«مهاجر بريسبان» كثرة المال تكشف زيف المبادئ

«مهاجر بريسبان»   كثرة المال تكشف زيف المبادئ

العدد 737 صدر بتاريخ 11أكتوبر2021

يُعد نص مهاجر بريسبان للكاتب چورچ شحادة، واحدا من أكثر النصوص رواجا على خشبة المسرح، فقد قُدم على خشبات المسارح العربية كثيرا بتناولات مختلفة ورؤى متعددة، وهنا تكمن صعوبة أن يتم تناول النص من جديد على خشبة المسرح برؤية إخراجية تختلف عن سابقيها، وربما هو تحدٍ للمخرج الذي يُقبل على إعداد نص بات حضوره على خشبة المسرح أمرا متكررا، هذا التحدي الذي خاضه ونجح فيه بامتياز د. جمال ياقوت، حيث قدم ضمن فعاليات الدورة الرابعة عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري –دورة الكاتب المصري– من إنتاج فرقة الأنفوشي التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، العرض المسرحي «مهاجر بريسبان»، دراماتورج وإخراج جمال ياقوت.
تنطلق دراما العرض المسرحي من صدفة تدفع الأحداث، وينتج منها الصراع الذي تُبنى عليه دراما العرض، حيث يأتي أحد المهاجرين إلى قرية بلفنتو بحثا عن ولده الذي تركه دون أن يراه من قبل كونه نتاج علاقة محرمة، ولكنه يتوفى قبل أن يلتقي بهذا الابن المجهول، تاركا له شنطة تحوي خمسة ملايين من الدولارات، ومن ثم تنقلب حياة القرية رأسا على عقب، فحين يعلم عمدة القرية بهذا الحادث يبدأ في البحث عن أم هذا الابن حتى يحصل على إرثه، وتنحصر الشبهات في ثلاث من نساء القرية المتزوجات، وهنا يحتد الصراع بين الأزواج الثلاثة حيث يكشف الحوار الدرامي عن طبيعة علاقتهم وظروف زواجهم، وكذلك نكتشف من خلال حديثهم طبيعة شخصياتهم وأبعادهم النفسية، فهذا يشك ببراءة زوجته من هذا الفعل كونها كانت تعمل قديما بالرقص، والأخرى ترى أن زوجها دنس شرفها حين لم يقبل على قتل سكرتير العمدة حين اتهم زوجته وألصق بها هذا العار، أما الثالث فيرى أن زوجته بريئة لكنه أمر يحتاج إلى إعادة النظر، فالمبلغ كافٍ لإسعادهم، وهنا يكشف عن زيف مبادئه وطمعه في الحصول على المال حتى لو ألصق بزوجته تهمة كهذه ولو بالكذب، وتستمر ذروة الأحداث واحتداد الصراع بين الأزواج الثلاثة الذين يطول نقاشهم بمقتل الزوجة الأخيرة على يد زوجها وإلصاق التهمة بها حتى يحصل على المال، لكن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، فيجني الزوج ثمار طمعه بالتخلي عن المال لسكرتير العمدة حتى يحرره من حبل المشنقة وإخفاء فعل الصدفة، حيث جاء الحوذي بالمهاجر إلى قرية بلفنتو لحب الحوذي لهذه القرية، أما المهاجر فقد مات قبل أن يصل إلى وجهته المقصودة التي آتى إليها للبحث عن ابنه.
فنحن أمام خط درامي واحد رئيسي بُنيت حوله دراما العرض حيث زيف المبادئ والصراع لتحقيق الأطماع والرغبة في الحصول على المال الكثير حتى لو أدى هذا إلى إلصاق التهم المشينة بشخص أو حتى قتله لا يهم ما دام سيجني الكثير من الأموال. وإذا كان المحرك الرئيسي لأحداث العرض نتج بفعل الصدفة، فإنه نجح في الكشف عن ماهية العلاقة بين الأزواج الثلاثة، وكيف أنها علاقات فاترة مشوهة، وكذلك كشف الحوار الدرامي عن البعد النفسي الذي تخفيه الشخصيات الست في العرض المسرحي، فقد لعب الدراماتورج جمال ياقوت على تكثيف الأحداث والتدقيق في خط درامي واحد بنيت عليه أحداث العرض كافة، فقد ظهرت مهارة ياقوت في إعادة كتابة النص من خلال التركيز على الفكرة التي يريد طرحها على خشبة المسرح دون التطرق إلى أية خطوط فرعية، وكذلك وظف حذف الشخصيات لخدمة تيمة العرض حيث حذف شخصية العمدة وبقيت شخصيته حاضرة دراميا، ورغم أنه غاب جسديا فإنه بقي يدفع الأحداث في التطور من خلال إذاعة سكرتيره لقراراته دون أن يظهر على خشبة المسرح، وكذلك حذف ياقوت أحاديث أهل القرية حول ما حدث كونها لن تؤثر في دراما العرض واكتفي بأن يعكس رفضهم لما حدث من خلال الهمهمات التي تعكس حوراتهم الجانبية وتعبيرات وجوههم الغاضبة، فقد كثف مشاهد العرض لتبدو بصورة منضبطة دون أن ينجرف إلى مشاهد لم تُضِف شيئا إلى دراما العرض، وهنا يصبح التكثيف غير مخل بدراما العرض، بل بدت الدراما في صورة منضبطة دون خلل أو تشويش.
