العدد 807 صدر بتاريخ 13فبراير2023
«أصدقائي، عندما أموت علقوا وراء المذبح القيثارة الصغيرة، فهناك علي الحائط حيث تتألق الأكاليل ذكريات البنات الموتى الآن .»
( لودفيج هولتي «بريخت كما يعرفونه»)
«الأيديولوجيا تمثل علاقة الأفراد الخيالية بشروط وجودهم الحقيقية»
(لويس التوسير «لنين وفلسفة الآخر»)
بداية، أحكي لكم حكاية بسيطة. في عام 1990، عندما كنت أدرس مسرحية بريخت «دائرة الطباشير القوقازية». نظمنا ندوة أثرت خلالها السؤال التالي «هل كان بريخت ماركسي؟». وفجأة غرقت القاعة في الصمت. ثم كانت هناك همهمة بين الحاضرين، وفجأة وقف السيد جاياسينا Jayasena وقال «لا أعرف إن كان ماركسي أم لا، فما أعرفه أنه كان نصيرا للإنسانية». ثم هرعت إلى مسرعة أحدى أساتذة جامعة ثاكشيلا Thakshilaوطلبت مني أن أجلس ولا أطرح أسئلة مرة أخرى. فربما ظنت أنني قد أهنت بريخت ذلك المسرحي الشهير. إذ تم نفيه بسبب مسرحه ذي الدوافع السياسية، وهنا قد أسكتوني وأهانوني بقوة بين زملائي بسبب محاولتي استكشاف التضمينات الفكرية في مسرح بريخت.
تشير هذه الحكاية إلى مشكلة معينة لا تزال واضحة في دراسة بريخت. وعلى الرغم من ميول بريخت الماركسية المعلنة واستخدامه الصريح للنظرية والديالكتيك الماركسيين، فقد صُنفت كتاباته وممارساته المسرحية ضمن الرؤية الإنسانية للعالم، مع التأكيد على أنه شخصية أدبية عظيمة وأن أعماله مقبولة عالميا وستظل خالدة. ولا شك أن أهمية بريخت في عالم اليوم بعد الحداثي وثيقة الصلة أيضا بسبب الدعم الماركسي لمسرحه الديلكتيكي. وفي هذه المقالة أنوى أن أعالج الفرضية الثانية بأن بريخت مازال حيا في المسرح المعاصر بينما أجادل بأن الممارسة المسرحية تعزز النظرية الدرامية والممارسة وتؤثر فيهما في عصر الرأسمالية المتأخرة.
واهتمامي هنا هو مساهمة بريخت في التخيلات المسرحية في القرن الحادي والعشرين وتأثيره علي التطورات الأخيرة في المسرح بعد الدرامي. وربما نتساءل عما إذا كان ملائما أن نتحدث عن بريخت في المسرح المعاصر لأن مخرجي المسرح الحداثيين مثل ستانسلافسكي أو مايرهولد أو أرتو أو جروتوفسكي قد حلوا محله. إذ يبدو أن ارث بريخت قد تضاءل فيما يسمى عصر ما بعد الحداثة أيضا. ولكني هنا أسأل عن مدى أهمية إعادة النظر في بريخت وارثه المسرحي اليوم؟ وما هي إيحاءات المتضمنة في أفكاره عن المسرح السياسي، ولاسيما كيف استمر ذلك في التأثير علي الجيل التالي من صناع المسرح ؟
من الصعب استكشاف مثل هذا الموضوع المعقد في هذه المساحة الضيقة. ففي حين كان بريخت شاعرا وكاتبا ومخرجا ومنظرا وناشطا سياسيا، فان محاولتي المحددة هنا هي إعادة النظر فيما إذا كانت أفكار بريخت وممارسات الممثل في مسرحه لا تزال ذات صلة وتستحق النظر في الحقائق الاجتماعية السياسية المعقدة اليوم. وسوف أحاول أن أقدم مبررا هنا بأن تراث بريخت ما يزال يملك حيوية في المسرح بعد الدرامي أو بالأحرى المسرح بعد البريختي. وفي الجزء الأول من هذا الاستفسار، سوف أتأمل مساهمة بريخت في المناهج الحداثية في المسرح بالاشتراك مع أعمال المخرجين الحداثيين الآخرين. وسوف أتأمل أسس أعمال بريخت فيما يتعلق بالمفاهيم الحداثية في صناعة المسرح. وسوف أستخدم مصطلح « ما بعد الدرامي postdramatic» لتعريف نوع بعينه من المسرح ولاسيما العصر الذي أصبحت فيه صناعة المسرح « ممارسة تمثيلية مضادة anti-mimetic practice». وسوف أقدم تنظير هانز-سيز ليمان للمسرح بعد الدرامي، ومغزاه، وإضفاءه مثالية فريدة علي صناعة المسرح المعاصر. وبهذا التنظير للمسرح بعد الدرامي، سوف أناقش كيف أن المسرح المعاصر، ولاسيما المسرح الأوروبي، هو مسرح بعد درامي أو بدقة أكثر مسرح بعد بريختي في طبيعته. وسوف أختم بأن تراث بريخت ما يزال يدعم ممارسات الأداء بعد الدرامي وبين الوسائطي المعاصر.
