بيتر بروك وصدى التعاليم الروحانية(1-2)

بيتر بروك  وصدى التعاليم الروحانية(1-2)

العدد 787 صدر بتاريخ 26سبتمبر2022

نتحدث هنا عن بيتر بروك وجوبا  لذكراه. ونرى من الضروري أن يتم تسليط الضوء على أحد الجوانب المهمة في رحلاته التي كان يبحث فيها عن يتابع التعاليم الروحانية، ليغذي بها تجربته الحياتية والمسرحية. فهو الذي كشف في عمله ورؤيته عما هو جوهري في الحياة وعما لا يرى بالعيون المجرد والمخفي وراء الواقع المعاش، وأصبح نبراسا لأجيال من المسرحيين في العالم. سنحاول  ان نبرز جوانب من رحلاته، دون أن نتوقف للتركيز على تفاصيل اعماله كمُحرج عروض مسرحية (وافلام سينمائية وتلفزيونية) فريدة في نوعيتها وخارقة للمعتاد. 
نقطة التحول
كان بروك في فترة  نشره كتاب الفضاء الخالي يعش في حالة صراح داخلي بين البقاء في محيط اضواء المسرح وترفه ولمعان نجومه وبين البحث عن طريق التعاليم الروحانية، قرر ان يفصل بين عمله الفني وحياته ويتبع هو وزوجته نتاشا مجموعة في لندن تمارس تعاليم روحانية تحت إشراف يان هيب وسمع عنها غورديف، ورنت في أذنه جملة «البحث الروحاني الشخصي». كان يعمل في تلك الفترة  مخرجا في مسرح رويال شكسبير. وكان في حالة نفسية قلقة، وعدم ارتياح من مسار طبيعة المسرح التقليدي الانجليزي. كان  مترددا في اختيار العيش والبقاء في لندن أو أن يرحل. وقد نشب نزاع عميق بينه وبين الممثل الاول في المسرح الملكي لورنس أولفيه، خصوصا بعد أن حصل على لقب الفارس. كمنزلة نبيلة، ولم يكن متفقا معه في العديد من المواقف المتعلقة  بالفن و بالعمل سوية.
يتحدث بروك عن هذا الصراع قائلا :» نشب بيني وبين لورنس وليفه، قبل رحيلي إلى اسبانيا واترك كل شيء، نزاع عميق تحول إلى معركة حقيقية ترك أثره على تجربتي السينمائية أثناء عملي على فلم اوبرا المتسول.
بدأ النزاع  في البداية  بتنازلي حول الموضوع، الذي كنت أود العمل عليه منذ فترة من الزمن، برؤية معاصرة فيه مشاهد سيارات ودراجات نارية، لاني كنت اريد، بكل قوتي، الانفلات من عالم المشهد المرسوم والمصبوغ ومن الباروكات، لكن شكسبير وغاردن كوفين ختم على عملي بماركة مسجلة. هكذا كان يجب أن يكون، من بين  مجموعة المشاريع التي كنت أريد طرحها في الوسط المسرحي، موضوعا كلاسكيا ليحث اهتمام منتج ما، وكنت متحمسا لذلك جدا» . (م 2، ص 100)
(...) كان موضوع أوبرا المتسول بالنسبة له عبارة عن عمل عظيم  فيه أناقة وتصنع نموذجي من فترة القرن الثامن عشر (...)  وبما أن أولفيه قد حصل على لقب الفارس، كان يرى العمل عبارة عن لعبة مدنية وانيقة تتوافق مع وتيرة لمنصب الذي اضطلع به والمنزلة النبيلة التي حصل عليها (...) وكان عدم التفاهم بيننا اثناء تحضير العمل وأثناء التصوير يتفاقم أكثر فأكثر.
(...) كان أوليفه يطلب مني بلطف أثناء التصوير السماح له بالنظر في فتحة الكاميرا وبعد صمت قليل ينقر على الكاميرا بإصبعه ويستدير ويقول لي، «هل هذه هي اللقطة التي التي تريدها؟» وبعد جوابي بالتأكيد القاطع، كان يرجع للجلوس في مكانه مُعبّرا بكل جسمه كممثل عن عدم موافقته على ذلك، وكان يوفر بحركاته عن كلامه.  
