«اللعبة» العرض الموؤود في المسرح المصري

«اللعبة»   العرض الموؤود في المسرح المصري

العدد 756 صدر بتاريخ 21فبراير2022

في حفل افتتاح الدورة الثالثة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي سبتمبر 1991 – قدم المخرج الشاب الراحل (منصور محمد) 1968 – 1991  عرضة “اللعبة” سيناريو :مصطفى عبد الحميد، موسيقي : مرسى الخطاب – تمثيل جماعي شارك فيه : (نبيل جلال، وجيه عجمي، خالد مطاوع، رفعت أبو ريان، لمياء الأمير، حمال إبراهيم، شريف صبحي، أمين عزت، أميمة العسكري، فاتن الجريدلي، علاء قوقه، صبري فواز) ـ وهو العرض الذي اطلق عليه الناقد الأكاديمي والمخرج (حسام عطا) – (مجلة المسرح) الأعداد من 29-32  أبريل – سبتمبر 1991 ص (25)) أنه (إشارة    خشنة وحيوية ويتحقق فيه جماعيه الأداء)، ويضيف أنه عرض شبابي، ويردف قائلا (حيث أننا سوف نعتمد علي دراسته الجادة حول لوحات هذا العرض) .. بما بأنه قد مر اكثر من ثلاثين عاما علي عرضه (1991) فنقول انه يحي قيمة المسرح كعمل جماعي عبر مفهوم هام هو مفهوم المعمل المسرحي، ويضيف أيضا (أن هذا العمل قد حقق القدرة علي تحقيق ذلك الخروج المدهش علي القاعدة رغم كل ظروف العمل القاسي)، وأنه محاولة البحث عن مادة مختلفة للصورة المسرحية بعيدا عن مسرح الأكليشية في مسرح الكلمات الملقاة أذا عيا، وعدم التمسك عند كاتب السيناريو (مصطفى عبد الحميد) بالتقاليد المسرحية القديمة، وأن العرض قد توجه نحو جمهور الصفوة أو جمهور الفئات الخاصة.. بعيدا عن المفهوم الخانق للتجريب باعتبار (العمل) – يتسم بروح الانفصال والغرابة، وأن المسرحية اعتمدت أصول المايم الأولية الخشنة وأنها لا تستخدم لغة الجسد المتطورة في إطلاقها، وليس الاستخدام التفجيري لطاقة الجسد، والي مهارات البهلوانات ولاعبي السيرك، ولا (كيريوجرافيا) البالية الإيهامي، وأنها في إجمالها (جمع راقص لإشارات التخاطب اليومي العادي في مدلولها العصري المباشر والأولي -  بعيدا عن الأغراب، ويخلو كثيرا من القدرة علي إعادة الصياغة، فلسنا إذن أمام بالية إيمائي، وإن احتوي العرض علي رقصة بالية، ولسنا أمام مسرح راقص بالمعني الدقيق، وأن مسرحية «اللعبة» إشارة ميمية بسيطة خشنة مغلفة بإطار موسيقي بصيغ الإشارات اليومية في تكوينات جماعيه تلجأ للرقص).
وبعد هذه المقدمة العلمية الجادة يتابع الناقد الأكاديمي العرض الذي يبدأ بشخص يحمل الكرة الأرضية التي تتحرك وتلخص دورة الحياة عبر خطوط راقصة ليأخذنا إلى مساحة الدهشة، ويرتفع رنين التليفون لينبه إلى دورة الحياة (مواعيد غرامية، زواج، حمل وأطفال، ثم الموت) ثم يبدأ في عرض (التفاصيل) – فيبدأ (بتميمة) -  الانتظار، وينتقل إلى لوحة أخري تمثل تمثال (نهضة مصر) الذي يمثل (الفلاحة) وأحدهم (أبو الهول) ثم يدخل طائر غريب يتبول علي التمثل فتخلع الفلاحة أول رداء لها، ويدخل عاشقان يمارسان الحب خلف التمثال، ثم رجل يقتاد كلبا ضخما يتبول أيضا علي التمثال، لتخلع (الفلاحة) أخر قطعه ملابس، وينهار أبو الهول، أي أن هذا ما يحدث مع نهضة مصر، ويتم الانتفال إلى (السياسة) في صورة مباشرة حيث السلطة العسكرية في هيئة الحاكم الذي يبدأ بالخطاب الغليظ الحاد.. بينما (المجموعة) تصفق