المسرح الحداثي وبريخت :
يعد بريخت (1898 -1956) واحدا من أبرز كتاب المسرح والشعراء والمنظرين والناشطين السياسيين في مسرح القرن الحادي والعشرين. وقد كانت أفكاره المتعلقة بالمسرح السياسي والمسرح التجريبي مؤثرة جدا في تكوين وتطور الكثير من الأنواع المسرحية الجديدة. إذ كان منهجه في المسرح والتمثيل طليعيا وثوريا بمعنى أن ممارساته المسرحية ومفاهيمه عن عمل الممثل كانت أرسطية ومضادة وغير تقليدية. وقد تم استكشاف العديد من جوانب منهج بريخت في صناعة المسرح ونظريات مشاركة الممثل في المسرح. ولم يحظ أي مخرج مسرحي آخر بهذا الاهتمام الكبير غير بريخت، الذي كانت أعماله المسرحية وممارساته الفنية مادة خصبة للدراسة المسرحية طوال القرن الماضي.
يعد المسرح في أوائل القرن التاسع عشر مسرحا حداثيا في توجهه. فقد كان هناك العديد من مخرجي المسرح والمنظرين الحداثيين الذين حاولوا تفسير المسرح وأنماط عمل الممثلين تمشيا مع بعض الافتراضات المتعلقة بوجهة النظر الحداثية للعالم. ويعد المعلم الروسي ستانسلافسكي وأنطونين أرتو وجيرزي جروتوفسكي وفيسفولد مايرهولد من المؤيدين الرئيسيين للمسرح الحديث بمحاولاتهم وضع تصورات لمقارباتهم المسرحية استجابة للتحيزات للمسرح التقليدي. فمثلا ستانسلافسكي قاده مشواره المسرحي لاستكشاف ادعاء خاص بحقيقة العلاقة الداخلية والخارجية للممثل. إذ واصل بحثه بدقة لاستكشاف هذه الحقيقة حتى يمكنه إبرازها علي السطح.
هناك جدل كبير بين المصطلحين الرئيسيين “المسرح الحديث modern theater” و“المسرح الحداثي modernist theater” بين علماء المسرح. فطبقا لروبرت ليش، المسرح الحديث هو مسرح اليوم. ويشير المسرح الحداثي إلى أربعة أو خمسة عقود في القرن الماضي. ورغم ذلك فان حجة ليش هي أن المخرجين الحداثيين مثل ستانسلافسكي ومايرهولد وبريخت وأرتو هم المنظرون الأساسيون الذين طوروا المسرح الحديث أو المسرح الطليعي في القرن الماضي. وجادل كذلك بأن :
الحداثة خلقت الطليعة : أولئك الذين لم يقدموا فقط مادة جديدة للفن، ولكنهم فعلوا ذلك باستخدام أساليب وأشكال جديدة . وقد كانوا الرمزيون والمستقبليون والتعبيريون والتجريديون، وكل المجددونالآخرون في ذلك العصر.