(...) وفي نهاية المطاف حاول أن يستخدم امتيازات المنتج لكي يفصلني عن العمل، وأن يأخذ مهمة الإخراج. حاولت أن أتصدى لذلك  بطريقة ما، لكن بتلك العلاقة بيننا حطّمنا  الجزء الكبير من الفيلم» . (م 2، ص 103) 
قرر بروك بعد فترة من الزمن وحصوله على نجاحات وشهرة في أوربا وأمريكا أن يترك لندن وأضواء المسرح المؤسساتي ونجوميته الساطعة.
ودع بيتر بروك المسرح الملكي في لندن سنة 1970 بعد أن أخراج آخر عرض، حلم ليلة في منتصف الصيف. ثم توجه نحو البحث عن مشارف عوالم أخرى وقام بتأسيس مركزه العالمي لبحوث المسرحية في باريس (نورد دي نوف) سنة 1971 للعمل مع مجموعة ممثلين، من مختلف الدول والثقافات بعيدا عن النجومية والمشاهير.

الرحلة الأولى
بدأ رحلته الأولى من باريس إلى أفريقيا مع زوجته و30 شخص من مجموعته المسرحية في سنة 1972، ومعه فريق من السينمائيين وصحفية ومصورة فوتوغرافية إنجليزية. ودامت رحلتهم ثلاثة أشهر بحثا عن ينابيع أخرى من المعارف المجهولة. توقفوا في مرروهم بالجزائر ليقدموا فيها عرضا من ارتجالهم قبل الذهاب إلى المنطقة الصحراوية وإلى مالي وصولا إلى النيجر ونيجيريا وعاشوا فيها بتماس مباشر، واحترام، مع الناس في المناطق النائية البعيدة عن مراكز المدن الكبيرة، وتفاعلوا معهم في اللقاء بهدف التحاور والتبادل الثقافي معهم، من خلال الارتجال الفني والتواصل بنفحات ما هو جوهري في الحياة. وتوقفوا، مرة ثانية، في الجزائر بعد رجوعهم من  الرحلة، في سوق مدينة صغيرة تسمى عين صلاح ليقدموا ارتجالات على سجادتهم التي فرشوها كفضاء خالي لكي  تمتلئ بأفعال الممثلين وتفاعلهم المباشر مع ردود افعال الجمهور،و ليقدموا ومشاهد بسيطة بلغة تعبيرية حية وتلقائية ضمن رؤية تحقيق تجاوز حدود الثقافات المختلفة (ترانس كولترال). 
 وقد تحدث بروك عن رحلته إلى افريقيا في مقابلة نشرت في كتابه النقطة المتحولة. 1946 ـ 1987 الذي صدر باللغة الانجليزية، وفي مقابلات أخرى، وأفصح عن بعض تفاصيلها وتفاصيل عملهم ولقائاتهم مع الناس. (م 3، من ص 107 لحد ص 118) 
وتحدث عن ذلك أيضا في كتاب مذكراته قائلا: « ليس كافيا أن نبدأ بلحظة التعرف المتبادل فقط، ينبغي، في كل الأحوال، ان يتمو العرض. من السهل ان نقوم بسلسلة من الشقلبات وهيصة المزاح فقط، فهي صالحة دوما. وقد برزت هنا  امامنا احد الصعوبات الحقيقية. وبحثنا عن تحسين نوعية وعمق ارتجالاتنا، وتوجهنا نحو فضاء غير مألوف، الذي استطعنا أن نلمسه بالكاد أثناء عملنا في المركز (في باريس). هكذا قمنا بتوظيف أغانينا وحركاتنا الشكلية جدا، التي شرعنا بالتفكير بها من خلال استخدامنا عصي الخيزران. كانت وتيرة الطابع الصوتي وتأثير خطوط الأشكال الهندسية للعصي كافية لان تخلق في الجمهور صمتا مدهشا، لكن كانت تلك عبارة عن لحظات منعزلة وكنا نشعر نحن بضرورة استدعاء ثيمة لربطها بها». (م 2، ص 176)
ويظهر أن الارتجال بحد ذاته لم يكن هو الهدف، وكان المسرح لبروك هو عبارة عن مركبة للكشف عما هو جوهري حيوي في العلاقات الانسانية والابحار في ثنايا ما هو غير معتاد، بحثا عن ينابيع حقائق أخرى وقد جعله ذلك أن يصل إلى مشارف عالم لا مرئي شفاف يكمن خلف طيات وشرائح واقع مرئي ملموس.
