بعد آخر رصاصة تدين الحرب وتنعي البشر

بعد آخر رصاصة  تدين الحرب وتنعي البشر

العدد 813 صدر بتاريخ 27مارس2023

في وسط توهة من كتاباتٍ أصبحت باهتة، وتبحث دومًا عن موضوع ليُقدم إلى متفرجٍ أصبح متشبعًا بتفاهاتٍ تُقدم له من خلال الفضائيات، التي تقتحم عليه حياته بقنوات متعددة، في وسط تلك التوهة ما زال وستظل كلمة المسرح لها مذاق خاص. مبدئيًا، أنت الذي يختار الذهاب إليه، وهنا تكون أمام إشكالية أخرى، وهي أنه لا يوجد حاجز بينك وبين المُقدَم إليك، إن كان داخل العلبة (وهنا أشير إلى شكل الاستيدج) أو داخل مساحة تشكل فراغًا يُملأ بالممثل والديكور والعناصر الأخرى. في حالة المسرح، يكون التاثير أقوى وجميع العناصر في اختبار يومي من جمهور متغير. وقد أسعدني الحظ أن أشاهد عرض «بعد آخر رصاصة» للكاتب علي عبدالنبي الزيدي، وهو كاتب عراقي، والإشارة إلى الجنسية هنا تجعلك تربط الاسم بجنسية الكاتب، كون العراق يعاني الكثير من الآلام، وإشكاليات ما بعد الحروب، وهذا ما يقدمه العرض المسرحي. 
فنحن أمام تسع شخصيات حية أثرت فيها الحرب وما بعدها، ويستعرض لك النص المقدم تاثير الحرب عليها، فأنت أمام ثلاث قصص متداخلة وهي مأخوذه من أعمال للكاتب وهم (عودة الرجل – قمامة – جيل رابع). قام بالإعداد مخرج العمل، وأعتقد أن المخرج لم يفصل نفسه كمعد للعمل. 
ونستعرض القصص أولًا: 
قصة «العائد» هي قصة لشاب ذهب إلى الحرب على قدميه وعاد بدونهما، عاد وهو يستخدم كرسيًا متحركًا، ولكن ما زالت الحرب وأحلام البطولة الزائفة داخله، فشكل الكرسي المتحرك آثَر مهندس الديكور أن يجعله كعربة حرب مشوهة مثل ما صاب وجهه، ذهب إلى الحرب تاركًا وراءه زوجة لم يمضِ على حفل زفافه الكثير، وأُمًّا. 
ذهب إلى الحرب ولم يفكر كيف سيعيش من تركهم، ذهب مؤمن بشعارات الزيف وعاد ليجد زوجته محترفة البغاء، وأُمًّا توافق وتبارك هذا، من أجل أن تجد لقمة العيش. 
يحاول أن يوقف هذا الأمر لكنه يفشل، ويصل به الأمر إلى أن يفكر في طرد زوجته بحجة النقاء والشرف، ويحاول أن يحرض الأم، ولكن طبيعي أن الأم تأخذ جانب الزوجة، فهي التي توفر لها الأمان بعد أن تخلى الابن؛ بل يصل الأمر إلى نكران وجوده والتآمر عليه من قِبل الزوجة، تحرض الأم للتخلص منه ويشتعل الصراع داخل الأم، فهي أمام خيار صعب تضعف أحيانًا، وينتهي الأمر بخسارة العائد لمعركته الصغيرة أيضًا، ويشارك في الأمر بعد تهديده بالقتل أو الرحيل عن عالمهم، فيختار أن يعيش ويقوم هو بتحصيل رسوم ممارسة البغاء مع زوجته. 
ثانيًا قصة «العروس» التي ترتدي فستان زفاف أسود وتنتظر فتاها الذي حلمت معه بحياة أفضل، ولكن يعود ولا تستطيع التعرف عليه، فعندما عاد لم يكن نفس الشخص الذي رحل إلى ساحة المعركة أيضًا. فإن كانت العائد في القصة الأولى مشوهًا خارجيًّا، فهنا العائد مشوه داخليًّا. 