وتهلل ويظل الحاكم علي هيئته.. إلى أن تخرج له فتاة تمارس معه الجنس ثم تحوله إلى مجرد دمية -  حيث تصدر هي الأوامر.. بما تصيب الموقف بالفوضي حيث تتشكل تنويعات تعليقية مثل الولولة.. ثم تلجأ الصورة إلى المباشرة حيث تظهر أثار فساد الخطاب السياسي للحاكم العسكري مثل (تعاطي المخدرات، العري، الجنس، الفوضى)، وينتقل العرض إلى لوحة (صراع الأجيال) ومحورها الحب والصراع علي الفتيات بين مجموعة رجال كبار السن بلحاهم الكثيفة وبين الشباب.. ينتهي إلى معركة عنيفة بالأيدي، وتتحول المعركة إلى وفاق بين الجميع يتبادلون فيه الجميع القبلات والأحضان المزيفة.. بما يشير إلى هذا الوفاق بين الجميم هو زيف واضح ومخادع، وينتقل العرض إلى ساحة الإعلام حيث يبدأ (المواطن) الضحية بالبحث في الصحف والمجلات بملل شديد،ويدير مؤشر المذياع، ويتكرر الملل، وأخيرا يلجأ إلى التليفزيون، وفي صورة كاريكاتورية يقدم لنا العرض نماذج من الإرسال مثل: الحلقة الأجنبية التي تكررت ومل منها متفرجوها، وعندما يريدون النوم نجد لعب ورق وخمر وفتاة تقتل كل الرجال .. بل تكاد تقتل المتفرج، وينتقل المشهد إلى التخت(العربي)، وأغنية مبتذلة وراقصة، ويدخل المتفرج إلى الكادر ليمارس الجنس معها، ويأكل التخت طعامه – ثم برامج متنوعه وتنويعات علي شقشقة الكلام ولعوة وسلوك المذيعات، ثم ينتقل إلى المسلسل العربي -  ورجل يجلد زوجته - فتقتله وتضعه في أكياس، واعتمادا على صياغة الناقد الأكاديمي (حسام عطا) فيقرر (المخرج) (المرجع السابق) وكما مزج المخرج بين داخل الكادر يكمل مخيلته الفنية حيث يمتزج واقع التمثيل دخل التليفزيون بسلوك المتفرج خارجة -  فالإعلام يحوله إلى كائن وحشي يشارك المجموعة أكل لحوم البشر، ولحم الزوج المقتول في قبره .. ويرتد العرض فجأة إلى التاريخ فيقدم بانوراما للإنسان المصري وهو يمتثل طائعا لكل حكامه في كل المراحل: الفرعوني، الروماني، المسيحي، الإسلامي، والعثماني، والفرنسي، والإنجليزي، ثم ثورة 23 يوليو 52 وعودة الحاكم العسكري (الذي دقمة لنا في لوحة سابقة) أي (العبودية المختارة)، وهو يجسد ما لخصه لتراث التغير الدائم لنظام الحاكم دون تعليق منه- ثم تتجدد  الدعوى إلى الرقص حيث نجد أحدهم يرقص بعلم مصر رقصة غربية لا يجيدها، ومع المحاولات الجادة يبدأ في تقليدها – إنها ثقافة الرقص الغربي – وينتقل  إلى عرض (لتلاشي البراءة) حيث نجد فتاة في مقتبل العمر ترقص في خطوات البالية بردائها الأبيض الفاضح، وفجأة تتحول إلى رقصة شرقية مبتذلة وحسية، ثم يعرض لنا ظهور (حبال الغسيل) - ناشرا عليها الرداء الأبيض الناصع.. ثم يعقب ذلك نشر الكثير من الملابس الداخلية، وأكثرها دلالة على البراءة التي تتلاشي نشر قميص النوم الداخلي الذي يوحي بأنه خاص بتلك الصغيرة التي كانت بريئة، وينتهي العرض باللوحة الأخيرة تحت عنوان (بنحب مصر)، وقد تغيرت تلك اللوحة مرتين ففي العرض الأولي للمسرحية يدخل ممثل ليخلع  القميص الداخلي الأحمر المبتذل ويضع مكانة لوحة لتمثال فرعوني يلتف الجميع حوله مع الموسيقي ذات الطابع الحماسي، ويعود الناقد (د.حسام عطا) ليقول (أنه رغم مباشرة النهاية، وقد استُبدلت ثانية فيتغير الملصق الفرعوني إلى علم مصر) .