سبق وأن ذكرنا أن دراما العرض تبدأ فعليا من لحظة توجيه الاتهام للزواجات الثلاثة بأن إحداهن قد حملت بـابن غير شرعي، وأن زوجها ليس والده بل المهاجر، وبالتالي تقع أغلب مشاهد العرض بين الأسر الثلاث، وهنا تمكن من أن يمزج بينهم ليخلق منهم ثلاث كتل على خشبة المسرح يمين ووسط ويسار المسرح، ومن ثم بدأت كل زوجة تتحدث في خصوصية مع زوجها على حدة، ولكن لأن ما يؤرقهم واحد وصراعهم واحد أيضا، فقد بدوا في حالة تواصل ضمني، حيث جعلهم ياقوت يكملون حديثهم بالتوازي معا، فإذا تحدث أحدهم على الجانب الأيمن أجابته زوجته في الجانب الأيسر، وهكذا.
وقد وفق المخرج في استخدام أدوات السينوغرافيا وتوظيفها لخدمة رؤيته، فنجد إضاءة إبراهيم الفرن تُشكل تكوينات بصرية تساهم في أن تعكس طبيعة الحدث المؤدي على المسرح، التي بدت واضحة بمشاهد الأزواج حيث طوع خيوط الإضاءة بانضباط في خدمة المشهد، فلعب على إسقاط الإضاءة على الزوجين المتحدثين، بينما خفقت الإضاءة عند الاثنين الآخرين حتى يحين دورهما، وهو من المشاهد التي يصعب تحريك الإضاءة بها لسرعة تبادل الحوار الدرامي بين أطراف الصراع، لكنه نجح في أن يخلق صورة ديناميكية بانسيايبة التنقل بينهم بسرعة بدت بالقدر الكافي لتصنع منه مشهدا منضبطا، وكذلك خلق الفرن دلالات بألوان الإضاءة ترمز إلى طبيعة كل مشهد كـاستخدام الإضاءة الحمراء في مشهد قتل الزوج لزوجته. أما كريمة بدر فقد ساهمت بالكيوجراف في خلق حركات تتفق مع طبيعة الحالة التي يجسدها مشهد الأداء الحركي، وكذلك جاءت أشعار محمد مخيمر وموسيقى أسامة علي لتساهم في أن يبقى إيقاع العرض متناسقا، وإضفاء حالة من التطور السريع في الحدث بما يتفق مع طبيعة المشهد، وقد لجأ د. محمود سامي مصمم الديكور في خلق ديكور مسرحي ثابت، فضلا عن اللجوء لكثرة البلاك حتى يتم تغيير المشهد، وربما لو صنع هذا لأفقد العرض إيقاعه، وبدا مشتتا نظرا لسرعة تغير المشاهد، ولهذا قد نجح توظيفه للديكور لخدمة دراما العرض حيث استغل عمق المسرح بصورة مجسمة لشكل القرية التي تدور معظم الأحداث في باحتها، بينما استخدم جانبا من المسرح الأيمن في وضع السلم والشجرة التي وضعت بزاوية تبدو وكأنها جزء من الصورة الموجودة في الخلفية، فكان الديكور الثابت هو الأنسب لدراما العرض ومشاهده.
ولعل الأداء التمثيلي كان أكثر العناصر اللافتة للنظر التي تستحق الثناء ليس لقدراتهم التمثيلية وإتقانهم أداء أدوارهم بانفعالات ولزمات حركية متقنة، وليس لقدرتهم على أن يجسد كل منهم شخصيته بصورة تنم عن وعيه بطبيعتها وأبعادها النفسية التي بدت مباشرة من خلال أدائهم التمثيلي فحسب، ولكن لقدرتهم على تدراك كافة الأخطاء التقنية التي يقع بها الممثلون في الليلة الأولى، فطبيعة المسرح تحتم على الممثل أن ينتبه إلى أي خطأ تقني أو فني يحدث أثناء العرض ويتداركه بحرفية دون أن يتسبب في إسقاط إيقاع العرض أو حتى تشتت المتلقي عن حالة الإيهام التي من المفترض أن يزج بها المتلقي داخل العرض، وهو ما أدركه  كل من محمد سعيد في دور «سكارميلا»، ومها نصر في دور «لورا»، حيث استبدالا المايك المشوش أثناء شجارهما بطريقة بدت وكأنها جزء من الفعل المسرحي. 


رنا أبو العلا