ويقول في مقدمة كتابه النقطة المتحولة: «لم أومن بحقيقة واحدة فقط أبدا، لا بحقيقتي ولا بحقيقة الاخرين. انني مقتنع أن كل المدارس والنظريات يمكن أن تكون نافعة في مكان ما وفي حقبة زمنية ما. لكنني اكتشفت أنه يمكن للإنسان أن يعيش فقط من خلال التماهى مع وجهة نظر بتوقد ومطلقية. (...) وهناك في داخلي صوت، في نفس الوقت، يهمس لي: لا تأخذ ذلك على محمل الجد كثيرا. امسك بقوة نفسك ودعها أن تذهب بحلاوة.» (م 3 ، ص11)
جند بروك كل همته للتجربة والبحث العملي ليكون ذلك الذي كان: كائن ـ انسان ـ مخرج خارق للعادة كشف عن  غطاء قناعه الشخصي ليتوغل في معرفة امكانيات وحدود قدراته، ويعيش ببساطة وتلقائية. واستطاع أن يربط بين اندفاعاته الداخلية وفعله الظاهر في تعامله مع الأخرين، وفي نشاطه الفني بحدسه ودماثة دقته، لكي يفلت  من شرك القناع الاجتماعي اليومي المعتادة الذي يلبسها الشخص في حياته. ويقول بهذا الصدد: 
«اعتقد أنه قد اصبح من المألوف لدى عامة الناس القول أن جميعنا نحمل قناعا على الدوام، وفي اللحظة التي نعتقد فيها ان تلك هي حقيقة، ونبدأ بطرح الاسئلة بهذا الاتجاه، ندرك أن تعبير الوجه المعتاد، اما يخفي حقيقة ما يحدث في داخل الشخص (لذا يصبح الشخص نفسه قناعا) أما عبارة عن استدراك مزيف على انه يقدم سريرته الداخلية، لكن على ضوء اطراء وجاذبة اكثر مما هو في حقيقته، ليقدم نسخة كاذبة عنه. شخص ضعيف يضطلع بتعبير شخص آخر قوي، والعكس صحيح. ان التعبير المعتاد للوجه هو عبارة عن قناع، بمعنى، اما هو طريقة ليخفي بها الشخص نفسه او هو كذب، لا ينسجم (هارمونيا) مع ما في داخله. إذن، إن كان وجهنا يقوم بوظيفة القناع .بهذه الطريقة، فما هو الهدف من وضع قناع آخر؟ «( م 3 ، ص 195) 
وكان يصبوا هكذا إلى إزالة تراكمات معمعة الحياة المعاصرة، وبلوغ البساطية والاختزال في رؤيته وفي فضاء مشهده المسرحي حتى قبل رحلته إلى افريقيا بثلاثة سنوات. وظهر ذلك في كتابه الفضاء الخالي ( الذي صدر في سنة 1968 باللغة الانجليزية ، في نفس الوقت الذي صدر فيه بنفس اللغة كتاب المسرح الفقير لغروتوفسكي,).
من العجب أن نرى اليوم بعض انصار المسرح المميت وهم يتحدثون عن خواء مشاهد عروض بيتر بروك وعدم وجود ما يبهر. وقد قال لي أحد المخرجين العرب بعد أن شاهد أحد عروض بروك في باريس : « لا يوجد شيء مثير في عروضه ولا ترى سينوغرافيا مبهرة في مشاهده».
من الواضح أن هناك من لا يرى في عروض بروك شفافية النبضات التي تكمن خلف المرئي ولا يحس بنوعية الطاقة المنبثقة من الفضاء الخالي (مثلما هناك من لا يرى نفعا في طاقة الفضاء الفراغ  في تعاليم زين اليابانية).
