الليـــلة الأخيـرة لفـاوســـت عندما ينقلب السحر على الساحر

الليـــلة الأخيـرة لفـاوســـت  عندما ينقلب السحر على الساحر

العدد 811 صدر بتاريخ 13مارس2023

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ... ?102 البقرة?
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ? وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? ... ?73 طه?
اللاويين 31:19 لَا تَضِلُّوا وَرَاءَ مُسْتَحْضِرِي الأَرْوَاحِ، وَلا تَطْلُبُوا التَّوَابِعَ، فَتَتَنَجَّسُوا بِهِمْ. فَأَنَا الرَّبُّ.
اللاويين 26:19 لَا تَأْكُلُوا لَحْماً بِدَمِهِ، وَلا تُمَارِسُوا الْعِرَافَةَ وَالْعِيَافَةَ.
حذرتنا جميع الأديان السماوية فى القرآن الكريم والكتاب المقدس من لعنة السحر والسحرة، والندم والهلاك الذى ينتظر كل من يقتدى بالشياطين أو يتبع اساليبهم فى السحر والأذى، فالشيطان كان ولا زال وسيبقى عدوا للإنسان حتى قيام الساعة، فمهما زين لك الباطل وحببه اليك فسيكون مصيرك فى الجحيم لا محالة.
و فى الأدب كانت مسرحية « فاوست « الأصلية التى كتبها الكاتب العظيم يوهان فولفغانغ غوتة ( 1749 – 1832 ) وهو فيلسوف وعالم وشاعر المانى، مثالا حيا على تلك اللعنة والآثار المترتبة عليها وعلى الإنسان، وهى قصة من روائع الأدب العالمى التي حقّقت نجاحًا منقطع النظير، وزادت من شهرة غوته في الوسط الأدبيّ الألماني والعالمي، كما أنها تعدُّ من أعظم أعماله الأدبية التي خلدت ذكراه لعصور لاحقة، وقد تم تأدية هذه القصة في العديد من المسارح العالمية، وتتناول هذه القصة بعض الأحداث التي تدور مع شخص اسمه فاوست الذي كان يعيش وحيدًا، وورث عن عمه الذي كان يرعاه أموالاً طائلة، وكان هذا الرجل حريصًا على العلم والتعلّم بشكل كبير، وكان يقضي معظم وقته في أخذ العلم وقراءة الكتب في شتى أصناف العلوم التي عُرفت في زمانه، وبعد مرور العديد من السنوات بدأت تظهر عليه علامات الكبر، وشعر بأنه قد أضاع سنوات شبابه في علوم لا فائدة منها، حيث إنه لم يكن يعيش حالة من الرفاهية وأضاع شبابه، حيث يعيش معظم الشباب فترة الشباب في حالة من الرفاهية الشخصية، ولا يحبسون أنفسهم بين جنبات الكتب، وفي أحد الأيام بعد أن بدأ هذا الرجل يشعر بتقدم العمر ظهر له الشيطان الذي كان يُسمى مفستوفيليس، وأخبره فاوست بأنه قد أضاع شبابه في علوم غير مفيدة، فعرض عليه مفستوفيليس أن يقايضه روحه الشريرة التى تمنحه القدرة على السحر على أن يعطيه أربعًا وعشرين سنة وهو في عمر الشباب، وكان هذا الاقتراح مغريًا لفاوست فوافق على الفور، وبدأ يعيش حياة مختلفة مليئة بالإجرام مستخدما ملكة السحر الأسود التى منحها له الشيطان فى إزهاق الأرواح والتعدي على الآخرين، وكان هذا الرجل قد أحب امرأة تُدعى مارجريت، وعندما عرض الشيطان على الرجل النساءَ رفض أن يقترب من أي امرأة أخرى لأنه قد أحب مارجريت حُبَّا شديدًا، وفي نهاية قصة فاوست كُتب الخلاصُ لفاوست ومارجريت من الشيطان بعد صراع ومعاناة طويلة .
