيفة. ذلك أن مديره الفاضل نسى أن الشيخ سلامة ما علا حتى الآن مرسحاً في فلسطين. ولا سمع له صوت في هذه الأنحاء قبل هذا اليوم. فحال الجمهور هنا معه يختلف عن حال أهالي بعض البلدان السورية التي سمعته فيما مضى فإن هي تُحرم صوته في أول ليلة لا تهيج كما هاج الأهالي عندنا. ونحن نعتقد بأنه لو ظهر الشيخ في أول ليلة وارتاح في الثانية لسرّ وأرضى. وقُبل عذره. وكفينا مؤونة ما جرى. حصرنا المسئولية في ثلاث ونسينا الحكومة مع أن لها نصيباً غير صغير في هذه المسئولية. فقد كان من واجبها أن تفعل ما تفعله أمثالها في البلدان الأخرى. فهناك متى نظر مأمور المحافظة أن ما يطلبه الجمهور غير مستطاع. وأن عناد بعض أفراد يحرم مئات الحاضرين من رؤية وسماع فصل الرواية الأخير يخرج حالاً بالقوة المشاغبين ويسمح للبقية أن ترى نهاية رواية دفعت ذهباً لحضورها. وبعد أن تتم الرواية فهو حر أن يرجعهم ليصرخوا ويصيحوا ما استطاعوا ومن طاب له البقاء يبقى. ومن يقتنع بما تمّ أمامه يذهب في حال سبيله».
جورج أبيض
ما حدث في هذه الليلة الغريبة، جعل الجميع لا يهتم بشيء سوى ما حدث فيها من مشاكل؛ لذلك لم ينتبه أحد إلى المسرحية التي عُرضت يومها، وهي مسرحية «لويس الحادي عشر» – إحدى روائع جورج أبيض – ولم يتحدث أحد عن التمثيل أو عن بطل العرض .. إلخ! وشذ عن ذلك الأستاذ «يوسف العيسى» – صاحب جريدة «فلسطين»، الذي لولا ما كتبه، لضاعت تفاصيل أول رحلة لهذه الفرقة إلى فلسطين! – فقد كتب قائلاً عن «جورج أبيض»:
« تمعّنا في الرجل جيداً في أثناء تمثيله دور لويس الحادي عشر، وتابعنا جميع حركاته وسكناته، وجلوسه وقيامه، وتنقله ماشياً، وتقلبه ملقياً، وراعينا نبرات صوته، وتمتمة شفتيه، وتلاعب عينيه، وملامح وجهه، التي يُقرأ عليها في كل دقيقة شأن، وإشارات يديه التي تغني عن نطق اللسان. فوجدناه أعجوبة في ضبط قياد النفس، ونابغة في تكييف العواطف وتسييرها كما يريد إلى ما يريد. من يرى الأبيض ممثلاً يرى رجلاً امتلك المرسح حتى اعتقد أنه بيته الخاص، فتناسى القاعة ومن فيها. وحُصرت الدنيا عنده تلك الساعة، بالأخشاب التي يعلوها، والسكان بالممثلين الذين يشاهدهم أمامه. فخرج عن كل شيء، عدا الحادثة التي يمثلها. وتجرد عن ذاته، ليحيى في البطل الذي أخذ دوره. رأيناه كما قلنا في دور لويس الحادي عشر، فأسمعنا تدفق الكلام في أفواه شيوخ الفرنسيس، وأرانا «لويساً» تاريخياً بكل دهائه وقسوته وحيله وخوفه من القتل وكرهه للموت. ونقلنا إلى الأعصر الوسطى أعصر المتاجرة بالدين واستثمار رجاله سذاجة الناس وجميل تقواهم. أعصر الاعتقاد بأن إرضاء الله بالكلام والكهنة بالعطايا يمكنان الناس من الاتفاق مع السماء. وقد كان بجانبنا صديق حضر فيما مضى «سلفان» الممثل الفرنساوي الشهير في نفس هذا الدور، فشهد لنا بأن جورج أبيض لم يقل عنه في شيء لا بل هو يفضله؛ لأنه يمثل الدور في لغةٍ لم يُخلق فيها. خلاصة ما يقال إن جورج أبيض نابغة الشرق في هذا الفن، وسيزيد قدره رفعة كلما تقدم هذا الشرق في الرقي، وعرف قيمة الفنون الجميلة. أما جوقه فهو مؤلف من ممثلين وممثلات بلغوا نهاية ما يمكن اتقانه في هذا الفن خارج مدارسه الخاصة».
