التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (14) مسرح المهمشين

التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (14) مسرح المهمشين

العدد 805 صدر بتاريخ 30يناير2023

من تعريف المُهمش .. ما هو خارج الطبيعة المعروفة! وبناء على ذلك أقول: إن من الطبيعي والمعروف أن يُمثل يوسف عز الدين، وفوزي منيب، وعلي الكسار في مسارح روض الفرج، لأن تاريخ المسرح في روض الفرج ارتبط بهم!! وبناء على ذلك أقول أيضاً: إن من الطبيعي والمعروف أن العروض المسرحية تُقام من قبل فرق هؤلاء في مسارح كازينوهات مونت كارلو، وسان أستفانو، وليلاس، لأنها المسارح الطبيعية والمعروفة في روض الفرج!! وهذا يعني أن أي فنان غير هؤلاء .. يُعد من المُهمشين!! وسواء كنت مُصيباً في هذا التفسير أو غير مصيب، فإن غرضي من ذلك هو التطرق إلى أشخاص مثلوا في روض الفرج لم نعرف أنهم مثلوا بها، وقاموا بالتمثيل في بعض أماكن لم نسمع بها من قبل!! أي إنني أردت أن أشير إلى تاريخ مهمش داخل تاريخ مجهول لم يُعرف ولم يُكتب عنه من قبل!!
أول المهمشين كان الشيخ «أحمد الشامي» - ورغم أنه مهمش فقط في روض الفرج من وجهة نظري – إلا أن أول خبر عنه يُعدّ أول خبر وجدته على الاطلاق خاصاً به في روض الفرج!! وأعلنت عن نشاطه جريدة «الأخبار» في صيف عام 1922 قائلة: «التمثيل المدهش بين الأشجار والرياحين في الهواء الطلق في المحل الجديد الخاص بالطبقات الراقية والعائلات الكبيرة. قد اتفقت إدارة كازينو مونت كارلو الجديد بروض الفرج مع فرقة الأستاذ الشيخ أحمد الشامي الخصيصة بتمثيل الروايات العصرية الراقية. التمثيل كل يوم من الساعة 7 مساء».

كازينو ميرامار
هذا الكازينو ظهر بعد الكازينوهات الثلاثة المعروفة – مونت كارلو، سان أستفانو، ليلاس – ونجح «محمد إدريس» - الذي مرّ علينا اسمه من قبل - في العمل فيه بفرقة متواضعة بعد أن ترك فرقة فوزي منيب الذي كان يعمل مطرباً فيها. ونشرت جريدة «السيف» أول إعلان عنه في صيف 1923 قائلة: كازينو بارك ميرامار بروض الفرج تمثل فيه فرقة محمد أفندي إدريس المطرب الشهير كل ليلة من 6 إلى 10 روايات هزلية وألحاناً ومنولوجات. وترقص الممثلة الأولى مدام ماري رقصاً بديعاً.
حقيقة لا أستطيع أن أحكم على هذه الفرقة بالنجاح أو بالفشل لتناقض ما هو مكتوب عنها!! فمثلاً وجدت الناقد «محمود طاهر العربي» - بعد ثلاث سنوات – يقول في مجلة «ألف صنف» في صيف 1926: «بارك ميرامار، ويقولون عنه أيضاً تياترو إدريس، وهو يكاد يكون حسن السمعة، لولا اختلاط ممثلاته في أوقات الاستراحة بجمهور المتفرجين، يفتحون لهن الزجاجات، ويا بخت من نفع واستنفع! كذلك أوجد صاحب المحل امرأة على «الكيس»، مهمتها مجانسة الضيوف وملاطفتهم ومعاونتهم على مأموريتهم! أما أنه موضع للصيد والمغازلة فهذا ما لم يوفق إليه بعد!!