أما فى مسرحية «الليلة الأخيرة لفاوست» موضوع النقد المسرحى، فقد قام الدكتور عصام عبد العزيز استاذ الدراما والنقد ونائب عميد المعهد العالى للفنون المسرحية سابقا، بعمل الإعداد لقصة «فاوست» الأصلية والتى كتبها يوهان فى جزئين، فركز هنا فقط على الليلة الأخيرة فى حياة فاوست ولم يتعرض لفترة الأربعة وعشرون عاما التى وهبها فاوست للشيطان بعقد بينهما، وما دار فيهم من احداث ولا قصة حبه مع مارجريت كما ذكرها الكاتب الأصلى، بل انصب تركيزه كله فقط على الأربعة وعشرون ساعة الأخيرة فى حياته، تلك المتعلقة بالصراع بينه وبين الشيطان وبين العلم والدين والتى جعلته يعيش فى عذاب نفسى لا نهاية له، بسبب بحثه عن مزيد من المعرفة المحرمة من ذاك السحر الأسود الذى انجذب له، بسبب رغبته فى فهم مفهوم الوجود، ولكن عندما يكتشف فاوست فى النهاية هوية الملثمين الثلاثة وانهم من الشياطين يحاولون إغوائه بطرق أخرى حتى لا يتوب عن الخطايا التى ارتكبها، بسبب كلماتهم التى تساوى المؤمن بالملحد وتلك نفس الكلمات التى يرددها الشيطان، فيقرر فاوست هنا طردهم ويعطى روحه لخالق السموات والأرض بعد أن اكمل توبة خطاياه.     
المسرحية من إنتاج جامعة هليوبوليس للتنمية المستدامة، تحت قيادة رئيسها الأستاذ الدكتور جودة هلال، وتم عرضها مؤخرا على المركز الثقافى الإيطالى ومن قبل تم عرضها على مسرح هدى شعراوى بجامعة هليوبوليس، وجميع المشاركين بالعرض المسرحى بكل عناصره من طلابها من كليات مختلفة ما بين هندسة، علاج طبيعى، صيدلة، زراعة حيوية، بيزنس، فيما عدا المحترفين من قاموا بدور فاوست والشيطان، وهم كلا من الفنان أشرف أمين والفنان حمادة شوشة على الترتيب .
المسرحية من إخراج د.تامر الجزار الذى أحسن اختيار كل ممثلى العرض المسرحى كل فى مكانه الصحيح، كما نجح الجزار فى اختياراته أيضا فى عمل دمج ما بين عنصرى الخبرة والهواة ليكمل كل منهما الآخر، فقام بالإستعانة بعناصر الخبرة فى أدوار البطولة، فوجدنا أشرف أمين فى دور « فاوست « فى قمة تألقه وتقمصه للشخصية، نتيجة خبراته العريضة لسنوات طويلة فى احتراف التمثيل السينمائى والمسرحى، كما انه أجاد اللغة العربية ( لغة النص المسرحى) إلى حد كبير بالرغم من ندرة تمثيله بها على مدار مشواره الفنى، مما يدل على كم ما بذله من مجهود حتى يصل إلى تلك الدرجة من إتقان اللغة مع الآداء، إضافة إلى عبقريته فى استخدام لغة الجسد التى أجادها فى كل المونولوجات الخاصة به بالعرض المسرحى، فعندما كان يصمت كان جسده يتحدث ويعبر عن الخوف والندم برعشات وحركة غير واثقة، فقد كان فاوست غير واثق دوما فى قبول الله لتوبته نتيجة لكل ما اقترفه من ذنوب طوال حياته بإيعاز من الشيطان .
اما حمادة شوشة فى دور الشيطان فهو ممثل من طراز فريد يبحث دوما فى كل أدواره عن تفاصيل التفاصيل، ويستذكر دوره كما لو كان على أبواب الامتحان، كما انه ممثل مسرحى محترف وكبير فى المقام الأول وصاحب تاريخ طويل فيه، وسبق له تجسيد العديد والعديد من الأدوار العالمية والمصرية وعلى اغلب مسارح الوطن والخارج، وحصد العديد من الجوائز والتكريمات، لذا فهو يمثل دور الشيطان هنا فى العرض من خلال أسلوب السهل الممتنع، فلا تجده يبالغ فى آدائه كما اعتدنا فى أدوار الشياطين ولا تجده فى نفس الوقت يمثل بفتور، بل جسد الشيطان من وجهة نظره الشخصية كما لو كان شخص فنان يعزف الألحان تارة على البيانو وتارة على الخيوط على شكل هارب، ولكنها جميعا ألحان من الكذب والخداع، لكى ينجح فى بعث الثقة إلى فاوست الضحية، ولكى لا يخيفه حتى يستطيع أن يقتنع بأفكاره وينفذها، لذا افادت الخبرات السابقة والذاكرة الانفعالية حمادة شوشة إلى حد كبير فى إتقانه للدور ببراعة .