وقد كان لهؤلاء المؤيدين الرئيسيين للمسرح الحداثي تأثير لا يمكن انكاره علي العديد من ممارسي المسرح المعاصرين ولا يزالون مؤثرين حتى اليوم. وقد كان لتراث ستانسلافسكي الأثر الكبير علي تدريب الممثل في المسرح وصناعة السينما منذبداية القرن التاسع عشر وتطور منهج ممارسة التمثيل النفسي. وقد أثرت صياغة مايرهولد لمنهج البيوميكانك biomechanics ومسرح القسوة عند أرتو في تطورات المسرح البدني المعاصر وفنون الأداء الأخرى. وقد أثر مسرح جروتوفسكي الفقير ومفهوم «عن طريق النفي via negative «، كما قال ريتشارد شيكنر، في الكثير من الجماعات المسرحية – الشبيهة بالتموجات الناتجة عن إلقاء حجر في الماء. إذ احتضن التجميع المجزأ للنصوص ورفض النص الدرامي باعتباره مركز العملية الابداعية حركة ما بعد البنيوية في أوروبا وأمريكا. والأهم أن تراث بريخت المسرحي قد أثر في المسرح النسوي المعاصر ومسرح المقهورين الذي صاغه المخرج البرازيلي أوجستو بوال والتطورات اللاحقة في المسرح بعد الدرامي.
عموما، لقد وسع المسرح الحداثي الفرضيات المسرحية الأرسطية مثل افتراضاته الأساسية عن “التمثيل المحاكاتي mimetical representation” وارتباطه بالعالم الخارجي. وكما يجادل ديفيد بينيت، فان المفهوم الدرامي التقليدي هو أن الدراما هي التمثيل ويعيد صياغة هذه القيم التمثيلية في الزمن والمكان. وقد اعتقد المخرجون الحداثيون بأن المسرح يمكن أن يكون حيويا من خلال التكرار الرمزي للواقع الاجتماعي علي خشبة المسرح. وبالتالي، اعتقد بريخت والمخرجون الآخرون، إلى حد كبير، بأن هناك حقيقة إنسانية/فردية /اجتماعية أو روحانية في العالم، وأن الحقيقة التي لا يمكن بلوغها يمكن أن تتجسد من خلال المسرح. وعندما يعتقد بريخت أن المسرح رمزي، فهذا يعني أن المسرح يمثل الحقيقة الاجتماعية أو أنه يحل محل شيء آخر في العالم. ولبلوغ هذه الحقيقة المسرحية (أو الوعي الحقيقي)، فان وسيلة النقل التي استخدمها كانت مهنة التمثيل. وقد اعتقد كل الحداثيون أن تفسير عمل الممثل ومناهجه من خلال وسيلة داخلية أو خارجية من المحتمل أن يساعد المخرج للوصول إلى هذه الحقيقة النهائية (أو وفقا للمصطلحات البريختية، الكشف عن الوعي الزائف). ليس فقط بريخت، ولكن المسرحيين الحداثيين مثل ستانسلافسكي وأرتو ومايرهولد أو حتى جروتوفسكي، اعتقدوا أيضا أن الممثل هو جوهر استكشافهم المسرحي. ومنذ ستانسلافسكي حتى الآن، قام هؤلاء الطليعيون بتجذير الطريقة التي ندرك بها عمل الممثلين في الأداء المسرحي. فمثلا، اعتقد ستانسلافسكي أن الممثل هو الوسيط الوحيد في التجربة المسرحية وحاول أن يفسر ويؤكد الحاجة إلى فهم الممثل كمبدع. وقد وسع جروتوفسكي تصوره وأقترح مركزية الممثل المقدس كمبدع في التجربة المسرحية. وقد تحدى بريخت الطرق التي كان يُفهم بها الدور التقليدي للممثل في المسرح الغربي، وأقترح نموذجا للتمثيل لا يقوم علي المحاكاة. علاوة علي ذلك، كما اقترحت سابقا، لقد كان بريخت يبحث عن حقيقة معينة، أو تحول اجتماعي، واعتقد أن هذه الحقيقة يمكن أن تكون متاحة وقابلة للتغير من خلال المسرح وتلاعبه بالأيديولوجيا الحاكمة.
