«بعد آخر رصـــاصة» بقايا بشر يبحثون عن السلام

«بعد آخر رصـــاصة»  بقايا بشر يبحثون عن السلام

العدد 817 صدر بتاريخ 24أبريل2023

الحب والحرب.. نقيضان على الدوام ولكن كليهما يتكون من نفس الحروف الأبجدية باستثناء حرف «الراء»، فبمجرد إضافته لكلمة «الحب» ستجد المعنى وقد تغير تماما، وتحول الحب بكل ما يعنيه من أمان وسلام ومشاعر جميلة ومتبادلة بين البشر إلى حرب ودمار وخراب ودموع وفقر وذل وانهيار للبشرية وتشويه للإنسانية، فالحب يحصد والحرب تخرب. 
وقد لمسنا جميعا في السنوات الأخيرة كيف لحرب -قد لا تكون دولتك طرفا فيها- أن تؤثر تأثيرا كبيرا على الحالة الاقتصادية على العالم أجمع، ونموذج الحرب الروسية الأوكرانية مؤخرا، وكذا ما يحدث أيضا حاليا من اقتتال داخلي وأحداث عنف أهلية مؤلمة بدولة السودان الشقيق هى خير دليل على ذلك، ففي العرض المسرحي «بعد آخر رصاصة» من إنتاج مسرح الغد تحت قيادة المبدع سامح مجاهد مدير المسرح، وواحد من أهم رواده الذين أثروا المسرح في عهده بالعديد من الإبداعات المشرقة للفن المسرحي المصري، يطرح لنا تلك القضية الأبدية، وما تخلفه وراءها من تأثيرات نفسية وإنسانية واقتصادية عالمية ألا وهي قضية الحرب بوجه عام، وهي قضية وجدت منذ نشأة  البشرية  من خلال فلسفة لها تحت عنوان «ماذا لو عم السلام العالم بعد آخر رصاصة؟»، من خلال  رؤية إخراجية طرحها لنا المخرج المصرى شريف صبحي بمفهوم تجريبي يقدم لنا من خلالها حالة مسرحية موحدة من البداية للنهاية عن المعاناة النفسية أثناء وبعد الحرب لنعرف من خلالها قيمة السلام، فبالتضاد تعرف قيمة الأشياء، وقد قام بعمل الإعداد لها عن ثلاثة نصوص كتبها المؤلف العراقي على عبدالنبي الزيدي في تسعينات القرن الماضي ألا وهي مسرحيات (قمامة/ جيل رابع/ عودة الرجل الذى لم يغب)، التى يتحدث فيها عن قسوة الحروب الكارثية التي حولته من كاتب مسرحي إلى شاهد عيان على ما يحدث من حروب وفقدانات وانتظارات، فالحروب تنتهي ولكن معاناة الشعوب والدول لا تتوقف وتستمر بعدها لفترات طويلة، وربما للأبد فى بعض الحالات. 
المسرحية تدور أحداثها حول ثلاث عائلات دمرتها الحرب، وتم تشويه أفرادها نفسيا وجسديا، العائلة الأولى يمثلها الجد «محمد دياب» الذي فقد بصره في بداية الحرب، وصار يتسول من أجل توفير لقمة عيشه حتى وصل به الأمر أنه صار يفتخر بتلك المهنة ولا يخجل من البوح بها أمام الآخرين. ونفس الحال لابنه «طارق شرف» الذي تم بتر ذراعه وامتهن مهنة أبيه ولديه رغبة في بتر ذراع ابنه الوليد، اعتقادا منه أنه بذلك يؤمن مستقبله بامتهان مهنة العائلة، وحتى يمنعه في الوقت نفسه من المشاركة في حرب طويلة الأمد في بلاد غريبة لا هدف منها سوى القتل والتشويه والتدمير والخراب، ولكن أم الطفل الوليد «مي رضا» تعترض على رغبة زوجها أملا في أن تنتهي الحرب ويعم السلام وينعم ابنها بمستقبل أفضل. 