المريض ممثلاً ومطرباً
من حُسن حظ تاريخ الشيخ سلامة حجازي، أن «يوسف العيسى» رئيس تحرير جريدة «فلسطين»، حضر العرضين المسرحيين لفرقتي الشيخ سلامة حجازي وجورج أبيض في يافا! فقد قرأنا ما كتبه عن أحداث العرض المسرحي الأول! أما العرض الثاني للمسرحية الثانية في الليلة الثانية، التي أقامها الشيخ سلامة حجازي في يافا! فقد كتب عنه أيضاً «يوسف العيسى»، وما كتبه يُعدّ شهادة تاريخية بكل معنى الكلمة حول ظهور الشيخ سلامة وتمثيله وغنائه لأول مرة في فلسطين، وهو مصاب بالشلل! وهذا هو نص الشهادة المنشورة في جريدة «فلسطين»، تحت عنوان «الشيخ سلامة حجازي»:
« لا أبغي من هذا العنوان التكلم عن صوت الشيخ وتفننه في ألحانه، لأن ذلك فوق مقدرتنا. وجل ما يمكن قوله في هذا الباب: إننا وحاضري ليلة أمس كنا نتلقف صوته بأفواهنا لا بآذاننا، فتسري لذته في جسم كل منا سريان الصحة في جسم العليل، وتنقلنا من هذا العالم إلى سواه. فمحاولة الإتيان على وصف ذلك، تعسر عليّ لأن الشيخ – فسح الله في أجله – نسيج وحده في هذه العطية، التي منّ بها عليه الرحمن. وهيهات أن يباريه أو يجود بمثله الزمن. إن ما نبغيه في هذه العجالة، هو التكلم عن الشيخ والتمثيل. وقد فتشنا عن الكلمة التي يمكن أن تنطبق عليهما، وتفصح جلياً عن علاقة أحدهما بالآخر، فلم نجد أصح وقعاً في الإفهام وأصدق وضعاً على القرطاس من نفس الكلمة، التي أطلقها عليه الجوق في الإعلانات التي وزعها في البلدة إذ دعاه «بعماد التمثيل العربي». عماد التمثيل العربي، هي والله حقيقة لا يجسر على إنكارها أحد. فإن الشيخ – متعنا الله بطول بقائه – كبير فضل على نهضة التمثيل العربي. يكلل هامها ما دام لها في هذه البلاد مراسح، ويقرّ له بها كلما وقف ممثل على أحد هذه المراسح. ذلك لأنه هو الذي أبدل ثوبها ورفع قدرها بعد أن كانت تُظن صناعة شائنة، وألّف أول جوق منظم بعد أن كانت الأجواق فوضى. وزاد في أجرة الممثل ففتح بذلك الباب لدخول أدباء آمّنوا بهذه الزيادة معيشتهم .. ثم افتقده الله بلطفه وألمّ بجسمه ما ألمّ. فلم يثن ذلك عنان همته، ولا أوهن من عزمه، ولا منعه عن متابعة أمنية قلبه وعشقه لهذا الفن. وقد نظرنا كيف كان أول أمس على المرسح يغالب الطبيعة في جسمه، فيتغلب العزم على الضعف. وشاهدنا كيف أن الجمهور كان يكبر هذه الهمة. ويقابل عراك الشيخ مع الطبيعة بقلوب جعلت له فيها هيكلاً، حتى أن هتاف الاستحسان الخارج من أكثر من ثمانمائة فم كانت هكذا: «عافاك الله وشفاك يا مولانا الشيخ». ومما لا يجب أن يُغفل في كلامنا عن هذا الرجل العجيب، أنه خسر على التمثيل من ثروته الخاصة أكثر مما ربحهُ منهُ حتى الآن. فالتمثيل العربي مديون إذن للشيخ سلامة حجازي، ولا دين على الشيخ للتمثيل. فهو وإن كان لا يلقن التمثيل إلى درجة أرباب الفن فيه إلا أنه يحبه حباً يشبه العبادة. ويغار على رجاله غيرة الأب على أولاده، وكم له على ما سمعنا من نوادر في هذا الباب فلا عجب إذا دعوه والحالة هذه بعماد التمثيل العربي. ختام القول إن الشيخ الفاضل يعشق هذا الفن لخدمته لا لربحه، ولا يريد أن يفرق بينهما غير الموت. فهو من هذا القبيل يشبه ذلك القائد الذي رجع إلى الحرب بعد أن فقد فيها ذراعه الأيمن. فقيل له في ذلك فأجاب: «إن لي ذراعاً آخر أيسر وهو أيضاً يخص الوطن»».
