الصراع الأيديولوجي في مسرحية «الواقع صورة طبق الأصل»

الصراع الأيديولوجي في مسرحية «الواقع صورة طبق الأصل»

العدد 808 صدر بتاريخ 20فبراير2023

يستمد الكاتب المسرحي الشيخ سلطان القاسمي في مسرحيته «الواقع صورة طبق الأصل» من التاريخ وقائع محددة ليتكئ عليها ويضعها في قالب مسرحي ذي رؤية واضحة؛ فأوجد بينها الصلات والعلاقات حتى يبني عليها موضوعه المسرحي وهو حال الأمة العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا في ظل مؤامرات قام بها أخرون من أجل أيديولوجيات معينة، ومن خلال قضية القدس المتنازع عليها سياسيًا. جاءت المفارقة في العنوان حيث بدأه بالواقع ليقول إن الواقع صورة طبق الأصل من أحداث التاريخ. يناصر القاسمي قضية القدس السياسية بمسرحه وطرحه الدرامي ذي العناصر المتكاملة ليؤدلج الواقع وقضاياه المسكوت عنها والظروف النفسية التي تؤثر على المجتمع العربي، متمردًا على الأشكال المسرحية التي لا تناسب الواقع وأيدولوجيته وتحطيمها من أجل مسرح يشتبك مع الواقع وقضاياه الملتصقة بثوب التاريخ، يقدم القاسمي لنا الحوادث التاريخية لكي نسترشد بها عن واقع يشبهها إلى حد التطابق، إذ كما قلنا سابقا إن التاريخ يعيد إنتاج نفسه أو أن قضية الأمس هي قضية اليوم والغد وخصوصًا إذا كانت تمس عدة أطراف مثل القدس، لأن ما يحدث فيها اليوم قد حدث بالأمس القريب والأمس البعيد، ومن هنا جاء التطابق في العنوان.
يبدأ القاسمي بتقديم شخصياته حسب ظهورها؛ هاتف، المضيف، بطرس الناسك، اثنان من المغاربة، على، أحمد، الرجل، الشيخ محمد، مساعد البطريرك، مجموعة رجال ونساء وشيبا وشبابا وصبية، البطريرك شمعون، هاتف، البابا أوريان الثاني، القسيس، القسيس الآخر، مجموعة رؤساء الكنائس والأمراء، المجموعة الأولى، المجموعة الثانية، المجموعة الثالثة، المجموعة الرابعة، حمار أعرج، القاضي أبو سعيد الهروي، قضاة دمشق، مجموعة الوجهاء، سليمان، الجثة، الخليفة المستظهر بالله، أحد اللاجئين الفلسطينيين، الجند العباسيون، مجلس القضاة، الخليفة المستعلي بالله، الحاجب، أفضل الجمالي، الطفل، الخطيب، القاضي ابن الخشاب، مجموعة الحلبيين، الحرس، مجموعة الخدم والغلمان والجواري والحاشية، مجموعة المصليين، الخليفة أمير المؤمنين، السلطان محمد، شخص القاتل، شبان مقدسيون، إبرهيم، عيسى، باليان، مجموعة الجنود الصلبيين الفرنجة، صلاح الدين، مجموعة قادة صلاح الدين، قائد المجموعة، جنود صلاح الدين، البطريرك اللاتيني (إيراكلوس) صوت فتاة (الفتاة الفرنسية)، إبراهيم كهلا، عيسى كهلا، المنادي، القاضي شمس الدين (قاضي نابلس) الإمبراطور، حاشية الإمبراطور، المجموعة المسيحية الأولى، المجموعة الثانية (الفرسان)، المجموعة الثالثة (النبلاء)، الرجل المسن(1)، الرجل المسن (2). 
يجتهد القاسمي في استقطاع تلك الأحداث التاريخية التي جاء بها من عمق التاريخ المتباعدة زمنيًا ومكانيًا لكنها مترابطة موضوعيًا ليعيد إليها الحياة من خلال دراما تنبض شخصياتها بالحياة وتعلن عن آراءها وتتفاعل مع بقية الشخصيات فتخلق الصراع الدرامي الذي تهدف إليه المسرحية من خلال الأماكن والأزمنة التي تقاربت وترابطت بفعل الموضوع الواحد من أجل اكتمال القالب المسرحي.