على المستوى الشكل لكل من فاوست والشيطان تفوق تامر الجزار فى تسكين كل منهم فى الدور الذى يشبه ملامحه الخارجية، حيث فاوست يبدو على وجهه الانكسار وآثار الزمن بينما يبدو الشيطان فى كامل طاقته .
أجاد جميع الممثلين والممثلات فى ادوارهم التى أسندها لهم المخرج بالرغم من أن هناك منهم من يمارس التمثيل لأول مرة، فجميعهم طلاب بالجامعة بكليات مختلفة ما بين العلاج الطبيعى والصيدلة والبيزنس، باستثناء بطلى العرض المحترفين من قاما بتجسيد شخصيتى فاوست والشيطان، وهم سما عادل، ولاء أحمد، نورهان عيد، ندا محمد، مريم مكرم، باسل على، ميشيل مجدى، عبد الرحمن حجازى، فعندما يكون جميعهم بدايتهم مسرحية حيث أصعب أنواع الفنون، ويظهرون بذاك المستوى وخاصة الثلاثى من قاموا بأدوار الرعاة والشياطين، اذن فتلك بداية جيدة توحى بميلاد مواهب جامعية جديدة تثرى من الحركة الفنية .
الديكور لدانيا غنام هو من نوعية الديكور السهل الممتنع، حيث استطاعت دانيا غانم استغلال ميزانية العرض المحدودة لصالحها بعبقرية تحسب لها، فلجأت إلى عمل بوستر 3D طويل عريض بطول وعرض خلفية المسرح بالكامل كديكور لمنزل فاوست، وبالرغم من انها فى النهاية هى لوحة مرسومة لكنها نجحت فى إضفاء عنصر المصداقية عليها لدى الجمهور، كما انها قامت باستخدام المدرسة الرمزية عليها من خلال تدوين رسومات لفاوست على تلك اللوحة وهو يفكر فى الخير والشر معا، دلالة على الصراع الذى يحياه فى عقله الباطن، وفى منتصف اللوحة رسمت ساعة عريضة ركبت عليها عقارب حقيقة يقوم فاوست بنفسه بتحريكها كل حين، دلالة على عنصر الترقب والفزع الذى يحياه فاوست فى ليلته الأخيرة كلما اقترب زمن نهايته، وان كنت افضل أن من يقوم بتحريك الساعة هو لوسيفر الشيطان فقط لا غير وليس فاوست، حيث انه هو وحده من يستمتع ويرغب بمرور الوقت بسرعة حيث الاقتراب من نهاية فاوست، بينما فاوست ليس من المنطقى أن يقوم بهذا الفعل وهو أكثر الخائفين من سرعة مرور الوقت حيث أن نهايته مقترنة بنهاية اليوم، اختارت دانيا أن يكون اللون الأحمر هو اللون السائد بتلك البانوراما الخلفية دلالة على الدموية والشر التى عاشها فاوست سنوات طويلة بمعاونة من الشيطان، كما استخدمت الخيوط العديدة المتشابكة على يمين المسرح دلالة على المصيدة والمكيدة التى اوقع الشيطان فيها فاوست، وكأنه عنكبوت ينسخ خيوطه حول فريسته حتى لا تستطيع الهروب منه، بينما الخيوط الأخرى على الشمال استخدمها الشيطان كما لو انها كانت آلة موسيقية يسحر بها فاوست من خلالها ويتمكن من السيطرة عليه، كما استخدمت أيضا الشموع المضيئة بطول حواف خشبة المسرح وعلى البيانو الذى يعزف عليه الشيطان بجانب جمهور العرض دلالة على الأمل فى التوبة ورحمة الله المحيطة بفاوست المتشائم دوما بعدم قبول الله لتوبته ولا يراها بالرغم من أن رحمة الله تحيط بنا من كل جانب، وهى كلها رموز موفقة وفى محلها تتوافق مع دراما العرض المسرحى، اما الملابس فاختارت دانيا أن تكون عصرية لتلائم فكر العصر الحالى وبالتالى تصل رسالة العرض لهم بسهولة باستثناء ملابس الشياطين والرعاة التى أخذت الطبيعة الأسطورية.
الموسيقى التصويرية بالعرض المسرحى كانت عبارة عن موسيقى عالمية استعان بها مخرج العرض بما يتلائم مع طبيعته، وحقيقة لا أدري لماذا لم يقوم المخرج بالاستعانة بملحن يكتب موسيقى خصيصا للعرض المسرحى تناسب فكره ورؤيته، فهل تم الاستغناء عنها نتيجة لضعف إمكانيات مادية أم كانت للمخرج وجهة نظر أخرى ؟!