العائلة الثانية هي لجندي فُقد في المعركة لسنوات طويلة «آسر علي»، ثم عاد مشوها مبتور الساقين، حتى لقبه المجتمع بالمربع ليكتشف عند عودته أن والدته «إيناس المصري» قد حولت منزله إلى دار لممارسة الرذيلة بمقابل مادي؛ بل وجعلت من زوجته «إيمان مسامح» هي من تمارس الرذيلة مع ضيوف تلك الدار، فتكون صدمة الابن هنا في أمه وزوجته أشد من صدمته بما حدث له في الحرب، فيحاول جاهدا أن يطلب من أمه أن تستجيب له بمنع هذه المهانة والتوقف عنها فورا، ولكن واقع الحياة من حوله -بسبب الحرب- يصدمه حينما يعلم الظروف البائسة التي تمر بها البلاد، وأن لا مصدر دخل آخر للعائلة سوى هذه المهنة الوضيعة التي تضمن لهم البقاء على قيد الحياة، بعد أن صار عاجزا لا يقوى على تولي المسئولية؛ بل ويحتاج هو إلى من يمد له يد العون. 
أما العائلة الثالثة والأخيرة، فهي لجندي مسن «إبراهيم الزهيري» ترك عروسه «وفاء عبده» بفستان الزفاف في ليلة العرس، ثم عاد بعد عشرين عاما ليجد الحال وقد تبدل إلى حال آخر، فلم تعد زوجته المسنة تعرفه ولا ترغب في اقترابه منها حيث إنها ألفت الوحدة واعتزال الناس، وبعد أن تحولت مشاعرها نحوه من الحب إلى الكراهية وذلك بعد أن فقدت جمالها وشبابها في الانتظار.
كان ولا بُدّ في وسط كم هذا الزخم من الشجن والأحزان للعائلات الثلاث، أن يكون هناك بصيص من الأمل.
فكانت شخصية الفتاة الصغيرة عازفة الفلوت بالعائلة الأولى وتدعى «مظلومة» التي جسدتها «مريم سعيد سليمان»، وهي أخت الطفل الوليد وابنة الزوج الشحاذ الذي يتاجر في أطراف الموتى، وهي الشخصية الصامتة الوحيدة بأحداث المسرحية، والتي تتداخل مع العائلات الثلاث بموسيقاها الحالمة التي تبعث على الأمل، فهي رمز هنا «للسلام المفقود والمنشود في آن واحد «لذا اختار لها المؤلف اسم «مظلومة». 
أبدع المخرج شريف صبحي في اختياراته لممثلي العرض المسرحي، وكانوا جميعا على قدر عالٍ من الاحترافية في تجسيد شخصياتهم المسرحية، فكان لأدائهم التلقائي وبالأخص آسر علي من الرجال ومي رضا من النساء أكبر الأثر في توحد جمهور العرض مع الحالة المسرحية ومعاناة الشخوص بها نظرا لطبيعة أدوارهم المركبة التي قاموا بأدائها من خلال مدرسة السهل الممتنع القائمة على الإحساس العالي والمتفرد في المقام الأول أكثر من أي شيء آخر، ولفت نظري أيضا تعبيرات عيون ووجه مريم سعيد سليمان الحزينة والباكية، التي لمست قلوبنا جميعا بالرغم من دورها الصامت القائم على المشاعر الداخلية للممثل، كما وضح على جميع ممثلي العرض في تقمصهم للشخصيات التي يقومون بأدائها مدى إيمانهم وتأثرهم برسالة العرض المسرحي، ودور الفن في إيصال هذه الرسالة  للمتلقي من أجل تطهيره.
الأشعار لرشا ضاهر جاءت معبرة عما يجول بنفوسنا جميعا من رغبة عارمة في أن يعم السلام العالم وتنتهي الحروب من على كل أرجاء الأرض، ليصبح العالم أجمع دولة واحدة بلا حدود أو مسافات، فجاءت كلماتها رومانسية حالمة تبعث على الأمل.
أجاد كل من آسر علي ونجلاء سليمان التعبير غناء عما بكلمات الأغنية من وطنية وعاطفة ومشاعر جياشة، نظرا لما يمتلكانه من صوت شجي وحس مرهف صادق للغاية، وخاصة آسر علي أحد أبطال العرض المسرحي، فهو فنان شامل تمثيلا وغناء يعزف إبداعا على أوتار قلوبنا بما حاباه الله به من موهبة حقيقية. 
