الصراع النفسي في مسرحية «امرأتان» للسيد حافظ

الصراع النفسي في مسرحية «امرأتان» للسيد حافظ

العدد 804 صدر بتاريخ 23يناير2023

يفتتح الكاتب المسرحي السيد حافظ مسرحيته «امرأتان» بحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين «هدى» و«سنية» الشقيقتين اللتين تعيشان بمفردهما بعد وفاة والديهما، تعاني الامرأتان من الوحدة في ظل غياب الرجل الذي يجب أن تحتميا به، وتبحثان عنه في حواراتهما، كما لا تستطيع أي منهما إخفاء الخوف الناجم عن تلك الوحدة والصراع النفسي الذي تعانيان منه، تكشف هاتان الشخصيتان تاريخ تلك الأسرة وكيف أن كل واحدة ترى العالم من خلال عينيها وخصوصا شخصية الخال الذي فر من مصر ليعيش في امريكا منذ عشرين عاما عقب تعرض الفتاتان لعملية نصب من شريك أبيهما على ميراثهما في الشركة التي كان يمتلكها من أبيهما، وحينما تعرفان من خلال الصحيفة أنه راجع وهو رجل الأعمال الثري تتغير الأحوال وينظر إليهما المجتمع بصفتهما تنتميان له ومن المؤكد أن حياتهما سوف تتغير إذ سوف يرجع لهدى خطيبها مصطفى طمعا في الثراء المتوقع من زواجه بها. كما يتصل بهما محامي الشركة ويطلب منهما الحضور لاستلام مستحقاتهما.
تتضح من خلال الأحداث أن شريك أبيهما يحتاج لزراعة كلية وينشر خبرا في الصحيفة للعثور على متبرع، فكشفت عن الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تعيش فيها الشقيقتان والتي ساهمت في تصاعد الحدث الدرامي والوصول إلى أقصى درجات التحجر العاطفي إذ جاء على لسان سنية:
سنية: الواحد لما لما يبقى جنب الموت بيشوف العالم بشكل تاني.
يلعب السيد حافظ على تيمة الحلم وهو وصول الخال من أمريكا ليغير الأوضاع الاجتماعية والنفسية التي يمكن أن تساعد على تغير شكل الحياة مع الشقيقتين اللتين بنتا ذلك الحلم طول النص، وهو ما جعلهما تهتمان بتغيير منظر المنزل انتظارا لوصوله، كما تتفجر من خلالهما قضية المجتمع الانتهازي الذي يستطيع أن يحطم كل من يقف أمام القوي، ويتبدى لنا أن القوى قد يكون رجلا غير ثري مثل عم سليمان الذي يأتي لهما بمتطلبات البيت من خبز وخضروات وفاكهة لتصل الأحداث إلى رغبته في تزويج ابنه البالغ من العمر تسعة عشر عاما وهو ما مقتته الشقيقتان إذ أنهما تبلغان من العمر أكبر من ذلك الصبي الذي يريد أبوه تزويجه.
يقول رومان انجاردن: إن الكلام الذي تنطق به الشخصيات يشكل النص الرئيسي لمسرحية ما، وتشكل الإرشادات المسرحية التي يعطيها المؤلف النص الثانوي، بينما ترى آن أوبرسفيرالد أن النص المسرحي يتكون من قسمين متمايزين، لكن لا يمكن الفصل بينهما وهما، الحوار والإرشادات المسرحية. استطاع السيد حافظ في مسرحيته «امرأتان» أن يحمل الحوار المسرحي وخصوصا حوار الشقيقتين مسألة نمو الحدث المسرحي بشكل معتدل وبهدوء دون صياح، وكشف عن معاناة نفسية كبيرة تحملها هاتان الشقيقتان في دواخلهما، وساعد ذلك الحوار إلى تفجر الصراع النفسي بينهما والذي تؤيده الشخصيات الغائبة التي لعبت دورا في وجود تلك المعاناة النفسية مثل الخال وشريك الأب والخطيب المحتمل، وجاءت الارشادات المسرحية لتغلف الحوار وتؤطره وتساهم في تغير الحالة النفسية ومرور الأيام مثل وجود لافتة أعلى خشبة المسرح لتدل على اليوم وتغيره. جعل السيد حافظ هذين العنصرين مندمجين معا للوصول إلى النهاية دون تغيير ملحوظ في المنظر. 