إن بلوغ البساطة ليس سهلا، هو عبارة عن عملية التخلي عن الافراط وتدرجاته وبلوغ نوعية من الاختزال في الرؤية. وقد بلغ بروك مستوى نوعية من الاختزال وتدرجاته الشبيهة بنوعية تلوين الاختزال في لوحات بيكاسو.
وتحدثت لي صديقة إيطالية ممثلة معروفة في ذلك المسرح التقليدي الذي يسمى «بالواقعية» بعد مشاهدة مسرحية مهابهاراتا في مدينة براتو الايطالية في سنة 1985، قائلة: «إن ممثلين بروك، خصوصا الافارقة منهم ( وكانت تعني الممثل الافريقي ممادو ديموي بدور ببيما وسوتكوي كوياتي بدور بيشما)  لا يحسنون تلفظ مفردات اللغة الفرنسية، ويتلعثمون في إلقاء الجُمل». 
وتجاهلت بحوث وتجارب بروك في أفريقيا وتناست التحولات الأنثروبولوجية التي حصلت في اوربا، وحضور الافارقة (والعرب) في واقع ضواحي المدن وامااكن العمل وفي المترو، ممن يتلفظ كلام لغة القاطنين بموسيقية وطبقة صوتية متميزة، من دون أن يفقدوا حيوية التماس مع الآخرين من خلال افعالهم التي تنبض بالحياة.
ويذكر بروك في حديثه عن نوعية الاتصال والتماس الحيوي بين الاشخاص، بغض النظر عن  الاختلاف الثقافي والعلامات المشفرة فيها، مشيرا إلى تجربته في رحلته إلى أفريقيا، قائلا: 
«في كل مرة كنّا نلتقي فيها مع الأنثربولوجيين، بهذه المناسبة، لم نكن متفقين معهم اطلاقا. كانوا يزعمون أن كل إيماءة أو ممارسة تقاليدي أو كل شكل هو تعبير عن ثقافة ما، وهو عبارة عن علامات مشفرة تنتمي حصريا لتلك الثقافة. كنّا نحاججهم حول ذلك، لأن المسرح يبين لنا العكس من ذلك. وكانت تجربتنا اليومية ( في أفريقيا) تؤكد على أنه يمكن أن يكون هناك تقبيل بالشفاه أو بلمس الأنوف، ويكون متجذرا في البيئة وله ما يبرره فيها، لكن المهم في ذلك هو وجود الحنان الذي يتم التعبير عنه.» (م 2، .ص 177)

المصدر
بروك، بيتر، الفضاء الخالي، دار نشر بولزوني، روما 1998
.. خيوط الزمن، ترجمة إيطالية من النسخة الأولى التي صدرت باللغة الإنجليزية)
... النقطة المتحولة (ترجمة إيطالية من النسخة الأولى التي صدرت باللغة الإنجليزية)
بياتلي، قاسم، ذاكرة الجسد في التراث الشرقي الإسلامي، الرقص والطقوس والعرض الفني، م، دار الكنوز، بيروت 2006، ص 141 
درقي، احمد محمد، الطريقة النقشبندية،؟ ، 
جيلاني، عبدالقادر، سر الأسرار ومظهر الأنوار، اوتافو، ميلانو 1992
غوردييف، غورغيس، لقاءات مع رجال خارقين للعادة، (ترجمة إيطالية)، اولفي، ميلانو 1985
غروتوفسكي، يرزي، من أجل مسرح فقير، بولزوني، روما 1970
رفائيل لا فورت «معلمو غوردييف»، ميدتراني ، روما 1991، ص 108-109
10 ـ فيلم «لقاء مع رجال خارقين للعادة»، إخراج بيتر بروك و مدام دي سالسمان. إنتاج  ستوارت لاينس ريمر، الولايات المتحدة الأمريكية 1979. مدة العرض 107 دقيقة.
شارك فيه مريدي غوردييف الذين لا يزالون يمارسون تعاليمه في «معهد الإنماء الهارموني للإنسان» في فرنسا. وقد اطلعنا على الفيلم من خلال تسجيل فيديو، حصلنا عليه من بعض الباحثين في إيطاليا. 


قاسم بياتلي -فلورنس