وعلي الرغم من أن هذا يمكن أن يكون مكررا، فإنني يجب أن أناقش باختصار المفاهيم الأساسية التي طورها بريخت لكي يصوغ مسرحه الجديد. فقد تم استكشاف أفكاره ونظرياته في صناعة المسرح ونوقشت بشكل موسع عالميا. ورغم ذلك فمن المهم لنا أن نتأمل المبادئ الأساسية لانعاش النقاش حول بريخت، وتأثيره وأهميته للمسرح المعاصر.
تأثير الاغتراب :
كما هو معروف، فان بريخت يشتهر، كما يساء فهمه بشكل سطحي، بسبب مفهومه عن تأثير الاغتراب Verfremdung. وقد صاغ بريخت هذا المصطلح أولا عندما كان يزور صديقه سيرجي تريتياكوف في موسكو. وفي هذا الوقت، كما يقترح ليش، كان بريخت عرضة للحركة الشكلية في روسيا، والتي كانت تعتقد أن وظيفة الفن هو جعل الناس ترى العالم بشكل جديد. وقد أثرت هذه الأفكار الشكلية واستكشافه المستمر للمسرح الجديد ولقائه مع المسرح الأسيوي، ومن أبرز نماذجه مي لانج فان Mei Lang Fan الممثل بمسرح أوبرا بكين، علي مفهومه حول المسرح الملحمي. وقد ساعدته الفكرة الشكلية، وهي « رؤية شيء جديد « في رؤية أن المسرح يمكن أن يستخدم لاعادة بناء الطرق التي يشاهد بها الجمهور العالم ويفسر الظواهر الاجتماعية. وكما يقول روبرت ليس، يمكن صياغة فكرة بريخت حول تأثير الاغتراب باعتبارها : طريقة لتوضيح صخرية الصخرة. ولكن بريخت لم يتوقف عند هذه النقطة ولكنه أضاف بعدا آخر. علاوة علي ذلك يجادل بريخت بأنه «كان مجرد إزعاج، شيء تدوس عليه بأصابع قدمك، أو يمكنك استخدامه لمكافحة شرطة الشغب، أو تبني به حاجز؟» وهذا يعني بوضوح أن بريخت يريد نقلة نموذجية في الحكم الجمالي لرواد المسرح، ولكنه أراد أيضا أن يستدعي المتفرج تجاه نوع من التفاعل النشط. ولذلك، فان المتفرج في مسرح بريخت ليس مجرد مشاهد سلبي للمسرحية ولكنه مشاهد ناقد يمكنه أن يشارك بفعالية في التجسيد المسرحي ويغير موقفه مع التجربة المسرحية. إذ يرفض بريخت بعض المبادئ المسرحية التقليدية لكي يبتعد عن الإيهام الدرامي الذي تقدمه.
فكرة الحائط الرابع المتخيلة تفصل خشبة المسرح عن الجمهور والفكرة التي تنتج الإيهام الذي يقع فيه الحدث بدون المتفرجين، يجب تركها .
ومادام الأمر كذلك، فمن الممكن أن يتجه الممثلون مباشرة للمشاهدين.
وفقا لبريخت، المسرح الذي لا يقدم مشاركة للمتفرج والممثل والذي يقوم علي الإيهام لا يقود المتفرج إلى حكم نقدي. إذ سماه «مسرح الطهي Culinary theater». فهذا النوع من المسرح يتطلب من المتفرج أن يعلق عقله مع معطفه في الغرفة المعدة لذلك. وبدلا من ذلك أراد من متفرجيه أن يكونوا قراء يقظين يمكنهم عبر فحص ما يشاهدونه ويعيدون قراءة ما يحدث علي خشبة المسرح. وهذه المشاركة الثنائية للمتفرج تؤثر في التجسيد المسرحي وبالتالي تغير الوضع من المشاهدة إلى المشاركة النقدية فيما يرونه.
.....................................................................................
مايكل فيرناندو يعمل أستاذا في جامعة بردينيا في سيريلانكا
هذه المقالة هي محاضرة ألقيت في جامعة ريجينا أفي دا ايمي