إن قوة المسرح تكمن في أن العالم المتخيل فيه يقوم على ركائز واقعية وترى ماري كلود هوبرت أنه من غير المجدي أن نبحث عن وجهة نظر الكاتب المسرحي من خلال نصه، لأن الكتاب المسرحيين لا يعطوننا عادة أجوبة عن الأسئلة التي يطرحها معاصروهم، رغم أن مسرحياتهم هي صدى وانعكاس لقضايا عصرهم. يناقش السيد حافظ في مسرحيته «امرأتان» قضايا اجتماعية من خلال الشخصيتين الرئيسيتين والعلاقات المتشابكة ومسألة العزلة المفروضة عليهما ونتائجها، إذ فرضت عليهما الحياة العيش بمفردهما وبحثهما عما يطور من حياتهما، عن ذلك الرجل الذي يغير من برودة العلاقة بينهما، تبحثان عن الكلب في نهاية المسرحية وهو الذي كان مزعجا في بدايتها.
يقول بيتر بروك: «يجب ألا يكون المسرح غبيا بليدا، ويجب ألا يكون تقليديا، ويجب أن يكون غير متوقع، إن المسرح يقودنا نحو الحقيقة من خلال الدهشة، من خلال الإثارة، إنه يجعل الماضي والمستقبل جزءا من الحاضر. بحثت الشقيقتان في مسرحية «امرأتان» عن الماضي الذي لم يكن الحاضر نتيجة حتمية له إذ كانتا تعيشان في وضع اجتماعي فاخر؛ في منزل كبير يحتوي على حديقة ويحسدهما الجميع عليه، لكن طمع الشريك واحتياله على نصيبهما وضعهما في موقف غريب، كما أن توقع وصول الخال الذي كانت إحداهما تكرهه جعلهما تبحثان عنه وتنتظران وصوله بشكل مثير إذ أن وصوله سوف يغير من وجه حياتهما بشكل جذري، وأن الماضي المتمثل في الخال والخطيب المنتظر لهدى سوف يكونان الحاضر الذي تعيشه هاتان الشقيقتان.
العتبة البصرية عبارة عن لوحة تعبيرية يتربع فيها اللون الأسود على أركانها ويحمل في ذاته دلالات ومعانٍ عديدة، إذ يفرض نفسه وكأنه يؤكد على المقاصد الفنية التي جاءت به، أو أنه اللون الذي لا يمكن أن يقبل في نسيجه أي لون آخر حتى لا يخفض من قيمته ويُنكر غايته الكبرى، صورة امرأتين تنظر كل واحدة في اتجاه مغاير، إحداهما بشعرها الأسود والأخرى بشعرها الفضي، نظراتهما منكسرة، إذ تعبر تلك النظرات عن حالة نفسية مرتقبة تعيشها هاتان المرأتان وسوف يكشف عن ذلك النص، هذه الصورة تحفز المتلقي وتعده بنص مختلف سوف يطوف به في النفس البشرية ليحاول الكشف عن أحلامها وارتباكاتها في ظل عالم جاحد، وبرغم أن المرأتين ملتصقتين في الغلاف إلا أن كل واحدة تمتلك فكرا وتوجها مختلفا حول العالم وحول الشخصيات المرتبطة بهما. جاءت العتبة اللغوية، العنوان: «امرأتان» فمن الناحية التركيبية، يمكن أن تعرب «امرأتان» خبرا لمبتدأ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف، مكتوبا بخط يهمين بتشكيلاته على تركيز المتلقي حينما يقع بصره عليه وباللون البرتقالي الذي يتوسط الغلاف حتى يقتل اللون الأسود في ساحته ويتصدى لسطوته البصرية التي فرضها من قبل، فضلًا عن أن العنوان يمثل بعدًا رمزيا بينما تتعانق في الغلاف الفكرة والزمن والشخصيات لأننا نكتشف العلاقة القوية التي تربط العتبة البصرية بالعتبة اللغوية فتتماهى الفكرة وتتجلى الدلالة حينما نكتشف أن عبارة امرأتان مكتوبة باللون البرتقالي بينما الخلفية تتشكل باللون الأسود والأبيض معا وهذا ما تعبر عنه العتبة البصرية.