بعد أيام نشر «عبده ميخائيل» كلمة في مجلة «ألف صنف»، وجهها إلى الناقد «محمود طاهر العربي» - وهو رئيس للتحرير - قال فيها: سيدي المحترم رئيس تحرير ألف صنف الغراء: تحية وسلاماً، أطلعت على مقالاتك الشيقة بخصوص روض الفرج فأطربني ما جاء بها من الحقائق وأعجبتني فيها صراحتك. ولقد حدث لي ليلة الخميس 3 يونيو الحادثة الآتية، التي أرجو إن تفضلتم بنشرها. رأيت أن أروّح على نفسي عناء التعب، فقصدت إلى روض الفرج، ودخلت محل ميرامار، وطلبت المشروب، وجلست قليلا، وكنت منتحياً جانباً منعزلاً، وإذا بسيدة أقبلت فتسابق كل جرسون إلى خدمتها. وبعد قليل جلس إلى جانبها أفندي نظيف. ودارت الخمر ولعبت الكاسات بالرؤوس، وحدث بين السيدة والأفندي من المحادثات ما أخجلنا نحن المتفرجين الذين ساقهم سوء الحظ إلى الجلوس جوارهم. واضطررنا أن نترك محلاتنا وروض الفرج كله إكراماً لذلك. ولشد ما آلمنا، تألم رب عائلة كان معه اثنتين من الآنسات وكن في غاية الخجل، ثم انصرفن أخيراً وتركن روض الفرج ومن فيه ساخطات لاعنات مصير الآداب. [توقيع] عبده ميخائيل دبلوم عالي هندسة.
وبعد أسبوع نشر الناقد «محمود طاهر العربي» – ورئيس تحرير مجلة ألف صنف – مقالة مهمة شاملة عن الفرقة تحت عنوان «بارك ميرامار»، قال فيها: يكاد يكون هذا المكان منعزلاً عن روض الفرج، فهو يمتاز بالهدوء والسكون والاستقامة والتحشم. وقد سبق إني لفت نظر مديره محمد أفندي إدريس إلى وجود سيدة على «الكيس» لا يُحسن وجودها لما حولها من ريبة، فأذعن للنصيحة وأبدلها برجل. وبقي لنا ملاحظة لحضرته، وهي أن يتفرغ للتمثيل وحده حتى يتسنى له بلوغ شأو حميد فيه، فإن انصرافه إلى إدارة الصالة والعناية بالجمهور وملاحظة طلباته ومشروباته، تحول دون إجادة عمله الآخر، وصاحب بالين كداب!! وهو فضلاً عن ذلك مطرب الفرقة وشاب في غاية النشاط.
ثم تطرق الناقد إلى تعريف القراء بأعضاء الفرقة، وهم: «مصطفى أفندي غزالة» وهو ممثل قديم معروف يقوم بدور البطل في كل رواية تمثل، ويحسن تقليد شخصية البربري، وله ميزة خاصة باستنباط النكات على المسرح. «حسين أفندي إبراهيم» ممثل نابه في فرقته يجيد إلقاء المونولوجات، وهو محب للظهور، مجتهد ميال للتقدم عنيد غيور على عمله. ولولا صلابة في خلقه لتقدم في عمله كثيراً وظهر. «محمد أفندي صادق» ملحن وممثل يكاد يكون عماد الفرقة لأقدميته فيها فقد قضى خمس سنوات متوالية لم ينتقل منها إلى غيرها. «حسين فياض» هو رئيس ملحني هذه الفرقة له صوت قوى، يعد بخمسة أصوات، وهو نشيط قائم بعمله خير قيام ويمثل أيضاً بعض الأدوار. «عبد الحميد» هو طالب بالمدارس الثانوية وهو من هواة التمثيل الذي يرجى لهم مستقبل حسن فيه. «أحمد عاشور» ملحن ومختص بتمثيل أدوار الخفراء والعساكر، يتقنها لدرجة لا بأس بها. «منيرة كامل» تعد من أقدم الملحنات والممثلات وهي عمد الجوق. «هانم محمد» فتاة رشيقة راقصة وملحنة. «شفيقة جبرا» وهي ملحنة خفيفة الروح ولها صوت مقبول وقد عملت في بعض الفرق الكبرى.