عاد يحمل أفكارًا غريبة تجعل المسافة بينهما تتسع، رغم اشتياق كل منهما للآخر، لكن مع كل جملة ينطقها بعد أن توقفت ذاكرته عند ما قبل رحيله،  تزيد من البُعد بينهما. هو عائد مسخ إنسان لا يوجد لديه طموح لا يوجد لديه شغف؛ بل يحمل ذكريات فقط مع واقع اختلف كثيرًا. 
أما القصة الثالثة فهي تحمل داخلها أسوأ ما تفرزه الحروب، هي قصة أسرة لجدٍ مفترض أنه كفيف، وابن وزجته، وحفيدة تجد في الموسيقى سبيل الدفاع عن نفسها، فهي تحمل بيدها آلة الفلوت تعزف عليها وتتفاعل من خلال الأصوات الصادرة منها مع كل من حولها، في إشارة من المؤلف والمعد إلى أن الفن هو الطريق للخروج. يعيشون وسط مجموعة اختارت أن تجد طريقًا للهروب من الاشتراك في الحرب، بأن تقوم بتشويه أطراف الذكور حتى لا يُقبل في التجنيد الذي يُعتبر شرف الدفاع عن الوطن، يتحول الهروب من خدمة الوطن هو الحل، وتعاني من عدم توافر سبل الحياة وكسب العيش، فيعيشون على أكل بعضهم البعض ويتغذون على الأطراف المقطوعة. 
نتيجة لخطأ تحمل زوجة الابن بطفل، وبقدر ما يحاسب نفسه على هذا الخطأ يصدر الجد أوامره بأن تُقطع يد الطفل. 
وأعتقد هنا تتولد قصة رابعة نسجتها الممثلة باقتدار، وهي شاءت أن تخلق لنا الروح في دمية ملفوفة بأقمشة تتفاعل معه وتدافع عنه رغبة في التفاؤل، وقد تتوقف الحرب عندما يكبر فلم يظل يحمل علامات التشوه، أملًا في أن يحمل الغد الأفضل، وتحارب بشراسة حتى تفكر في الهروب، فيرفض من بالخارج هروبها؛ بل يستولون على ذراعها من أجل سد الرمق، وتعود مدافعة عن طفلها لآخر لحظة، لدرجة أن تحبس أنفاس المشاهد عند قيام  الأب بقطع ذراع طفله. 
وهنا أنتقل بك يا صديقي وصديقتي إلى عناصر الفرجة المسرحية: 
بما أنني غير ملزم كمتفرج بقراء الثلاث قصص المأخوذ منها العرض، فأنت أمام لنقل نص للمعد، وكونه هو نفسه المخرج فأنت أمام دهشة في التناول الجيد لثلاث حكايات قاسية أثرت فيها الحروب، ولكن مقدمة لك داخل نسيج واحد، فأنت تشاهد الممثلين جميعًا أمامك تتفاعل مع القصص الأخرى أثناء حدوثها لا تنفصل وكأنهم جميعًا يقومون بتمثيل الحكاية، وهذا يُحسب للمخرج، ولكن تقف حائرًا أمام مقدمته التي لجأ فيها إلى فيلم معد مُسبقًا عن فيديو لحياة جميلة هادئة يقطعها أصوات معركة وقذائف، ليُفتتح العرض، وبين تطويل غير مبرر في إظهار أثر الحرب على الحياة، وبين الحكايات التي تؤكد ذلك، وكان من الممكن أن تُختصر كي يستمتع المشاهد بالصورة المسرحية التي تؤكد التأثير النفسي، وهو المطلوب وهنا كمشاهد لا أحتاج إلى تأكيد دمار الحياة من خلال الحروب، لكن المعد أخرج العمل وهو يقوم بالإعداد؛ لذا تجد تطويلًا مبالغًا فيه من خلال الحوار شبه المكرر من أصحاب الحكايات، قبل أن تدخل في أحداث الحكايات، كل منهم على حدة، فتسمع نفس الجمل من الممثلين أكثر من مرة، وفي نهاية العرض إصرار أيضًا على أن يؤكد لك أن الحرب دمار بعد نزول شاشة عرض الفيديو بأن يُدخل الممثلين من وراء الشاشة في مشهد سلويت رافعين أيديهم في حركات توحي بأنهم يطلبون النجاة والإغاثه، وكانه لم يكتفِ بما قُدم. وهذا يحرمك من الاستمتاع بما قدمه من عمل جيد، ويحرمك أيضًا من أغنية النهاية المعبرة وصوت جيد قام بإهدائه للعمل كلٌ من الفنانة نجلاء سليمان، والفنان آسر علي. 