 جاء عنصر المكان متغيرًا ومتقلبًا ومواكبًا للأحداث، معبرًا عن كل شخصية تتواجد فيه برغم أنه جاء مختصرًا إذ لم يسهب المؤلف في وصفه نظرًا لأهمية الحدث المسرحي وضرورة تناميه، وأن عنصر المكان بأحداثه يمكن أن يتكرر في أي عصر آخر بشخصيات أخرى. أما الانتقال الزمني من وقت لآخر، برغم امتزاجه مع عنصر المكان، لا يسبب قلقًا لدى المتلقي لأنه انتقال سلس ومبرر ويُعيد تشكيل الأحداث بشكل منطقي ويكون له دلالة واضحة للتأكيد على تنامي الحدث، إن تضافر عنصرى المكان والزمن المسرحي قد حقق التكامل في حالة الإيهام التي جاءت لتضع المتلقي في رهان اللاوعي ليندمج مع الشخصيات تماما ومع ما تقوله.
لا يحدد كاتبنا المسرحي الشخصيات في مستهل المسرحية التي سوف يكون لها أبعاد درامية، لكنه بدأها مباشرة بوصف المنظر ثم الحوار الذي دار بين الشخصيتين الرئيسيتين وهما “الشقيقتان” أو “المرأتان”، وربما كان المقصد من وراء ذلك كشف تناقضات هاتين الشخصيتين وهي تتطور والأصوات المنبثقة منها والتي تتميز بالثراء الدرامي لتتفاعل مع الحدث؛ لكنا نستطيع أيجازها في “هدى” و”سنية” و”عم سليمان” والشخصيات الافتراضية التي تتحدث عنها تلك الشخصيتان” “الخال” و”مصطفى” و”الشريك” و”المحامي” والصحفيات.
يقول بيتر بروك في كتابه “نحو مسرح ضروري”: منذ أربعمائة سنة كان بوسع الكاتب الدرامي أن يحاول استحضار نمط الأحداث في العالم الخارجي، والأحداث الاجتماعية لأفراد معزولين ذوي نفسيات مركبة، والتجاذب العنيف لمخاوفهم وطموحاتهم في صراع مكشوف، كانت الدراما كشفا، كانت مواجهة، كانت تناقضًا Contradictions يستدعي التحليل والتعرف، لتؤدي في النهاية إلى إيقاظ الفهم. تتجلى كل تلك الصور في شخصيتيّ مسرحية “امرأتان” إذ نكتشف أن هناك طرفين للصراع بين الشخصيات التي رسمها السيد حافظ؛ الجانب النفسي بمخاوفه وطموحاته وتناقضاته والجانب الاجتماعي بجبروته وطموحاته وتناقضاته وارتباكاته، فضلا عن تلاحم الطرفين لصناعة الحبكة الدرامية والتي يتناوب من خلالها الحدث المسرحي في حدته من حالة إلى حالة برغم أنه متنامِ وكل مشهد يعتبر نتيجة طبيعية للمشهد الذي سبقه، وأن الصراع المكشوف الذي دار بين الطرفين بشدته يدل على أن حركة الشخصيات حسمت هذا الصراع وجاء الكشف الذي حدده بروك بأن انتهى الصراع إلى خروج الطرفين واستقرار الأوضاع لدى أصحاب المكان، كما أن جميع الشخصيات كانت فاعلة ومؤثرة وساهمت في نمو الحدث الدرامي.
جاءت اللغة في مسرحية “امرأتان” بالعربية العامية البسيطة والعميقة التي تصل إلى كل متلقٍ، وتحمل دلالات كثيرة كما أنها تؤسس للفعل الدرامي بشكل منطقي وتتغير حسب الحدث والزمن والشخصيات التي تنطق بها من خلال حوارات مكثفة وعميقة تتسق مع الدلالة التي جاءت بها ويمكننا أن نصفها بأنها لغة مرنة ودرامية، وتبرز قدرة السيد حافظ في تصوير أفكاره ونقلها إلى لغة مكتوبة، كما أن كل شخصية تتكلم بنسق لغوي لا يختلف عن الشخصيات الأخرى مما يؤكد على الوحدة اللغوية للمسرحية إذ استخدم كاتبنا البنية اللغوية المناسبة للمسرح والتي يفهمها كل متلقٍ، وتبين قدرته على صياغة الحوار المكثف الذي ينسجم مع الموقف في العبارة الدرامية، ذلك النسق اللغوي يرسم كل شخصية بشكل كبير للدرجة التي تجعل المتلقي مندمجًا في حالة التخييل التي تشارك كل شخصية في تشكيلها.