يراهن القاسمي على وعي المتلقي الذي كان يحتاج لمثل ذلك العمل المسرحي لكي يفهمه ويتفاعل معه ويؤثر فيه، ذلك العمل الذي يحتوي على عدد كبير جدا من الشخصيات والأحداث التاريخية التي تضم عدة عصور وأماكن وأزمنة، استطاع القاسمي في أن يصنع منها مسرحية مترابطة الموضوع وهو قضية القدس على مر الأزمان تمتد من 1093م حتى 1244م من خلال حدث مسرحي متصاعد، وضفّر الأزمان التاريخية الطويلة المتقاطعة معا واختزلها في زمن مسرحي، كما جمع الشخصات التي تتباين في الفكر والأيديولوجية لتتصارع حول نفس القضية من أجل نمو الحدث الدرامي الذي تتلاقح خيوطه للوصول إلى الذروة ليتعانق فيها الصراع الدرامي.  
 يراهن المتلقي على القاسمي الذي غامر بتقديم عمل مسرحي سياسي وثائقي يحفر في التاريخ ليقدم لنا قضية القدس بتفاصيلها المتشعبة نظرًا لقدسيتها كونها مدينة الرسالات والأنبياء والصراع حولها على مر عصور تاريخية طويلة وارتباطها الشديد بالواقع، واستطاع أن يعيد إلى الأذهان مسألة التوحد حول قضية واحدة، تشغل العقل العربي طوال العصور التاريخية الطويلة، لاستنهاض الهمم وحثها على نسخ التاريخ وتطبيقه على الواقع وسد فجواته وأن ما حدث بالأمس سوف يحدث اليوم وغدا، مستعينًا بخبرته السياسية لوضع الراهن العربي على مقصلة التاريخ ومساءلته.   
نلج مسرحية “الواقع صورة طبق الأصل” من خلال “العتبة البصرية” وهي الغلاف الذي يمثل لوحة فنية تختزل عدة عناصر وتحمل الكثير من الرؤى الفنية والدلالية والتي تعبر عن الأصالة من خلال الألوان المتناسقة بامتزاج اللون البني ومشتقاته والمنسجمة مع الجدران والشخصيات التي تعبر عن جنود صليبيين وقتلى مسلمين على الطرقات ودماءهم المراقة، والبوابة التي تمثل أي بوابة سواء كانت تاريخية أو معاصرة وهي تنفتح على منظر القدس وتعبر عن استمرارية طرح قضيتها عبر العصور حتى الآن، لكننا نجد لونين مختلفين وهما الأبيض والأزرق اللذين يعبران عن الواقع وهو ضيئل بالنسبة للتاريخ الذي يمثل الجزء الأكبر من اللون البني، وشعاع ضوء صغير يمثل الأمل في حل القضية، كما يعبر وقوف الجنديين في مواجهة مع المتلقي وكأنهما يتحديان الواقع بكل شخوصه سواء كانوا مواطنين عرب أو متعاطفين من جنسيات أخرى وهما يمسكان حمار بطرس، مفجر الحملات الصليبية. جاء العنوان “العتبة اللغوية” التي تتماهى مع العتبة البصرية لتخلق العلاقة القوية التي تشتبك مع المتن لتخرج لنا المسرحية بشكلها الذي سوف يلحظه المتلقي، ومن الناحية التركيبية تعرب “الواقع” مبتدأ مرفوع و”صورة” خبر مرفوع و”طبق” خبر ثان و”الأصل” مضاف إليه، نجد أن كلمة “الواقع” مكتوبة بخط أكبر من “صورة طبق الأصل” لتعبر عن ضخامة الواقع بوصفه الكيان الحقيقي، وتعبر عبارة “صورة طبق الأصل” عن التاريخ بوصفه الكيان التوثيقي، كما نلحظ المفارقة والرمزية في العنوان وعلاقة كل منهما بالنص.
يحاول القاسمي استنبات الحدث الدرامي والذي يمكن للمتلقي أن يلحظه منذ البداية من خلال نظرية المؤامرة التي بدأها بطرس، وكيف ساهمت في نموه من خلال حبكة محكمة فيما بعد ووصوله إلى فترات من الذروة وليس ذروة واحدة وهو ما جعل نهاية المسرحية تبدو صعبة التوقع إذ لا يمكن للمتلقي أن يتوقع الحدث الذي تنتهي عنده المسرحية نظرًا لتشابك الخيوط الدرامية وتعانق عنصري الزمن والمكان، ويمكن القول إن وحدة الموضوع كانت العامل الرئيس في تسلسل الأحداث بشكل طبيعي بالإضافة إلى وجود “هاتف” الذي يقوم بدور الراوي ليعلن عن الزمان والمكان المسرحي كما يعلق عليه أحيانا.