المخرج يعود ليستخدم أفلامًا مصورة أيضًا، وأعتقد أن هذا تطويل لا لزوم له، وهنا أستخدم حقي كمشاهد يستحق أن يحترم ذكاءه في أنه بالتأكيد وصلته جرعة كافية لا يوجد فيها أي طاقة إيجابية سوى مقاومة فاشله من أم تدافع عن وليدها وابنة تحاول المقاومة بالموسيقى، لكنها محاولة ضعيفة جدا لم ينجِها سوى حضور الممثلة الشابة التي لا حوار لها تقريبًا.
أما عن الحركة:
فهي بها من المشقة على الممثلين ما يجعل البعض منهم يفقد جزءًا من تركيزه نتيجة وجود مستويين من الحركة وصعود لسلالم عالية ونزول من منحدر على شكل سقالة مثل التي تُستخدم في البناء، وجعل المخرج دومًا المنطقة العليا هي منطقة نسج المؤامرات والتردد في اتخاذ القرار أو محاورة النفس، وهذا يُحسب له كونه يؤكد فكرته بأن اليد الأقوى في ظل الحروب هي الأعلى والانحدار يأتي من هذا التآمر. 
الديكور جاء مناسبًا لطلبات المخرج، أعتقد أن مهندس الديكور عبَّر عن الدمار ببساطة. 
الملابس جاءت معبِّرة بشكل جيد عن الحالة المطلوبة ببساطة. 
المكياج دلل عن كل أسرة بشكل التشوهات الموحدة للأسرة بما يناسب دورها. 
الإضاءة معبِّرة دون استعراض للإمكانيات وتنساب في هدوء لتعبِّر عن المطلوب منها. 
أما عن التمثيل 
فيجب أولًا أن نحيي الجميع على مجهود شاق من صعود ونزول، وخاصة النزول على سقالة تجعلك كمشاهد تدعو من الله ألا يصاب أحد أثناء نزوله. طبعًا، لعلمك أن الديكور في مسارحنا لا يتم تركيبه بمدة تكفي للتدريب على التعامل معه.  
ونجد أن مبارزة فنية رائعة بين الثلاثي، وهم الفنانة إيناس المصري (الأم) وإيمان مسامح (الزوجة) وخاصة في مشاهد المؤامرة والصراع الداخلي للأم وسلطة الزوجة التي أصبحت تتحكم في المنزل والجميع، و(العائد) الفنان آسرعلي، ورغم إمكانياته القوية وصعوبة الحركة بالمركبة التي تشبه مركبة حربية مشوهة أيضًا جعلها جزءًا من جسده باقتدار وأحسن استخدامها، لكنني أجده مشتتًا في بعض الأحيان، وهذا لعبء تنفيذ الحركة في مناطق متتابعة بين الصعود إلى المستوى، وطبعًا يدخل في مركبة شبيهة لأنه بالطبع يصعب نقل المركبة إلى أعلى، وبسرعة يدخل إليها رغم اختلاف طريقة التعامل لاختلاف تفصيل المركبة العليا عن السفلى، مما جعلني أعتقد أن هناك قصدًا للاختلاف، ولكن لم أجد مبررًا، قد تكون ظروف إنتاجية بالطبع، ولكن أداء الممثل جعلني أتناسى هذه التفصيلة لتمكنه الواضح من الشخصية وأدائه المميز. 