وبعيدا عن مشاهد هذا العرض الأخيرة نأتي إلى (المشهد) الذي تسبب في مأساة المسرحي الشاب (منصور محمد) وهو المشهد الذي يمثل جانبا من الكعبة المشرفة  الثلاثي الابعاد بأستارها - حيث يتحرك قطعه ديكور مكتوب عليها شركات بترول عالمية، وتصعد فتاه فوق البراميل التي استقرت  فوق ديكور الكعبة وترقص الفتاة رقصة صاخبة، وتتخلل الرقصة موسيقي طوطية افريقية صاخبة – بينما تطوف المجموعة حول الديكور الثلاثي الاضلاع تؤدي حركة أقرب إلى (الذكر)، وهمهمة تستدعي دعاء (لبيك اللهم لبيك)في طقس حجيج، وكأن الرقصة أصبحت طقسا مكرسا لمال براميل  البترول وتصعد المجموعة فوق المكعب ويرقصون فوقة رقصة طوطمية !! ونشير إلى أن هذا العرض كانت قد قدمته (فرقة مسرح الشباب)، وأستمر عرضة لثلاثين ليلة في مسرح ميامي.. ولكن.. أثار هذا المشهد غضب وثورة عارمة حين صاح أحد أعضاء دولة قطر غاضبا ومستنكرا ومدينا هذه النهائية - مما دفع الوفد السعودي للغضب والانسحاب من حفل الافتتاح، وزاد اللغط والثرثرة وإعلان الأحكام المجانية دفاعا عن شعارات دينية لا علاقة لها بالعرض.
ولنتابع كلمات من شاركوا في صياغة هذا العمل الذي تم وأده في عهده، وعلى ألسنتهم، ونبدأ بكلمة مدير مسرح الشباب المخرج (محمود الألفي) في ذلك التاريخ، وهي أنه يقدم هذا العرض للبحث عن الجديد في مواسمنا المسرحية، وأن عرض «اللعبة» الذي يقدمه لأول مرة في مسرح الدولة، وهو عرض موسيقي حركي راقص يعتمد أساسا على حركة الجسد والتكوينات الجسمانية التي تخدم المشهد المقدم، ويبرز دقة التعبير الحركي وتركيز الانتباه والإحساس الصادق فيصل إلى المشاهدين سريعا،  وأن ذلك العرض الذي يقدمه لفرقة من الهواة هي فرقة (استوديو ممثلي 90) متمنيا استمرار التجربة، وفي هذا السياق يقرر كاتب  سيناريو هذا العرض (مصطفي عبد الحميد) أن العرض تجربة أولي من نوعها علي مسارح الدولة، ويستطيع أن يطلق عليه (مسرح الفوضى المنظمة)، وهو تعبير حركي دون أن يقع في دائرة البانتوميم أو البالية، ويعتمد علي التوافق بين الإيقاع الحركي مع الإيقاع الموسيقي.. (موسيقي : مرسي الحطاب، ديكور : محمود عبد العظيم) ويقرر انه استعار كلمة سيناريو بدلا من التأليف -  من التكنيك السينمائي .. سواء في المونتاج أو تقطيع الصورة وإعادتها على يدي المخرج، ليقدم تنويعات سريعه وعديدة للعبة الحياة بشكل ما، وأنه يقوم بأول تجربة من نوعها بمجموعه من التدريبات التي يقوم عليها (استوديو الممثل)-  والتي قدمتها من قبل فرقة (استوديو الممثل) للهواة  -  صيغة بشكل درامي وإخراجي مسرحي، ويقول (وأيا كانت النتائج فيكفينا شرف المحاولة ) أيا كانت النتائج كعرض ونوعية، وحققنا التوازن النفسي الذي يهدف إليه المسرح - أما المخرج المغامر الراحل ضحية مغامرته الجريئة (منصور محمد) فلنقل (كبش الفداء) فيقول: (أنه يقدم حلم سنوات عديدة وعمل سنوات وجهد ستة شهور متواصلة، لذا يقدم شكره الجزيل لأستاذة كرم مطاوع، والفنان (محمود الألفي) مدير المسرح، و(د.نبيل منيب ) المخرج وأستاذ الإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية – الذين كانوا لهم الفضل بداية من الجذور وانتهاءا بالتبني بالرعاية والتوجيه، ويشكر  (فريق التمثيل) والذي يصل إلى ثمانية عشر (18) ممثلا وممثلة هاويا في البداية والذي تنازل عن أشياء ومتطلبات كثيرة، وأمن برسالته، ثم يتوجه للجمهور بأن الفريق المغامر قد تعب من الكلام، وانهم حاولوا  أن يجدوا (لغة أخرى) لعلها تفيد، ويعلق الناقد الكبير (فؤاد داورة) على هذا العرض قبل اغتياله فيقول (فرأى أن من الصعب تناول عرض مسرحي لا يستخدم الكلمات، ولا يحوي موضوعا واحدا يمكن تلخيصه ومناقشة  مضمونه وأهدافه، ومدى توفيق المخرج والممثلين