البناء الدرامي في مسرحية “امرأتان” جاء متوازنا مع النسق العام للحوار الذي كان له الفضل في تصاعد الحدث الدرامي كما كان متسقا مع اللهجة العامية التي يتحدث بها المصريون وإن كانت في بعض الأحيان تجنح إلى المحلية المصرية الغارقة ببعض التفاصيل الخاصة جدا. استطاع الكاتب المسرحي أن ينقل إلينا الحالة النفسية لكل شخصية بلسانها دون تردد. إن الحدث المسرحي الذي بدأ في منزل الشقيقتين كان له الدور الأكبر في البناء الدرامي بشكل مكّنه من الوصول إلى قمة الحالة النفسية للشخصيتين الرئيسيتين وواكب ذلك التنقل بين الأمكنة المحدودة والأزمنة القصيرة بشكل سلس. 
يعتبر المنولوج تكنيكا مسرحيا رفيع المستوى إذ يعلي من شأن الحوار وقد استخدمه شكسبير في مسرحية “هاملت”، انتشر المونولوج المسرحي بصورة كبيرة بعد ظهور مدرسة التحليل النفسي التي تعتبر هي البداية له من خلال تقديمها الكثير من المعلومات حول الشعور الانساني والتفجرات العاطفية الهائلة لديه التي كانت بمثابة بطاقة الدخول للعاطفة الانسانية. في مسرحية السيد حافظ “امرأتان” لم يستخدم المنولوح بشكل منفصل عن الحوار بل مزجه لدرجة التماهي فجاء على لسان سنية:
سنية: الناس تحب تشوف الدم وتشوف الانسان وهو مصلوب وبينزف وهما بيبتسموا.
اختصر هذا المنولوج القصير جدا الأزمة التي يعيشها المجتمع الذي يجلد مواطنيه لدرجة الفرجة على الدم وعلى رؤيتهم وهم مصلوبين حتى يهدأ باله. استطاع السيد حافظ أن يختزل أيضا حالة المرأتين في منولوجات قصيرة جدا ليضمن رؤاه حول الشخصيتين الرئيسيتين فجاء على لسان سنية:
سنية : أيوه أنا عندي أربعين سنة دلوقت.. ولا نسيتي يعني خالك راجع وهو عنده خمسة وستون سبعين 
سنة يعني علشان يحمل همنا.
سار النسق الدرامي في محاور ضيقة ولكنها تحمل معان كثيرة إذ كشف لنا أبعاد الشخصيتين النفسية التي تتمثل في همومهما إذ أن قطار العمر مضى بهما وهما في نفس المكان ولم تحقق أيا منهما حلمها بالزواج في سن أصغر، وجاء ذكر العمر ليؤكد على فكرة أن مرور الزمن لن يغير شيئا من الواقع المر. خلق الصراع النفسي لدى الشقيقتين صراعا دراميا ساهم في تصاعد الحدث الدرامي ووصوله للذروة إذ أن الكبت النفسي والعلاقات الخارجية التي تفصح عنها الأختان سببت لهما ضيقا نفسيا تفجر خلال الأحداث التي نتجت عن واقع مرير ومجتمع نفعي وسلطوي مما زاد من سلطة الصراع الدرامي.
قدم لنا السيد حافظ في مسرحيته “امرأتان” قضايا وأزمات المرأتين النفسية بشكل بسيط ولغة دارجة بسيطة تصل إلى متلق يعيش نفس الظروف أو على الأقل على درايه بها إذ أنك تجد بيتا واحدا يعاني منها وربما يشترك في أحداثها بشكل أو بآخر. نقل لنا الكاتب المسرحي حالة نفسية مكثفة في ظل حدث درامي شديدة الثراء وتنتهي بالضحك مع صوت الكلاب في فرح ابن عم سليمان لتكون النهاية مفتوحة لأنها تسير وفق قانون الحياة الذي لا يمكن أن تجد له نهاية تُرضي الشخصيات والمتلقي في آن واحد.


ترجمة عبد السلام إبراهيم