أما أبطال القصة الثانية 
وهي قصة (العروس) المتشحة بالأسود، فنجد أن هناك فرقًا في الأداء بين 
 الفنانة  وفاء عبده (العروس) وبين الفنان إبراهيم الزهيري (العريس)، وذلك لشعوري أن الفنانة وفاء تشعر بالملل لجمود حركتها معظم الوقت، ورغم قصدية المخرج من هذا، ويُحسب له توقف الزمن وشاعرية العريس وتشتت ذهنه، وأعتقد أن الأداء قابل للتحسن، لعلمي أنني أمام ممثلين محترفين لهما باع طويل في المسرح، ومشهود للفنانة وفاء القدرة على أداء الشخصيات المتنوعة.
ونقف طويلًا أمام القصة الثالثة. 
الجد فنان المسرح: محمد دياب: 
وشاهدته في عدة أدوار وأعتب عليه أن دور الكفيف يحتاج جهدًا أكبر في الحركة وتفصيلاتها، ويمكن أن أكون منحازًا لدور الكفيف لعلمي وعملي معهم سنين طويلة، ويستفزني عدم دراسة تفاصيل الكفيف أبسطها أن الكفيف يستخدم حواسه وخاصة اللمس والأذن، ودوما تسبق العصا جسده  لكي يقتنع الجمهور، فنجده على مستوي التمثيل والتعبير عن الحوار في تألق كبير، لكن في حركته ينسى أنه كفيف كثيرًا من الأحيان. 
يأتي دور أبو دراع الفنان: طارق شرف:
بذل مجهودًا يستحق الشكر في تعامله مع إعاقه ذراعه وإعاقته في مواجهة سلطة الجد، وشعوره المقنع بمدى فداحة خطأ أنه وهب لهذا العالم طفلًا في ظروف غير مناسبة، وتردده بين طلب الأب وشعور الابن، الابن لجد قاس وزوجة مدافعة بشراسة عن وليدها، وينفذ رغبة الجد في فصل ذراع ابنه، التي استولت على مشاعري بالكامل ومشاعر المتفرجين الذين تفاعلوا لدرجة كبيرة مع لحظة فصله لذراع وليده. 
ويأتي دور الابنة  الفنانة: الشابة مريم سعيد: 
التي ملأت المسرح بحركتها وتوحدها مع الآلة التي أجادت التعبير بها رغم لا وجود لحوار، لكنها موجودة بخبرة فنانة تسبق سنها الصغير إلى حد ما. 
وهنا نقف أمام الأم التي قامت به الفنانة مي رضا:  
التي أولًا استطاعت إقناع المشاهد بأن هناك طفلًا رغم أنه لفة من القماش تلف عروسة، ولكن تفاصيل تعاملها مع اللفة تجعلك تشعر بأن هناك طفلًا يتحرك يتأثر وتتأثر به بتعبير وجه وحركة وإصرار، وأداء تمثيلي محترف، فهي الأم الشرسة المدافعة بقوة، وهي الحنونة في تعاملها مع الابن، هي طاقة تحمل الأمل في الغد وتحاول أن تبثه لبقية أفراد عائلتها المهزومة. تحية خالصة لها! فهي حاضرة دومًا طوال العرض. 
وأكرر، تحية للمخرج! عمل مع الشخصيات بجهد ووعي، وحركة رغم قسوتها فإنها تخلق صورة مسرحية جيدة، وممثلون قاموا بأداء ووعي، وطاقم عمل وراء الكواليس، وهم: علياء عبدالخالق – نورهان سمير – سيادة نايل. 
يظل المجد للمسرح
ملحوظة مهمة 
قررت الكتابة بعد مرور أسبوعين على المشاهدة للعمل، وهذا يعني أن العمل لم يترك ذهني ويستحق بالفعل المشاهدة. 
عاطف أبو شهبة 


عاطف أبو شهبة