في تجسديها، ويتحفظ على أن العرض صيغ بشكل درامي لأنه مجموعه من المشاهد المتفرقة التي لا يجمع بينها وحدة من أي نوع، ويرى أن هذا العرض قد سبقته تجارب في مصر (لهناء عبد الفتاح) و(هشام عبد الحميد)، وإن امتاز هذا العرض بجماعية الحركة، ولكن هناك تجاوب كثيرة تمت خارج مصر، وأن المخرج تأثر بعرض «المهرج» للشاعر السوري (حمد الماغوط) ويشير إلى عرض «دماء على ملابس السهرة» إخراج نبيل منيب، إلى تجارب (جوردن كريج)، و(انتونين ارتو)، و(مارتا جراهام)، ومصمم الرقصات (الين نيولاس) في الغرب، وكذلك تجارب السينما الصامتة قبل اختراع الصوت عند (شارلي شابلن)، ويرى أن القسم الثاني في العرض قد حاول التعبير عن فكرة (غالبا ما تكون سياسية) حتى يصل إلى مشهد النهاية بالاستفادة بعلم مصر وسط موسيقي قامت بدور فعال ومناسبة لمختلف المشاهد، وأن هذا العرض خال من الشخصيات المتبلورة وأن البطولة جماعية، وأن ما حققوه مع مخرجهم ما هو إلا خطوة على طريق شاق وطويل وعن طريق تجربة التمثيل إلا بتقمص شخصيات مختلفة وتجسيدها بدراستها نفسيا  وبيئيا، ويتمني أخيرا لهذه التجربة الجادة أن يُتاح لها ولأمثالها كل الظروف التي تسمح لها بالاستمرار.. بما يعود علي حركتنا المسرحية بالنفع الأكيد (مجلة الكواكب في 13/11/1990) وفى هذه الأيام  في محاولة الاقتراب من هذا العرض نقرأ أخيرا تجربة غربية جديدة أشارت إليهما الناقدة (ياسمين عباس) حيث استعرضت (في جريدة «مسرحنا» في 17 يناير 2022  -  للكتاب الصادر عن الهيئة العربية للمسرح – 2022  لرسالة دكتوراه قدمتها (د. فاتن حسين ناجي) بجامعة بغداد – بعنوان (الكابوسية في مسرح ما بعد الحداثة ) علي أساس أنها الشكل الذي يتكون من تلك الأحداث الصغيرة التي قد تحدث نتائج كبيرة غير متوقعة، وهي تلك الاضطرابات التي تحمل معها نسقا ونظاما كاملا غير متوقع -  فهي (علم اللا متوقع) -  كما يصف (إيليا برنتجوي) هذه النظرية، وأنها العمل الذي يظهر على أنه فوضوي  وغير منظم – إلا انه في الحقيقة متطور ومنظم ومنضبط، وليس عشوائيا، بما يجعل منه انتظاما دقيقا ويسير حسب نسق محدد، بعكس ما يبدو عليه.. فالكابوس هو جمال في العشوائية وعلم في التنوع والاختلاف ونظام مغاير للقواعد المتعارف عليها وهو قبل كل شيء (فوضي منظمة).
هذا العرض الموؤود الذي قدم من قبل كعرض تجريبي طموح، وعرض عشرات الليالي على الجمهور، وشاهده كل أهل المسرح صغارا وكبارا في عرض البروفة قبل تقديمها في الافتتاح، وأثار عاصفة من تصفيق الإعجاب لمدة عشر دقائق-  اصبح لعنة علي مبدعيه.
(إن الذي حدث بعد ذلك كان كارثة مسرحية إذ تنكر له المسرحيون والكبار كبار المسئولين، وانكروا أنهم شاهدوا العرض! وتخاذلوا فيما بينهم بل واستنكروه، وتركوا المخرج الشاب ( منصور محمد) ليواجه وحدة مصيرة المؤلم بعد أن تم توجيه تهم الإلحاد والكفر والخروج عن الدين بهذا العرض رغم انهم كانوا يبشرون به كأمل  ومستقبل المسرح المصري .. الواعد وأصبح هذا العرض لعنة علي صانعيه  لأنه تجرأ علي انتقاد وضع إنساني وسياسي لعالمنا العربي -  وبعد أن كان (منصور محمد) الأمل الطموح للتجريب والانطلاق في حياتنا المسرحية فأصبح إنسان منبوذا بعد أن  في ارتكاب ذنب ضد الدين وضد التقاليد العريقة، و(من خلال أصدقاءه  وجيرانه) -  فقد سقط (محمد منصور) في هوة الإحباط واليأس، والتزام (زاوية) صغيرة بالقرب من مسجد قريب من منزلة، ورفض لقاء أي إنسان أراد أن يطمئن عليه أو يطيب خاطرة، ويرون بعضهم أن أهل المسرح قد (انتحروه) أو اغتياله بسبب شعوره أنه أصبح منبوذا من قبيلته -  حين تم اغتيال طموحة كفنان وكإنسان وانتهي أمرة بالرحيل عن دنيانا، ودمه في رقاب من لم يدافع عنه...


عبد الغنى داوود