الليلة الثانية
قبل الانتقال إلى موضوع آخر، يجب أن أقول: إن «يوسف العيسى» رئيس تحرير جريدة «فلسطين» كتب كلمة مقتضبة عن الليلة الثانية، يجب أن نذكرها، لأنها تبين بعض الأمور المهمة، وتجعل الصورة واضحة، فقد قال: « أما الليلة الثانية فمثلت بها رواية «غانية الأندلس» وكان الشيخ سلامة بطل الرواية فسحر الألباب بألحانه ولعب بالعقول وأدار على النفوس أحب نشوةٍ من نشواتها وتلطف لإرضاء الجمهور بأن ظهر مراراً على المرسح وبذلك أكثر ما في وسعه حتى خشينا على صحته. وقامت بدور غادة الأندلس الآنسة «فكتوريا بحوس» فأبدعت بما أتت وعلى الأخص في موقف قراءة التحرير وإذا اعتنت هذه الآنسة بفنها الذي كما علمنا أنها قريبة العهد به وكان لها من يرشدها فيه كان لها شأن. هذا وقد كان أهالي البلدة أرسلوا وفداً منهم للاعتذار لجورج أفندي أبيض عمّا حدث في الليلة الماضية ولما حضر في المساء كمتفرج قامت له القاعة وطال تصفيق الاستحسان. ثم تقاطر إليه الراجون واحدا بعد واحد ليتم الفصل الخامس من رواية أول أمس فتلطف ولبّى الرجاء وكان فيه كما كان بالأمس أعجوبة من عجائب الزمن كما وصفناه في مقالنا الأول».
مسرحيات في القدس
انتهت عروض فرقتي سلامة وأبيض في يافا، وانتقلت الفرقتان إلى القدس، وتم عرض مجموعة من المسرحيات، منها: «روميو وجوليت» و«غانية الأندلس» أو «المارسيلية الحسناء» و«نابليون» و«ضحية الغواية»، وتم تحديد ثمن التذاكر هكذا: «عشرون فرنكاً للمحل الممتاز، وعشرة فرنكات للمحل الأول، وخمسة وثلاثة للمحلين الثاني والثالث». وحضر بعض هذه العروض «عطوفة متصرف اللواء، وسعادة القائمقام، وأركان الحكومة، وذوات البلدة من سيدات ورجال».
وبناء على ما سبق، نستطيع أن نقول: إن «جوق أبيض وحجازي»، الذي سافر إلى فلسطين لأول مرة عام 1913، هو فرقة واحدة تكونت من ضم فرقة الشيخ إلى فرقة أبيض، ولم تكن فرقتين أو ثلاث فرق كما كتبت الصحف! كما أننا نؤكد أن فرقة عكاشة لم تزر فلسطين في هذا العام، ولم تعرض فيها أية مسرحية، حيث إنها ذهبت إلى بيروت. كما أننا نؤكد أن شهرة الشيخ سلامة حجازي في هذا الوقت، كانت طاغية، لدرجة أن الأغلب الأعم لم ينتبه إلى جورج أبيض ومكانته وقيمته! ولولا ما كتبته جريدة «فلسطين»، ما انتبه أحد لوجوده، كما لم ينتبه أحد إلى غياب فرقة عكاشة، التي أعلنت الصحف عن وجودها!! فأي شيء وكل شيء لم يكن له أهمية بجانب أهمية الشيخ سلامة حجازي الذي زار فلسطين لأول مرة عام 1913.


سيد علي إسماعيل