رتيبة أحمد
مرّ علينا اسم «رتيبة أحمد» كونها مطربة تغني في مقاهي روض الفرج الملحقة بالكازينوهات، وتحديداً في مقهى كازينو ليلاس!! وبناء على ما نشره الناقد «محمود طاهر العربي» - في مجلة «ألف صنف» - نتأكد بأن السمعة السيئة التي كانت تلاحق أصحاب الفنون المقدمة في كازينوهات روض الفرج، سببها ما يُقدم في المقاهي وليس ما يُقدم في المسارح!! وأعتذر للقارئ من الآن عن الألفاظ – غير اللائقة – المذكورة في الكتابات التالية، وتعمدت أن أحذف الألفاظ الصارخة المستهجنة، وتركت أخفها وطأة!! لأنها حقائق تاريخية يجب أن نعلمها - طالما نتحدث عن المهمشين في روض الفرج - كونها حقائق مجهولة!!
نشر «السباعي أبو طالب» - أحد زبائن روض الفرج في منتصف يونية 1926 بمجلة ألف صنف – كلمة قال فيها: «مررت يوماً بروض الفرج، وبعد أن قطعته طولاً وعرضاً التقيت في قهوة «رتيبة أحمد»، وذلك من أسبوعين وتصادف أنها كانت سايقة الدلال على الآخر، أو كان مزاجها منحرفاً، فكان كل من الحضور من يستعطفها حتى تسمح «بدور»، ويشجعها أبو علي؟! إلى آخر يقول لها «أنزلي». فتوسط في الأمر «ضابط بوليس» بنجمتين، وهمس لها بكلمتين اعتلت بعدهما المرسح، فمد يده بعصاته، فأخذتها وتمايلت وراحت وغنت! فقام ووضع طربوشه على رأسها وجلس معجباً، كمن فاز في معركة حربية، في الحدود السودانية؟! أو سواحل جغبوب المصرية الإيطالية! وغاب عنه أنه أمام «رتيبة أحمد»! ألم تكن العصا من المهمات الحكومية الواجب احترامها؟! وألم يكن الطربوش ممثلاً لشرف الحكومة يتحتم أيضاً صيانته من كل ما يشوه سمعته؟! ولكن هكذا يفعل أحد رجال البوليس على مشهد من الناس».
أما الناقد «محمود طاهر العربي» فقال: «.. كنت ماراً مع زميلي في روض الفرج كعادتنا في ارتياده، فأستوقفنا منظر أمام القهوة الملحقة ببار ليلاس، والتي كانت تغني فيها «رتيبة أحمد» وخلفها ثلاث شاميات قذفت بهن الشام إلى جارتها مصر. أستوقفنا زحام الناس في ذلك المكان والبوليس يدفع بهم إلى داخل القهوة أو الانصراف عنها. ولم تستوقفني لسماعهن رقة صوت أو جمال سمت! فقد كن ذوات أصوات منكرة، ووجوه مقفرة من جمال أو خفة دم! هن دُمى من الشمع أو الرخام أو لحوم في هدوم، تزفر عن شهيق وتشهيق عن نعيق أجسام قد لا تأتى لها على طول ولا عرض! تهتز اهتزاز الأنعام، وتتهدل كالنعام، ثم تضرب بقدميها الأرض لتستثير الناس حماساً. والجمهور مشدوه كمن أستحوذ عليه الشيطان، أو تملكه مسّ من الجان. مسكين جمهورنا المصري يقف أمام هذه الكومة من اللحم، تهتز بطنها فتثير شجنه، وتحرك ثديها فيصفق طرباً وعجباً. ولو أن هناك شيئاً من سلامة الذوق وطهارة النفس وجمال الحس لفر الناس من هذه المناظر البهيمية، ولتقززت لها نفوسهم! فأي وجدان لا يميز بين تغريد البلابل، ونعيق البوم والغربان. وأين نحن من الغربيين، ينشأ طفلهم ويدرج من مهده وقد تغذت جسمه من اللبن. وأنك لتجد في أفقر بيوتهم البيانو أو غيره من آلات الطرب! أدوات حيوية لا غنى عنها! لا يقل احتياجهم إليها عن الغذاء أو الماء أو الملبس والهواء. فمن ذلك يشب الطفل وقد رق حسه وصقلت نفسه وأنجلى تمييزه حتى إذا بلغ من العمر ما يستطيع معه أن يعزف بنفسه على إحدى آلات الطرب تمت نعمه الله عليه بالذوق السليم والشعور السامي»!