جاء الزمن والمكان المسرحي متسقًا أيضا مع وحدة الموضوع الذي جعلهما عنصرين متغيرين ومرنين وخصوصًا في وجود “هاتف” يقوم بتحديدهما كما يقوم بسرد القليل من الأحداث والتعليق عليها وكأنه ضمير المؤلف، ويمكن القول بأن الزمن برغم اختلافه لكنه يلعب دورًا رئيسيًا في الصراع المتنامي رأسيًا بشكل أساسي وأفقيًا في بعض الأحيان، كما أن المكان لعب دورًا في تحويل الموضوع إلى النسق الدرامي الطويل والذي يحتاج إلى عدة أمكنة ليمتد وينمو ويمكِّن الشخصيات من أداء أدوارها باقتدار.
الشخصيات كثيرة جدا لكونها جاءت من مختلف العصور برغم من وجود شخصيات تربط بعض الأحداث وتعلق عليها أيضا. تتحمل بعض الشخصيات على مختلف توجهاتها مناقشة مسألة القدس وتداعياتها عبر العصور وكيف كانت تتعامل معها سواء بالعمل الإيجابي بالتغيير أو بالسلب بالإذعان لمجريات الأمور. إن كثرة عدد الشخصيات يساهم إلى حد كبير في تحويل المسرحية إلى نص مسرحي يناسب فرقة مسرحية كبيرة في أي مكان، كما يكون له عظيم الأثر على الاتساق مع موضوعها الضارب في عمق التاريخ، كما أن كثرة الشخصيات التاريخية تعظم من أهمية الصراع في وجود حدث درامي يناقش  التاريخ من خلال بوابة الحاضر فيؤكد على متانة البناء الدرامي بتصاعده حتى يصل إلى الذروة.
اهتم القاسمي بتصوير الجوانب السياسية والاجتماعية والنفسية للشخصيات كما صور صراع الحضارات والأيديولوجيات الذي ظهر خلال الصراع الدرامي ونتائجه وانعكاساته على تصرف الشخصيات الرئيسية وكذلك الشخصيات الثانوية، وجاء الصدام الحضاري والأيديولوجي للشخصيات مواكبًا للتطور الدرامي بشكل منطقي، مؤكدًا على التصاعد للوصول إلى تشابك الخيوط الدرامية التي بدأت متباعدة ثم اقتربت إلى حدود غير متوقعة. إن القاسمي يقدم لنا مسرحًا سياسيًا يستنبط من التاريخ المادة التوثيقية ليضعها في قالب مسرحي مختلف ومؤثر، له أهداف ورؤى لتحقيق أيديولوجية محددة وهي استنهاض الوعي الكامن في العقل العربي.   
يتطرق إلى مسألة حوار الشخصين القادمين من بلاد المغرب والشيخ محمد الموجود عند بيت المقدس؛ إذ يظهر الفرق بين الجانب الشرقي والجانب المغربي حيث فترات التألق والازدهار والانتصارات، وعلى الجانب الآخر حيث فترات التدهور من خلال الظروف السياسية السيئة، الانقسامات في الحكم والخلافتين وبداخل كل خلافة فتن وقلاقل من أجل الوصول إلى الحكم والافتقار إلى أدنى المقومات للتصدي للعدوان الخارجي.
 يصل التصاعد الدرامي إلى الذروة فتضاء خشبة المسرح  ويدخل الجنود بعد أن هُزموا لكن الأفضل يحثهم على تحرير فلسطين لأنها قضيتهم ثم يهتفون له ويتم الإظلام، وحينما تضاء مرة أخرى يتكرر نفس المشهد؛ حيث الجند المهزومين وحث الجبالي لهم بالجهاد فيشهر سيفه ويخرج من المسرح والمواطنون من خلفه يهتفون باسمه حتى يتم الإظلام في مشهد يتكرر بشكل مقصود للتأكيد على المحاولات المستميتة من قبل الأفضل من أجل تحقيق الهدف وهو تحرير القدس، وللإسقاط على الوقت الراهن لتكرار تلك المحاولات حتى تنجح ويتحقق التحرير خلال التصاعد الدرامي المتلاحق واختزال عنصري الزمن والمكان من خلال الحدث الدرامي.
تمضي السنون ثقيلة على اللاجئين المشردين ويستمر العدوان من تلك الدويلات على ديار المسلمين، وفي كل مرة تسقط يدهم مدن وسهول من ديار المسلمين. وعند إنارة خشبة المسرح يعلن عن انتقال الحدث إلى المكان المسرحي القديم ببغداد والزمان في عام 504 هـ الموافق 1111 م، حيث مسجد الخليفة المستظهر بالله بقصر الخليفة، فيقف الخطيب على المنبر، فيعلو صوت القاضي بن الخشاب ومعه مجموعة من الحلبيين بينما يمنعهم الحرس من الدخول فيحدث اضطراب بين المصلين.