قام حسام موسى بعمل دراما سينمائية للعرض المسرحى باللغة الانجليزية حتى تناسب جمهور الحضور غاية فى الإتقان والإبهار، وبناءا على رؤية تامر الجزار مخرج العرض من خلال شاشة صغيرة على الجانب الأيمن للجمهور تعرض ملخص لحياة فاوست للمتلقى وغروره مع وصوله لمنتهى العلم والفلسفة وميوله لممارسة السحر بمعاونة من لوسيفر الشيطان والصراع الذى ينتابه فى تلك الليلة الأخيرة ما بين ملائكة الخير والشر، ورغبته فى التوبة المغلفة بالتشاؤم وعدم ثقته فى قبولها، وحقيقة ساعد ذاك الفيلم فى إضفاء المتعة وتقريب الفهم لجمهور المتلقى للمعالجة المسرحية لذاك النص سواء كانوا من المصريين أو الأجانب .
الدراما الحركية لمارتينا دينكل جسدت بشكل موفق الصراع الذى يدور فى عقل فاوست ما بين الخير والشر، وما بين الملائكة والشياطين فى ذات الوقت، فى شكل حركى معبر ومفهوم يأخذ شكل الدوامة من خلال اخذ الشكل الدائرى من حول فاوست دلالة على مقدار الحيرة والألم الذى يحياه بعقله الباطن، واستخدمت الحبال ما بين الملائكة والشياطين دلالة على الشد والجذب فيما بينهم من اجل الفوز بالهدف الذى ينشده كل منهم تجاه فاوست سواء بإنقاذه من الهلاك أو بدفعه إلى الجحيم.
الإضاءة لتامر الجزار ومحمود حسين تسيد فيها اللون الأحمر كطابع عام لدراما العرض التى يغلبها الشر والدموية التى يتصف بها فاوست، مع وجود لوسيفر الشيطان، ودوما اللون الأحمر فى الدراما هو سمة من سمات الشياطين حيث خلقت من النار، ولكن كنت اتمنى أن تكون هناك الوان اخرى تعبر عما بداخل فاوست من جانب خير أيضا حتى وان كان غير ظاهر أو ليس بنفس قدر الجانب الشرير فى شخصيته.
فى النهاية نجح المخرج تامر الجزار باقتدار أن يكون له رؤية إخراجية خاصة يطرحها على المتلقى من خلال نص مسرحى عالمى تناوله العديد من المخرجين قبله على مستوى العالم كل منهم برؤيته الخاصة به، ولم يكن مقلدا أو متبعا للآخرين بل استطاع أن يركز على قضية السحر والسحرة من خلال ذاك النص العالمى وآثارهم النفسية الضارة على الإنسان نتيجة درايته بطابع المصريين وإيمانهم القوى بمثل تلك الأمور واتجاههم إلى السحر والشعوذة والدجل من أجل الخلاص والحماية منهم، وكأنه أراد أن يوجه رسالة اليهم بإن الطريق الوحيد للحماية من أذى السحرة أو البعد عن المضى قدما فى طريق السحر واتباع منهجهم وأساليبهم هى تقوى الله والتوبة إليه والإيمان بأن الكتب السماوية هى الوسيلة الوحيدة التى تحميك من شرورهم، وان رحمة الله واسعة وباب توبته مفتوح حتى آخر لحظات عمرك شريطة أن تكون التوبة من القلب ومصحوبة بالندم، ولكن فقط يؤخذ على الجزار أن الحركة لم تكن معبرة بالشكل الكافى عن دلالات العرض المسرحى، كما لم يستغل طاقات الممثلين لديه بالعمل على إخراجها من خلال الحركة المعبرة، فجاءت معظم مونولوجات فاوست متشابهة وفى وضع الثبات والسكون، ولكنه نجح على كل حال فى أن تكون له رؤيته الإخراجية الخاصة لنص مسرحى عالمى تناوله من الجانب الدينى، لينجح فى دخول المتلقى فى عملية تطهير بتفاعله مع العرض المسرحى ليخرج بعده من العرض وهو فى حالة روحانية خاصة بينه وبين الله كارها لكل ما هو فيه أذى لغيره، عازما على التوبة من أية خطايا قد يكون ارتكبها فى حياته، ومؤمنا عن يقين بإن باب التوبة النصوحة مفتوح حتى آخر لحظات العمر، وان طريق السحر والدجل حتما ولابد أن تكون نهايته الهلاك لصاحبه .


أشرف فؤاد