واستدرك الناقد في كلامه، قائلاً: : والآن استميح القارئ وقد شططت عن الموضوع! وقفنا بقدر ما انتهت أغنية شامية لذ لزميلي الأستاذ «بديع خيري» أن يأتي على آخر معناها، وحاشا أن أقول معناها، فإن لزميلي من رقة الإحساس وسلامة الذوق، ما ينبو بمسامعه عن تسقط مثل هذه الأغنية. على أننا ما هممنا بالانصراف حتى أعترضنا الخواجة «ميتشو» وهو يصيح بنا: أيوه! أيوه! ماله متشو؟ أيه عمل متشو؟ هو متشو بطال؟ حرام عليكم. ثم أخذ يحلف ويقسم بالله والنبي وبرأس سعد [أي سعد زغلول] أنه بريء مما نسب إليه، وأنه ليس له في العير ولا في النفير، فما هو بصاحب مسرح ولا مدير، ولكنه رجل أجير مهمته المحافظة على النظام في صالة المسرح. ثم دعانا ودعانا بشدة وإلحاح إلى أن ندخل معه نشاهد مبلغ التحشم والأدب في كازينو ليلاس، وقال الحمد الله أنتم جيتم على غفلة .. إذا كنتم تشوفوا أمر بطال أو حاجة وحشة شوف شغلك. قلنا ولكن الفضل في ذلك ليس لنزاهتك، ولكن لرجال البوليس الذين انصتوا إلى شكايتنا ولبوا نداء - ألف صنف - فهبوا لنصرة الآداب والأخذ بناصية الفضيلة التي ضجت واستغاثت، حتى بلغ أنينها عنان السماء. ألا تذكر يا خواجة متشو والعهد ليس ببعيد كيف كانت تنتهك الحرمات وتتبذل الكرامات هنا في ليلاس، وفى غير ليلاس، وعلى مشهد من البوليس وأعين الناس. أما وقد نشط أخيراً حضرة ضابط المباحث الجنائية بقسم شبرا، وضابط نقطة الساحل وضربا على أيدي العابثين بيد من حديد، وأقاما هناك في كل ناحية من الروض شبحاً رهيباً من سطوة البوليس. فقد بدأنا نطمئن على أخلاقنا وترتاح نفوسنا على كرامتنا. وإني بهذه المناسبة أسدي الإنسانية والفضيلة أجلّ الشكر إلى ضابط قسم شبرا لتلبيته نداءنا أو نداء الواجب وتطهير روض الفرج بمطاردة الكثيرات ممن اتخذته عشاً، يدرجن إليه، إذا أمسى الليل. وقد شاهدت كثيراً منهن يسوقهن رجال البوليس والخفراء إلى نقطة البوليس لعمل محاضر التحري لهن. ونذكر رجال البوليس والقائمين بالأمر بوجوب المثابرة على هذه الهمة مثابرة تجعل المفسدين لا يقرون على حال، ولا يهدأ لهم بال. وبينما نحن في جدلنا مع الخواجة متشو أقبل علينا الخواجة «نيقولا» وكنت علمت أنه يبيت لي الشر، ويريد أن يتحرش بي، ولكنه قال بعد التحية: أعمل معروف شوف من أول وجديد إن فيه شيء بطال، عشان الشرف أكتب زي ما تحب وأنا مش نكون زعلان. ثم أفهمنا بما معناه أنه لا يرى من مصلحته أن يترك محله مسرحاً للرذيلة، فإن ذلك ينفر عنه الزوار، ويبغض فيه العائلات. ثم ألقى بكلمة حكيمة جعل فيها تبعة كل ذلك على رجال البوليس الذين نعتد أحياناً همتهم في المراقبة واليقظة فينتشر الفساد. وأنه هو كصاحب محل ليس له من السلطة ما يمكنه من رفض أو قبول أية امرأة متهتكة ما دامت تدفع له قيمة الجلوس عنده! وأخيراً انصرفنا على أنه إذا عاد عدنا، وأنه لن يثنينا عن القيام بواجبنا!!


سيد علي إسماعيل