يحاول ابن الخشاب الدعوة لأفكارها بشتى السبل ولا يلقي اعتبارا لوجود آراء تخالفه أو أعداء يتربصون به، وما إن ينتهي من دعوته حتى يطعنه شخص ما في صدره فيتشهد ابن الخشاب ويخر صريعًا على الأرض ومجموعة تحاول اسعافه ومجموعة أخرى تلاحق الجاني ويتم إظلام خشبة المسرح.
في الفصل الثالث يشتبك الخط الدرامي القديم مع خط درامي جديد لتتصاعد وتيرة الحدث الدرامي الرئيسي ويتلاحق عنصر الزمن فيصل إلى الذروة مع ظهور شخصية المخلِّص بتكوينه الاجتماعي والسياسي والعسكري هو صلاح الدين، إذ تُسمع في بداية المشهد الأول أصوات قذائف المنجنيق وهي تتساقط، ويعلن هاتف عن المكان والزمان المسرحي في مدينة القدس عام 583 هـ الموافق 1187م. وترفع الستار أثناء دوي القذائف في مدينة القدس عند باب المغاربة يدخل شابان. 
يتضح أن ذلك الخط الدرامي يختلف عن الخيوط التي سبقته من حيث دينامية الشخصيات وواقعها الاجتماعي والنفسي وانقيادها للشخصية الرئيسية التي كانوا يفتقدونها كونها النموذج الذي تحتاجه تلك المرحلة والتي تحمل الخطاب المسرحي الجديد من خلال حدث درامي متصاعد يُعاد تشكيله ليتسق مع عنصري الزمن والمكان. وبمجرد أن ينتهي صلاح الدين من كلامه يدخل مجموعة من الجند وهم يدفعون البطريرك اللاتيني إيراكلوس وهو يحمل صندوق مملوء بالأموال والمجوهرات عائدا لبلاده بعد أن سطا عليها ويصر أحد القادة على أخذه منه، لكن صلاح الدين يأخذ عشرة دنانير فقط ويسمح له بالرحيل. ثم يسمع صلاح الدين صوت فتاة فرنسية فيسمح لها بالحديث.
يتجمع الفرنجة على تلك الأصوات ويقتلون الرجلين ويشتبكون مع المجموعتين فينهزمون ويسقط منهم عدد من القتلى، وتردد المجموعتان التكبيرات ويردد خلفهم أهالي القدس التكبيرات والدعاء وبينما يستمر الدعاء يحاول الفرنج رفع العلم يشتبك معهم الحاضرون ويقتلونهم ثم ترتفع مرة أخرى التكبيرات ويسدل ستار النهاية.
تندرج مسرحية “الواقع صورة طبق الأصل” تحت مسمى مسرح الاحتجاج لأنها ترصد الاحتجاجات في عهد السلطان الكامل بين الفلسطينيين والغزاة وتسقطه على الانتفاضة والمقاومة في العصر الحديث والمعاصر بين الفلسطينيين والإسرائليين وما بين العهدين تاريخ طويل من المقاومة والتصدي لكل أشكال الاحتلال الذي لم يكن يتورع في السطو على الأماكن المقدسة بذريعة الصليب المقدس. جاءت المسرحية لتؤكد على قيمة الوطنية ورسوخها في الوجدان القومي وكيفية المحافظة على الأوطان وأهمية التصدي لكل المحاولات التي تأتي من الغرب للاستيلاء على المناطق المقدسة في الشرق الأوسط بحجج وذرائع مختلفة.
حافظ القاسمي على وحدة الموضوع طوال أحداث المسرحية برغم كثرة الخيوط الدرامية وتشعبها وتقاطعها ورصد التغييرات في الأحداث التاريخية من خلال صراع درامي يرسخ لتطورها من خلال الشخصيات وتشابك عنصري الزمن والمكان لتخرج لنا المسرحية بشكلها المتماسك. لم يكن خافيًا على القاسمي صعوبة السيطرة على الزمن المسرحي وانفلاته بسبب البعد المكاني واستطاع أن يسيطر عليه ويخضعه لقواعدة الدرامية، كما أنه استطاع أن يسيطر على المكان ويخضعه لميكانيكية التطور الدرامي للأحداث.      


ترجمة عبد السلام إبراهيم