 جاءت الموسيقى التصويرية للمسرحية التي وضعها هشام طه وقام بتوزيعها محمد همام، موحية بقتامة القضية ورهبتها تبعث على الرعب والإحباط اللذين يعيشونه أبطال المسرحية بسبب الحرب وما تسببه من دمار وتشويه وفقر، باستثناء الموسيقى المنبعثة من آلة الفلوت التي تعزف عليها مظلومة بين الحين والآخر، والتي تبعث على الأمل وسط كل ما تعيشه حولها من انهيار إنساني وأخلاقي. أما ألحان أغنية الفينال فحرص هشام طه على أن تكون موسيقى معبرة عن غد أفضل، بعدما يتحقق الحلم الذي نتمناه جميعا ويعم السلام على كل كوكب الأرض بعد طول انتظار وبحث من الضحايا من الأشخاص والشعوب التي عانت من ويلات تلك الحروب، ليبدأ التعمير والبناء لمستقبل مشرق مما ساهمت تلك النهاية المتفائلة في نجاح العرض المسرحي.
الديكور لمحمد هاشم من أكثر العناصر إبداعا التي جاءت متطابقة مع فكر المخرج وقضية العرض المسرحي وساهمت بشكل كبير في تفاعل الجمهور مع الحالة المسرحية، فجاء الديكور على النهج التجريبي يبعث على التساؤلات والرهبة والقتامة لكل من تقع عليه عيناه، فهو يوحي بأكثر من معنى حسبما تراه كل عين من أعين المتلقي، فهناك من يراه على هيئة أنقاض الحرب لبيوت وأبنية  مهجورة، وآخر قد يراه على هيئة وحدة عسكرية منكوبة بعد تعرضها للتدمير، وذاك التعدد في الرؤى يحسب نجاحه لمصمم الديكور. 
الأزياء لـ»دينا زهير» راعت من خلالها أن تعبر عن الوضع الاقتصادي والنفسي الذي يعانيه العائلات الثلاث ضحايا الحرب من جوع وفقر وإذلال وخوف وانكسار، فاتخذت أيضا الملابس الطابع التجريبي وجاءت جميعها بالية وممزقة بمرور الزمن عليها دون تغيير، وهي ليست ملابس تقليدية كالمعتاد؛ بل إنها عبارة عن مجموعة من بقايا الأقمشة والجلود لجنود ماتوا بالمعركة، تم تفصيلها من أجل أن تسترهم فقط من الفقر المدقع الذي يعانون منه، وساعد المكياج لإسلام عباس بشكل كبير في اكتمال الرؤية ووصول المعنى للمتلقي بالحالة النفسية المؤلمة التي يعيشها ضحايا الحرب وآثار التشويه الجسدي والنفسي الظاهر عليهم مع وجوههم المتشحة بالسواد والتي تخفي أغلب ملامحهم نتيجة آثار الحرب، فنجح المكياج ومعه الملابس في تصدير كراهية المتلقي للحرب باحترافية غاية في الإتقان والإبهار.
الإضاءة لشريف صبحي وهو نفسه مخرج العرض، ساعدت على إبراز الصورة الدموية للحرب ومقدار ما تتصف به من رعب ودمار وآثارها النفسية على الأشخاص حتى بعد انتهائها، من خلال الألوان الحمراء في مشهد بتر الأب الشحاذ لذراع طفله الوليد، وفي كل لوحات الدراما الحركية أيضا التي جاءت خلف سلويت لأشباح وضحايا الحرب التي صممها كمال ربيع ببراعة فائقة ومعبرة ويتوسطهم الشيطان معطيا أوامره لهم بالتدمير والتخريب، إضافة إلى الألوان الزرقاء في بعض المشاهد للعائلات والتي تعبر عما وصل بهم الحال من برود وجفاء في المشاعر وعلاقات فاترة، كما ساهمت الإضاءة أيضا في إبراز جماليات الديكور والملابس والمكياج. 
استعان مخرج العرض في دعم قضيته وفكرته المسرحية برؤية سينمائية في بداية ونهاية العرض المسرحي، قام بتصميمها له طارق شرف وهو أحد أبطال العرض، فجاءت البداية معبرة عن الحرب وآثار التدمير من خلال لقطات أرشيفية لها من العالم أجمع، وذلك ما يسمى في المسرح ببراعة الاستهلال من أجل تحفيز المتلقي للشغف في المتابعة والتركيز. وختم شرف العرض المسرحي برؤية سينمائية تعبر عن هدف المخرج من ذاك العرض وماذا لو عم السلام على الكرة الأرضية جمعاء من خلال خدع بصرية  لعودة الدمار في شكل فلاش باك وتحوله إلى إعمار في صورة سينمائية بديعة انتهت بأغنية الفينال المصورة مع تلك اللقطات. 
البوستر المسرحي لمحمد فاضل كان له الفضل في عنصر الجذب للجمهور من خلال ما يحتويه من تشويق وإثارة، حيث نجد كل أبطال العرض المسرحي جميعهم بالملابس البيضاء التي ترمز إلى السلام، متوازيان لبعضهما البعض الرجال والنساء، وهم ينظرون بابتسامة أمل إلى المستقبل المشرق الذي يتمثل في الطفل الوليد الذي يتحصن ببطن أمه تحميه من آخر رصاصة تنطلق نحوه، كناية عن الأمل الذي يحدو الجميع في غد أفضل بلا حروب أو نزاعات أو دماء، ينعم فيه الأجيال الجديدة بسلام شامل في كل أرجاء العالم.
عمد كل من الكاتب والمخرج كل منهما في تخصصه في المبالغة في إظهار الحرب في صورة منفرة ومقززة سواء إن كانت في الكتابة أو الإخراج، حتى تصل رسالة العرض إلى المتلقي ويبعثه على كراهيتها، فوجدنا الكاتب وقد تعمد في كتابته للنص المسرحي أن يجعل من معظم أخلاقيات شخصيات العرض المسرحي أن تصل إلى مستوى الحضيض في تصرفاتها مع الآخرين؛ بل ونزع الرحمة من قلوبهم وكأنما أراد أن يقول لنا إن قسوة الحرب ومعاناتهم معها علمتهم العنف وجفاء المشاعر، نفس الحال بالنسبة للمخرج المسرحي، فوجدناه تعمد أيضا أن يظهر وحشية أبطال العرض من النساء من خلال إظهارهن وهن يلتهمن بقايا أجساد الضحايا في مشهد ترتجف له الأبدان نتيجة الجوع والحرمان والفقر الشديد الذي يتعايشن معه منذ بدء الحرب، لذلك جاء العرض شديد القتامة على كل المستويات في كتابته وإخراجه بما يتلاءم مع القضية التي يتناولها، فالكتاب العراقيون تجد لهم بصمة خاصة في نصوصهم المسرحية التي تتحدث عن الحرب تميزهم عن غيرهم من المؤلفين، نتيجة معايشتهم  للحروب وويلاتها بشكل شبه دائم عبر تاريخهم، لذا تجد أكثرهم متعطشين إلى السلام في كتاباتهم ودوما في حالة بحث عنه، مثلما نجد أبطال العرض في النهاية وهم يناجون السلام ويحلمون به، كما أن العنف والحدة التي يتصفون به طوال أحداث العرض هي نتيجة غياب السلام حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة، وبالرغم من نجاح شريف صبحي اللامحدود في صنع عمل تجريبى مسرحي منضبط ومحكم وذي رسالة على مستوى جميع عناصره، فإنه فقط يؤخذ عليه التكرار الذي شاب الجمل الحوارية والحركة المسرحية في بعض مشاهد العرض المسرحي، وفي النهاية وهذا هو الأهم، فقد تحقق هدف كل من المؤلف والمخرج من خلال هذا العرض المسرحي في توجيه صرخة مدوية لبقايا بشر مشوهين من الداخل والخارج في وجه كل مشعلي الحرائق في أي مكان وأي زمان بحثا عن الأمان والسلام. 


أشرف فؤاد